الدكتور محمد عياش الكبيسي
البعد النفسي في الأزمات والمواقف العربية (٢-٢)
حينما نقرأ مثلاً عن تاريخ الغساسنة والمناذرة، نجد العربي في هاتين الدولتين أقل حميّة تجاه سطوة الفرس أو سطوة الروم، وليس أدل على ذلك من أن المواجهات التي تحصل بين العرب وغيرهم، لا تكاد تذكر أمام حالات الغزو المتكرر فيما بين القبائل العربية أنفسها، علماً بأن الدول المحيطة بالعرب كانت في كثير من الأحيان تذل العرب وتمتهنهم، وهي بنفس الوقت تغريهم ببعضهم، وتحرّك فيهم دوافع العزة والأنفة فيما بينهم! ربما المواجهة الأبرز كانت يوم»ذي قار» بين العرب والفرس، وهي-على ندرتها- لم تستمر كما استمرّت مثلاً حرب البسوس، وقطعاً نحن نتكلم عن العرب كعرب، وليس بعد أن انطلق بهم الإسلام في حضارته الشامخة وفتوحاته الممتدة، والتي لا شك أنه قد تمكّن من توظيف نزعة الأنفة أو «الغلبة» وجعلها في مسارها الصحيح.
هنالك مثال آخر في التاريخ الجاهلي يؤكّد الفرضية التي ننطلق منها، والتي أسسها «الوردي» أن جيش «أبرهة» الذي اخترق الجزيرة العربية حتى وصل إلى مكة، لم تعترضه أية قبيلة عربية، ولم يعترضه حتى «سفهاء قريش» بل اتسموا جميعاً بـ «الحكمة»، وهذا لم يكن يحصل أبداً لو أن قبيلة عربية قامت بهذا الغزو، مهما كان حجمها وقوّتها، في حين أن «أبرهة» لم يأت بالأسلحة التي تختلف عن أسلحتهم، ولو أن العرب تحالفوا فيما بينهم وقدّموا عُشْر ما قدّموه في البسوس لكان لهم موقف آخر، مع أن»أبرهة» كان يقصد رمز عزتهم وأنفتهم وعنوان شرفهم؛ الكعبة، لولا أن الله حماها بآية من آياته، ومعجزة من معجزاته.
حينما نتذكر كل ذلك التاريخ، وننظر في الواقع المر الذي نعيشه نرى ما تتقطّع له القلوب، فمهادنة الأجنبي والتودد إليه وتقديم الرشوة له أمر تقتضيه الحكمة والتوازنات المطلوبة- وقد يكون الأمر كذلك- لكن هذه الحكمة تغيب في أي احتكاك داخلي بين العرب أنفسهم.
لقد كان العرب بإمكانهم أن يحتووا قوّة صدام وجيشه، الذي كان قادراً بكفاءة عالية أن يصدّ عنهم الخطر الشرقي، وقد فعل ذلك لثماني سنوات، ولم يكن هذا الاحتواء يكلفهم شيئاً، قياساً بما ندفعه اليوم لغيره، وقد كان بإمكان صدام أيضاً أن يحتوي أزمته مع الكويت- وهم الأشقاء الذين وقفوا معه لثماني سنوات-، ولكنّ الطبائع لا تتغير.
اليوم بدأ استعراض القوة على دولة مثل قطر، لماذا؟ هل استعصى الخلاف إلى الحد الذي لا يمكن معه الحل؟ هل بدأت قطر تشكل خطراً أشد من خطر إيران وإسرائيل؟ ما هي القصة؟ وأين المصلحة في ذلك؟!
المشكلة أن هذا في النفسية العربية لا يشكل حدثاً قابلاً للتطويق بحيثياته وملابساته القريبة، وأن يبقى محصوراً في دائرته الزمانية والمكانية، بل النفسية العربية علمتنا دائماً أنها تميل إلى الاستقطاب فهي تستقرئ مواقف القريبين والبعيدين والساكتين والمترددين والذين ليس لهم علاقة بالموضوع أصلاً، ليأخذ الحدث منشاره العميق في جسد الأمة؛ فيشقها إلى ما لا يعلمه إلا الله، ولذلك ترى المسارعة في تسجيل المواقف وإصدار الفتاوى والبيانات عن علم وعن غير علم، بموضوعية أو بمحسوبية، والله أعلم بالنوايا والقصد، لكن الذين يفكرون بالحل وبتدارك الأمر وتطويقه أقل من غيرهم بكثير.
572 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع