د. منار الشوربجي
موجة جديدة من التحولات الدولية
العالم يموج بتحولات متسارعة يصعب التقاط مغزاها، ولكن الفارق الحادث اليوم بين حظوظ حزب العمال البريطاني والحزب الديمقراطي الأميركي قد يساعد على فهم بعضها وما إذا كانت ستشكل موجة عالمية جديدة. فبينما حقق حزب العمال البريطاني نجاحاً ملحوظاً في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، مني الحزب الديمقراطي الأميركي بالهزيمة بعد الأخرى في انتخابات شتى.
وفي الوقت الذي تزداد فيه شعبية جيرمي كوربين، البريطاني، تنخفض بشدة شعبية الديمقراطيين الأميركيين بلا استثناء.
لكن كلا الحزبين يمثل تيار اليسار في بلديهما ولا يزال كلاهما في مقاعد الأقلية فيها.
ففي بريطانيا، اعتبرت تريزا ماي، حين دعت للانتخابات البرلمانية الأخيرة أن العلاقة بأوروبا ستكون محور الحملة الانتخابية، فترفع من عدد مقاعد حزبها بالبرلمان، ما يدعم موقفها في مفاوضات البريكسيت، إذا بالناخبين يعاقبون حزبها بسبب سياساته التقشفية.
وقد حرم ذلك الناخب حزب المحافظين ليس فقط من الأغلبية الكاسحة التي كانت تسعى لها تريزا ماي وإنما حتى من الأغلبية المطلقة التي تمكن حزبها من تشكيل الحكومة وحده. ورغم أن حزب العمال حقق إنجازاً ضخماً بزيادة عدد مقاعده وبالتالي صار قوة معارضة لا يستهان بها، إلا أن الناخب البريطاني لم يكن، على ما يبدو، مستعداً، هذه المرة على الأقل، لمنح حزب العمال الأغلبية.
غير أن الأسابيع القليلة التالية لتلك الانتخابات شهدت واقعتين لهما دلالة مهمة في السياق نفسه. أولاهما أن المحكمة العليا البريطانية أصدرت حكماً بشأن سياسات التقشف ذاتها. فقد اعتبرت المحكمة أن سياسة حزب المحافظين التي تقضي بوضع سقف على المزايا التي يتلقاها المستفيد من برنامج الرفاهية الاجتماعية غير قانوني لأنه «يخلق مآسٍ دون أن يحقق شيئاً يذكر».
ورغم أن ردود فعل زعامات حزب المحافظين لم تدل على أن الحزب التقط الرسالة، إلا أن موقف المحكمة يمثل في ذاته مؤشراً يدل على طبيعة المزاج العام في بريطانيا بخصوص سياسات التقشف.
وليس أدل على ذلك المزاج العام من ذلك الاستطلاع الأخير للرأي العام الذي ثبت فيه أن جيرمي كوربين صارت شعبيته، لأول مرة، تفوق شعبية تريزا ماي. وما كشف عنه ذلك الاستطلاع يمثل تحولاً بالغ الدلالة. فحين دعت تريزا ماي للانتخابات في مايو الماضي كان حزبها يفوق حزب العمال بما يزيد على عشرين نقطة.
كل تلك التحولات على الساحة البريطانية تحتاج للمزيد من الدراسة والتأمل إلا أنها على ما يبدو مرتبطة ببرنامج حزب العمال الذي تم الإعلان عنه عشية الانتخابات الذي كان جريئاً في تبنيه سياسات تخدم الطبقة العاملة والمتوسطة من حماية البرامج الاجتماعية إلى التخلي عن سياسات التقشف التي يتبناها حزب المحافظين.
أما الحزب الديمقراطي الأميركي، فوضعه بائس بالمقارنة بحزب العمال وبالنظر إلى التفاعلات على الساحة الأميركية التي تمثل، نظرياً، لحظة مواتية لصعود الديمقراطيين. فحزب الرئيس الأميركي عادة ما يكون في وضع أضعف حين تنخفض شعبية الرئيس نفسه أو تحيطه علامات استفهام، أو حين يفشل الحزب في تحقيق ما تعهد به للناخبين. ورغم أن كل ما سبق صحيحاً في حالة حزب ترامب، الحزب الجمهوري، إلا أن الحزب الديمقراطي في حالة أسوأ بكثير من حالة الجمهوريين. فشعبية ترامب في أدنى مستوياتها، وتحيط به وبالمقربين منه تحقيقات رسمية، ولم ينجح في تمرير أي بند من بنود أجندته التشريعية حتى الآن.
ومع ذلك، انهزم الحزب الديمقراطي في انتخابات عدة كان آخرها المعركة على مقعد لمجلس النواب بولاية جورجيا، كانت الأعلى تكلفة في تاريخ انتخابات مجلس النواب. وتثبت استطلاعات الرأي أن برني ساندرز، مرشح الرئاسة العام الماضي الذي لم ينتم يوماً للحزب الديمقراطي هو السياسي الأكثر شعبية في أميركا عموماً بما يفوق كل رموز الحزب الديمقراطي بمن في ذلك هيلاري كلينتون وزعماء الحزب في الكونغرس بمجلسيه.
والسبب في تقديري هو فشل الحزب الديمقراطي الأميركي في إحداث التحول الذي أقدم عليه جيرمي كوربين في بريطانيا.
ففي تسعينيات القرن الماضي، كان تيار اليمين الديمقراطي بزعامة بيل كلينتون، وتيار اليمين بحزب العمال بزعامة توني بلير، يقودان حزبيهما وفق سياسات النيوليبرالية التي مثلت تراجعاً عن مكتسبات دولة الرفاهية التي تخدم الطبقتين العمالية والوسطى. وقد تزامن ذلك مع العولمة التي أثرت بشدة على وظائف تلك القطاعات سواء عبر التحولات التكنولوجية الهائلة أو التجارة الحرة، فانهارت أحوالها المعيشية.
وحين تخلى الحزبان عن تلك القطاعات، فإنها صارت نهباً للشعبوية اليمينية التي اجتذبتها على أسس ثقافية وعرقية بالبريكسيت في بريطانيا والوقوف ضد الهجرة والأجانب في أميركا. ومفارقات القدر وحدها هي ربما التي جعلت آل كلينتون على قمة الساحة الأميركية العام الماضي، بينما تصدر كوربين المشهد في بريطانيا.
المؤشرات الراهنة تدعم هذا التحليل. لكن يظل الأمر مفتوحاً لمزيد من المؤشرات والتأملات بخصوص وجهة التحولات العالمية التي ستكشف عنها انتخابات في دول عدة من ألمانيا وبريطانيا للولايات المتحدة.
727 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع