المعلوم والمكتوم في سيرة المرحوم عبد الكريم قاسم

                                          

                         ضرغام الدباغ

المعلوم والمكتوم في سيرة المرحوم عبد الكريم قاسم

نيف ونصف قرن أنقضت على رحيل الفريق الركن عبد الكريم قاسم، رئيس الوزراء ووزير الدفاع (مواليد: 2 /12 / 1914 ــ وفاة: 9 / 2 / 1963)، وقد توفي أغلب معاصروه، ويكاد الجيل الذي عاش زمن الزعيم أن يرحل. كتب عن هذا القائد الكثير من الكتب، ومن المقالات أكثر، وقصائد وأغاني وأشعار، وحيكت الكثير من الأساطير، إن الحقيقية منها أو تلك المبالغ بها. والمبالغة وأحكام الهوى، سمة شرقية قلما يفلت بها منها كاتب، أو باحث، وحتى المفكرين (أو ممن يطلقون على أنفسهم مفكرين، ومعظمهم جزافاً)، الذين يخلطون في أقصى الحالات مبالغتهم بشئ من الموضوعية لتصبح فبركة أعمالهم خلطة ذات طعم مستساغ ومقبول. وفي بلداننا تطلق الألقاب، ويا للعجب حتى العلمية والأكاديمية منها بسخاء، هكذا ربما من قبيل المجاملة والأستحسان والاستلطاف والتباهي، فيقال عن فلان مؤرخاً، هكذا من بيوتهم، والآخر مفكراُ، بل وحتى أستراتيجياً، وفي أوربا، وتطلق في بلداننا كلمة الأستاذ (بروفسور) للتقدير واحترام وليس للاستخدام العلمي، في حين أنها مرتبة تعليم جامعية متقدمة  ..! في أوربا هناك مؤرخون مجازون، يختصون بحياة شخصية معينة، أو في حقل معين، وفي بلداننا، هناك الكثيرون، نعرف بعضهم، ممن منحوا أنفسهم تخصصاً في التاريخ، معتقداً أنه إذا تناول سيرة معينة صار مؤرخاً، لا يحملون الشهادات التي يدعونها، وقد انتشرت الجامعات والكليات الغير معترف بشهاداتها. فيما يعاقب بشدة في أوربا من يحمل لقباً علمياً مزوراً، أو شهادة غير معترف بها تقوده إلى المحاكم، وربما إلى السجون.

اليوم، صار بمقدور الناس (معظمهم) أن يتحدثوا عن نوري السعيد (الباشا) بموضوعية، فقد تلاشت العصبية (تقريباً)، وتداخلت المفاهيم، فمن كان بالأمس نعتبره رجعياً، اليوم صار واقعياً، ولم يعد من يلتقي بالأجانب ويتعامل معهم بحميمية يخجل من فعلته، ولا يسمى جاسوساً، أو متعاوناً، (علمياً وقانونياً من يتعاون مع العدو يعد أسوء من الجاسوس)، بل بالعكس صارت الوطنية والقومية بدرجة ما مشكلة، وتهمة قد تقذف به إلى الاجتثاث والتهميش وربما قطع الرقاب، أو الأرزاق في أبسط الأحوال. وممن أبرز من أستعصي أمرهم على المفكرين والمؤرخين والفلاسفة والمنظرين: الزعيم عبد الكريم قاسم ..! واليوم وبعد أن مضت كل هذه العقود من السنوات، (14 / تموز / 1958 ـ 8 / شباط / 1963) أليس بوسعنا أن نتحدث عن الزعيم ونقيم شخصه ومرحلته بموضوعية...؟

كان عبد الكريم قاسم قد التحق إلى الكلية العسكرية في تشرين الأول /عام 1932 ــ ربما في الدورة الخامسة،  ليتخرج بعد عشرين شهراً برتبة ملازم. هل كان عبد الكريم قاسم ضابطاً كفوءاً وناجحاً في الجيش (بمقايس زمنه) ..؟ نعم وهذا مسجل في الوثائق الحكومية ...(وربما هي الحقيقة الوحيدة الموثوقة عنه)، ووصفه لي شخصياً أقرب مقربيه من أصدقائه الخلص قائلاً : كرومي (هكذا كان يطلق عليه من فرط محبته له)  لا تحلو الجلسات والسمر بدونه، كان إنساناً رائعاً، وضابطاً ممتازاً، ولكنه لا يستطيع أن يحكم بلداً إطلاقاً. وهو نفسه كان غاية ما يتمناه أن يكون يوماً قائداً لفرقة من الفرق الثلاث في الجيش يومئذ، أو معاوناً لرئيس أركان الجيش(كان العميد الركن قاسم على وشك الترقية لرتبة لواء، ولابد من إيجاد وظيفة له تلي منصب آمر لواء)، ولكنه تغير كثيراً فيما بعد، أرتكب الكثير من الأخطاء القاتلة، بل هو راح أخيراً ضحية لها. ألم يكن من الأفضل له لو تواصلت خدمته في الجيش ليصبح قائد فرقة (وهو أمر لم يكن بالهين في تقاليد الجيش)، أو معاوناً لرئيس أركان الجيش، وهذا كان حلماً من الأحلام، لمسيرة أي ضابط محترف مهما بلغت درجة كفاءته. والجيش العراقي كان يزخر بالضباط الأكفاء خريجي المعاهد الأجنبية الراقية، ألم يكن ذلك أصلحاً له شخصياً ولأسرته وللجيش والعراق ...؟ وخلال حكمه خسر حتى معظم أصدقائه، إذ عمد إلى طرد الكثير من رفاق النضال والسلاح من الجيش، وقذف بالعديد منهم في السجون وساقهم إلى ميادين الإعدام لمخالفتهم رأيه. ولم يبقى معه، سوى المتورطين بمفردات عهده، فاعتزاله كان صعباً، والبقاء معه أصعب، إذ كان خلال فترة حكمه قد أنقلب إلى عاشق سلطة وسلطان ولترتفع شعارات رسمية " ماكو زعيم إلا كريم "، كسياسة رسمية للبلاد، وكقاعدة للحكم، لم يكن يرتضيها حتى أقرب المقربين له: وصفي طاهر، فاضل المهداوي، ماجد محمد أمين.

الزعيم عبد الكريم قاسم كان نزيهاً هذه حقيقة ثابتة، ولكن كل قادة العراق في الحكم الوطني حتى عام 2003 كانوا يتمتعون بالنزاهة، والعكس كان استثناء، وجيلنا ممن تعامل في السياسة نعلم كم كان هؤلاء الناس يتمتعون بنزاهة لا تشوبها شائبة رحمهم الله جميعاً، ولا علاقة البتة بتعاطفنا السياسي مع هذا أو ذاك، فقد كنا في المعارضة، كما في عهد الزعيم الأوحد (وهذا كان لقبه الرسمي)عبد الكريم قاسم، وكذلك في عهد الرئيس عبد السلام عارف، والرئيس عبد الرحمن عارف، ومن بعدهم الرئيس أحمد حسن البكر والرئيس صدام حسين. ولدينا شواهد وأدلة مادية على النزاهة المطلقة لنوري السعيد، وفقر حال العائلة المالكة، وقد شاهدت بعيني الفريق طاهر يحي يوماً في صيف بغداد اللاهب يركب باص المصلحة، رغم تقدم سنه واعتلال صحته، وكانت أسره الرئيس عبد السلام عارف تعيش في بيت مهلهل (حتى أبان حكمه)، كما أني شاهد شخصي على ضعف حال شديد كان يرزح تحته الرئيس عبد الرحمن عارف.

الزعيم قاسم لم يكن طائفياً، ولا يستطيع ضابط في الجيش العراقي الوطني أن يكون طائفياً، فهذا مخالفة للمنطق والتربية العسكرية، والروح الوطنية والقومية. فالطائفية في الجيش في الجيش بخاصة، شذوذ وتتناقض بصفة مطلقة مع دستور الجيش وروحه وكيانه الوطني الموحد. في جيش صار فيه الأكراد والتركمان واليزيديين والصابئة والمسيحيين وكافة المكونات العراقية ضباطاً وقادة قاتلوا من أجل العراق ومصالحه الدائمية. ولذلك كانت الدائرة المحيطة به من جميع الاتجاهات، يجمع بينها الإخلاص الشخصي للزعيم، فاللواء الركن أحمد صالح العبدي كان قومي التوجه، وكذلك اللواء الركن إسماعيل العارف، والعميد عبد الكريم الجدة، وسكرتيره الشخصي العقيد جاسم العزاوي، كما كان البعض الآخر: العميد وصفي طاهر، العميد فاضل المهداوي، العميد الركن طيار جلال ألأوقاتي يحسبون على التيار اليساري، دون أن يكونوا حزبيين. جمعتهم وعبد الكريم قاسم الصداقة، والوطنية العامة، ومشاعر الولاء والانضباط العسكري.

ومن الكثير مما خفي عن حياة الزعيم عبد الكريم قاسم، بدرجة رئيسية، هو حقيقة أتجاهاته السياسية والآيديولوجية، فلا يعني الكثير (سياسياً) أن يكون قريباً للعقيد الطيار محمد علي جواد، أحد أعوان بكر صدقي، (وبكر صدقي هو الآخر لغز عراقي)، أو صديقاً لفلان (صاحب بار ومطعم)، وبتقديري لو خيرنا أن نضع عبد الكريم قاسم بين الاتجاه القومي أو اليساري أو الديمقراطي، لوضعنا عبد الكريم في الاتجاه القومي، هو لم يكن يضره أن يصبح قائداً قومياً بشرط أن تكون الزعامة له، ولكنه لم يكن ليقبل أن يكون شيئاً آخر حتى لو منح الزعامة بل هو رفضها حقاً وفعلاً ...! فهو يريد أن يكون زعيماً أوحداً فحسب، مهما كانت الترتيبات الأخرى، يسارياً كان أو ديمقراطياً، أو قومياً، والأفضل وطنياً لأن هذه لا ينازعه عليها أحد، فهو يطرح نفسه الأوحد، بدون أي أفق سياسي أو آيديولوجي.

والزعيم قاسم لم يكن مثقفاً، هو كان ضابطاً فحسب، و(على كثرة خطاباته وأحاديثه، وكانت ضعيفة وعديمة الفحوى والمحتوى) لم يسمع عنه أن تفوه ببيت واحد من الشعر، أو بقاعدة قانونية، أو بمعطى ثقافي معين حتى في العموميات. نعم كان وطنياً دون ريب، وهذه لا نضع عليها أي من المؤشرات، وربما حاول أن يستغل التناقضات في السياسة الدولية، (وهذه كانت لعبة سائدة تقريباً في عصر الحرب الباردة) وأراد أن يلعب أحياناً في الشؤون الدولية، وربما أخطأ هنا وأصاب هناك، فلعبة السياسة الدولية معقدة وصعبة، ولكنه لم يغادر الخندق الوطني حقاً، والقوى الدولية ذكية وتتمتع بمخزون كبير من الخبرات والأمكانات الواسعة جداً، أين منها قدرات الدولة العراقية وفي عهد الزعيم قاسم.

وحتى هذه القدرات العراقية(المتواضعة) الحكومية والشعبية، كانت غير معبأة بصورة تامة، بسبب الأنشقاقات التي هو شخصياً المسؤول الأكبر عنها، كانت بقيادة شخصية مطلقة، نقول مطلقة، بأمرة ضابط أقصى ما بلغه (نظامياً) هو منصب أمر لواء المشاة التاسع عشر بعمر 43 يوم أستلم السلطة. بقدرات سياسية / ثقافية بسيطة، ولكن يسجل له موقفه الوطني (رغم بساطة طروحاته خلال المفاوضات وقد قرأتها شخصياً بعمق) في محادثات العراق مع شركات النفط، تلك المحادثات التي تمخض عنها القانون الوطني رقم 80 بتأسيس شركة النفط العراقية، فكم كان الزعيم يمثل الموقف الوطني النظيف الخالص رغم بساطته، ولكن أين ذلك من خبرة وألاعيب ثعالب شركات النفط الدولية ... ! في عراق لم يكن (في عهده) نظاماً قومياً تاماً، ولا شيوعياً، لا اشتراكياً ولا رأسمالياً، العراق كان كما أسبانيا في عهد فرانكو... عراق الزعيم الأوحد كان يحكم  بهذه الطريقة فحسب لا أكثر ولا أقل، وفعلاً كان هتاف مشهور في تلك الأيام  " جمهوريتك يا زعيم مستحيل تصير أقليم ".

من المؤكد أن عبد الكريم قاسم كان قد قصد لندن للعلاج، ومكث هناك أكثر من ثمانية شهور، ويتردد أنه أجرى جراحة لشفته العليا (شق في الشفة) وربما كانت هذه تزعجه، ولكن هذه لا تحتاج إلا لعملية بسيطة جداً بوقت قصير وبعملية صغرى تجرى في العيادات. ولكن هناك تضارب كبير في المعلومات عن مرضه وعلاجه وأين مكث هذه المدة الطويلة وحاجته لنفقات إضافية كبيرة (500 دينار) وهي ذلك اليوم مبلغ كبير، ومع العلم أن الحصول على إجازات للضباط ليست بالأمر السهل. ومن المؤكد أنه درس الأركان العسكرية في العراق، وتخرج الأول على دورته (الدورة السابعة)، وهناك بعض المصادر تذكر أنه درس في مدرسة الضباط الأقدمين(وهي الأرجح) في بريطانيا تشيرلس (Charles) أمدها ثلاثة أشهر، بينما لا تذكر مصادر أخرى هذه المعلومة.  

والحياة الشخصية للقادة العسكريون، وكذلك القادة السياسيون، توضع تحت المجهر، ذلك لأنهم يتصرفون بأرواح الناس، فلا حياة شخصية للقادة، وقد قرأت مرة أكتشاف إصابة أحد قادة الجيوش بالسرطان، فاعتبر تعين قائد جيش يعرف أنه سيموت قريباً، وبيده مصائر وحياة عشرات الألوف من الجنود،  مثلبة كبيرة،. كما قرأت مرة أن قائداً عبقرياً عزل بعد أن اكتشفت له ميول جنسية شاذة، كما لا ينبغي أن يكون القائد سياسياً كان أم عسكرياً، أو حتى في المراتب الإدارية المهمة ممن يتعاطى الخمور، أو ما يعيق عمله ونشاطه، أو ما يشكل ثغرة في سلوكه. وهناك تصرفات غريبة تنبئ عن شخصية غير واضحة، وعدم الوضوح حيثما تكون مشكلة يجب كشفها.

 لقد فرغت تواً من ترجمة بحث عن حياة السياسي الألماني(Otto von Bismarck) أوتو فون بسمارك (1 / أبريل/  1815ـــ 30  / يوليو/  1898 ) وما تزال حتى الآن توضع الكتب والبحوث عن حياتهم الشخصية، وهنا باحث أمريكي كبير، جوناثان شتاينبرغ (Jonathan Steinberg) يبحث عن تفاصيل في طبيعة شخصية بسمارك، والأمر لا يتعلق بالطبع مدح أو قدح هذا القائد أو ذاك بقدر ما تستفيد الأجيال والمدرسة السياسية مما أكتنف الأحداث والتاريخ السياسي للبلاد من تصرفات القادة، وتأثيرها على مسار التاريخ والأحداث اللاحقة. لماذا مكث بسمارك، بل كيف استطاع أن يمكث في السلطة ثلاثون عاماً ....! أريد القول بهذا أن حياة القادة السياسيين والعسكريين وقادة الرأي وسيرهم الذاتية، لابد أن تكون على جانب كبير من النزاهة الشخصية والعملية والسياسية.

ما هي المعلومات المتاحة لمؤرخ (حقيقي)، يبحث في ببلوغرافيا (Bibliographie) قائد كبير، وأتحدث هنا لجهة معطيات علم النفس والاجتماع، وليس من منطلقات وغايات كيدية أو معلومات فضائحية، عن علاقاته الخاصة، والشخصية، ما هي الأسباب الحقيقية عن عدم زواجه ..؟ هل كانت له علاقات غرامية مثلاً ..؟ هل كتب يوماً رسالة عاطفية لسيدة ..؟ واليوم نعتقد وفق معطيات علمية، إنها مشكلة أن لا تكون لأي رجل علاقات عاطفية طيلة حياته ..! ماذا كان يفعل الزعيم في أوقات فراغه، ما هي هواياته، هل كان يقرأ، وماذا يقرأ، أي متحف زار طيلة حياته، بأي رسام كان معجب، لمن يفضل من الأدباء والكتاب ..؟ هل شاهد يوماً مسرحية، أما أن يحب المؤرخ أو يكره هذا القائد، أو ذاك  فهذه مسألة لا ينبغي أن توضع في ميزان البحث الموضوعي النزيه .

ومن المؤكد أن شخصية عبد الكريم قاسم (بكافة خصائصها) كانت مؤثرة جداً، بل بدرجة خطيرة على التاريخ العراقي وما تزال مؤثرة سواء شعر بها المواطن العراقي أم لم يشعر. ولا يدرك الناس غالباً مقدار التأثير العميق للظواهر والأحداث، فالعائلة المالكة جرى عليها ما يشمئز منه التاريخ وحتى في أخلاق الرعاع والهمج، وهي للأسف لوثة في تاريخنا الوطني، لوثة أحدثت (بتقديري) تأثيراً سلبياً عميقاً في وجدان الناس عامة، تعاني منها أجيال لم تعاصر النظام الملكي، أليست هذه جزء من مسؤولية قاسم ..؟ وبهذا المعنى أيضاً أحداث الموصل بعد ثورة الشواف والإفراط في القتل والإعدام الذي ذهب إلى تصفية رموز وطنية وعسكرية دون جريرة، إلا لأنهم لم يسايروه في نهجه الدموي التصفوي الإنشقاقي، تدمير دولة القانون والدستور بدأ في مطلع عهده وعلى يده .. وهذه حقيقة تاريخية ليس بوسع أحد نكرانها. وصفها لي ضابط من قادة الضباط الأحرار أن توقيع عبد الكريم قاسم على تنفيذ الإعدام بالعميد الركن ناظم الطبقجلي والعقيد رفعت حاج سري وضباط وطنيون آخرون يوم الأحد المصادف  20 / أيلول / 1959، كان بمثابة التوقيع على قرار إعدامه شخصياً، لأنها قضية مخالفة للقانون، وإعدامهم يعد قتلاً مع سبق الإصرار واغتيالاً بأمتياز .. ويخيل لي من خلال معلومات تلقيتها من عناصر كانت قريبة من الزعيم عبد الكريم قاسم، أنه هو شخصياً شعر أيضاً بفداحة خطأ ما فعل ...

واليوم لنقيم الأمور وفق القواعد المادية، لا بالاستخارات العقائدية والدوغماتية. بل من خلال الحقائق المادية أن:

•الزعيم عبد الكريم قاسم أبعد كافة الضباط الأحرار، من معه أو لم يكن معه.
•ثورة تموز أنهىت نظاماً ملكياً دستورياً، وحال دون قيام نظام الثورة المتمثل بمنظمة وطنية أسمها „اللجنة العليا للضباط الأحرار" ولم تقم مؤسسات دستورية بدل النظام الذي أزيل.
•أبعد شريكه في الثورة بل منفذ الثورة (عبد السلام عارف). وخلق معسكرين للأستقطاب السياسي في البلاد كانا حتى الأمس القريب حلفاء (جبهة الاتحاد الوطني)، وكل هذا لمصلحته الشخصية البحتة ليقيم مؤسسة غير دستورية (الزهيم الأوحد) ولا تحمل ملامح الشرعية الدستورية الو الوطنية، لا معنى لها سوى: الزعيم الأوحد.
•أحال على التقاعد كافة ضباط الجيش من هم أقدم منه ...!
•كان له دوره في إنهاء جبهة الاتحاد الوطني، إذ أقال وزرائها أو دفعهم للأستقالة، هل هذه مأثرة تحسب له ..؟
•ألم يعمل ويشجع على شق الحزب الوطني الديمقراطي  ...؟
•ألم يعمل ويشجع على شق الحزب الشيوعي العراقي ...؟
•ألم يلعب على التناقضات الكردية، ثم أنقلب عليهم ..؟
•ألم يوفر الظروف المادية والموضوعية لمجازر الموصل وكركوك وأعمال
•قتل وسحل في محافظات أخرى مفتتحاً بذلك عهد لم يكن العراق (حتذاك الوقت) يعرف القتل والسحل والإعدام ..!
•ألم يؤسس لأكبر مهزلة في تاريخ العراق بما عرف بمحكمة الشعب ..! فيها الردح والمدح والقدح، والهز والرقص، وقذف الحبال وحفلات شتائم بعضها بذيئة تترفع عنها أوطأ الحانات الرديئة ..!
•ألم يفسح المجال للشيوعيين (ليس من أجل قناعات أو توجهات سياسية، بل من أجل أن يصارع بهم القوميين)، ثم بدأ ينكل بهم .. أي أستخدمهم ثم عمد إلى تصفيتهم .. بعد أن صاروا عبئاً عليه .. وصار يتخوف منهم ..

 هل في هذه الحقائق المادية المجردة خلاف .. الزعيم عبد الكريم قاسم تخندق في معسكر ليس له مصلحة فيه سوى أنه لا يريد الوحدة العربية لكي لا يضيع ملكاً جادت به السماء عليه كمن شاهد ليلة القدر ... الزعيم عبد الكريم قاسم لعب على الشعارات والتناقضات، وديدنه وسياسته المفضلة خلق الإنشقاقات والتمزقات، على أمل أن يكون هو القاسم المشترك الأعظم بينها، فإذا به يتحول إلى مقسم الأحزاب ومفرق الجماعات .. أراد أن يلعب لعبة ربما نصحه بها أحدهم، وإذا باللعبة أكبر منه فاستهلكته وطحنته ولفته بدوائرها ودواماتها، فيغض النظر عن مظاهرات تجوب الشوارع وهي تحمل الحبال، وتهدد بالسحل، (ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة) و (أعدم .. أعدم .. لا تكول ما عندي وكت) .. وتنشد (فضيق الحبل وأشدد من خناقهم  فلربما كان في إرخاؤه ضرر) ... وكل هذا يسجل عليه وعلى الأفراد والحركات ممن تخنق معهم أو هم تخندقوا معه ..!

نعم هو لم يسرق وكان نزيها، ولكن هذه لوحدها لا تكفي لتبرئة ساحته،  من مضاعفات ثورة تموز وهزاتها، وعرس الدم العراقي الذي رافق عهده وفيها تعرف العراق على الديكتاتورية والطغيان وما يتبعها ويلحقها من ظواهر وملامح، فالعراق لم يكن يعرف أي شيئ سوى سلطة الزعيم الأوحد وكانت هذه السلطة  فوق السلطات والقوانين.

أعترف بأني لم أستطع أن أفهم، رغم محاولاتي الحثيثة والجادة، مع اللجوء إلى التحليل المادي التاريخي، لماذا يقرر حزب أشتراكي عقائدي تقرر قيادته النزول إلى الشوارع ومقارعة الجيش والقتال دفاعاً عن نظام متهالك، لا رصيد له، ولا مؤسسات ولا دولة، نظام وصف سلام عادل السكرتير العام للحزب الزعيم عبد الكريم قاسم " انه طاغية قاد العراق الى طريق الهلاك؟ ". ثم لماذا يقاتل هذا الحزب ثلاث مرات ويمارس الكفاح المسلح ضمن صراعات داخلية (1963 في 8 / شباط، وفي الفعاليات العسكرية في الأهوار عام 1968 ، ثم في السبعينات والثمانينات) قاتل أنظمة وطنية، شاهدت بيانات (قتلت قواتنا ..... فرداً من جيش العدو ..) ولكنه ويا للعجب لا يرفع قلامة أظافر بوجه إحتلال إمبريالي / وتوسع استعماري لرجعية تروج للخرافات وبهمجية دمرت البلاد بطوله وعرضه ...؟ ولا كلمة واحدة ..

ثم لماذا الإصرار على التصدي لحملة خلافية في المجتمع تمجد عبد الكريم قاسم، غير مفهومة إلا باللجوء إلى العرافين وفاتحي الفال لتفك لنا العقد الشرقية، ولابد من الإقرار أن الموقف السياسي الشرقي حافل بها، بعضها مثير للضحك، ولكن الكثير منها ياللعنة مؤسف لدرجة الحزن ... ها نحن اليوم ممزقون مشتتون، نتنازع على أحداث مرت في القرن، أو القرون الماضية، لم تعشها الأجيال الحالية، ولكنها تدفع الثمن ... ثمن ماذا ...ولماذا وإلى متى ..! مشعلوا النيران لا يعرفون سوى المضي قدماً ... بلادنا في الحضيض على كافة المستويات، أشكال وأنواع الأحتلالات، والمستعمرين بأنواعهم، والإرهاب بأصنافه، والخرافات مجسمة وبالألوان، وصناديق القمامة تمتلئ يومياً بجثث العراقيين، وما زلنا نتجادل ونكابر .. ونعاند ... عنزة حتى لو طارت ...!

إنني أود هنا أقتباس ما كتبه أحد الكوادر المتقدمة للحزب الشيوعي العراقي في إطار مداخلة نقدية عميقة المدلولات ""  أن التمسك بعبد الكريم قاسم هو محاولة للعثور على مجد من الماضي وهو من بعض الوجوه يشبه توجه الأحزاب الدينية في الارتكاز على الماضي لتبرير وجودها الحاضر، إلا تشترك معي في أن التوجه نحو الماضي وتبييض صفحة قائد عسكري محدود الأفق ألغى المؤسسات الدستورية وشرع العنف هو دليل على الإفلاس وعدم القدرة على صياغة برنامج مستقبلي؟  "" .

ومن المثير للدهشة حقاً، وبدرجة كبيرة، أن أجد سياسيين، (ناهيك عن علماء ومؤرخين) ما زالوا، وقد طمى الخطب حتى غاصت الركب ... مازالوا يصدرون أحكامهم بالتأييد أو الشجب على مواقف وأحداث معاصرة، بناء على الموقف السياسي لحيثيات تلك المرحلة حتى بعد مرور أكثر من خمسين عاماً على ذلك الحدث (موضوعة القرار) رغم أن هناك تغيير واسع النطاق على الخارطة والواقع السياسي مما يستلزم حتماً قراءة جديدة للموقف، فقد تغيرت معطيات كبيرة جداً بحجم بروز دول وزوال دول ومعسكرات دولية عملاقة، وتحولات آيديولوجية شبه جذرية، ومواقف اجتماعية وطبقية كبيرة .... الدنيا كلها تغيرت، فيما يزال هذا المؤرخ أو العالم، أو تلك الحركة تقيس ويعمل ويخطط بمقاييس ما قبل نحو ستين عاماً....! فهذه يفترض أن تكون غير مقبولة حتى من الروزخونيات الملائية، وخرافات حكواتية المقاهي الشعبية، فما بالك من قوى تدعي أنها تاريخية سواء إن كانت وطنية أو تقدمية أو قومية .. (مؤرخين وعلماء) يدعون أمتلاك ناصبة العلم والمعرفة ... هذه مواقف لا علاقة لها بالعلم والتحليل المادي التاريخي، بل مجاراة لمواقف ولقوى الظلام، أو محاولة للدفاع عن مواقف خاطئة يستصعبون التراجع عنها ..!

اليوم الذي نحن فيه...  أن يكون الحاكم وطنياً فهذه أعجوبة، وأن يكون نزيهاً لا يسرق فهذا نادر كندرة الكبريت الأحمر، ولكن هذا يوم أسود أستثنائي لا يصلح أن يكون قياساً إلى ما قبله أو بعده ... هذا يوم أسود سيذكره التاريخ كسخرية من سخريات القدر، ومرحلة عار في التاريخ العراقي للأسف ... سوف لن ينسى الناس من ناضل، ومن ساير، ومن داهن، ومن تعاون مع المحتلين ..!

اليوم الوطن محتل، ومطروح على كل حركة سياسية وكل سياسي عراقي، بل وعلى كل فرد عراق وعراقية النهوض وأستعادة الاستقلال، أن يتبينوا اليوم الذي هم فيه، كم هو أسود كظلام الليل الحالك السواد، أن يتركون كل تصوراتهم الأديولوجية، كل ذكريات الماضي البعيد وحتى القريب، بهذا فقط ننقذ الوطن، لننظر إلى المستقبل ... لابد أن يتحد العراقيون (كل من يصف نفسه عراقياً) ساعداً بساعد، وأتركوا الخرافات وأنبذوا المخرفين.

في ألمانيا .. لا يدرسون في المدارس مرحلة أستيلاء النازي على السلطة .. لا يريدون تعليم أطفالهم ماذا حدث في محاولة للنسيان ... وأنا أجزم أن هذا اليوم سيمضي، وأدعو الجميع إلى نبذ ثقافة الحقد والكراهية والثأر ... هذه ثقافة متخلفة يمارسها المتخلفون لا ينبغي الأقتداء بهم، والإجرام لا ينبغي أن يصبح قانوناً ...

سنجتاز بحر الألم هذا حتماً،  ولكن للأسف بعد خسائر كبيرة جداً ... بعدها سنحتاج لسنوات طويلة لإعادة الأعمار، وتعويض ما سرق ونهب ودمر ... مع سبق الإصرار والتصميم ..

فلنحاول معاً جميعاً تقليل حجم الخسائر .... فكل حجارة ستؤذي عراقياً وستوقع خسارة عراقية ...

قلت حجارة ولم أقل رصاصة ..!

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1492 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع