مهند النابلسي
ميموزا (2016):
تحفة سينمائية اسبانية - مغربية تتفوق على فيلم "العائد لديكابريو":
ويسترن "أطلسي- ديني" واقعي ومشوق وغامض ويطرح التساؤلات!
(ضمن تظاهرة اسبوع الفيلم العربي-الفرنسي في عمان)
عندما خرجت من باحة الملكية للأفلام بعد مشاهدتي لفيلم "ميموساس"، الذي عرض ضمن تظاهرة الفيلم "العربي- الفرنسي" في عمان مؤخرا، أيقنت أني شاهدت للتو تحفة سينمائية فريدة، وقد تأثرت حقا بمشاهد الفيلم الطبيعية والتلقائية اللافتة والغامضة، ثم استفزني وانا اسير في شارع الرينبو السياحي الشهير في عمان شاب "مدعي" اوروبي الملامح (يتحدث بالانجليزية)، حيث كان يسخر بصوت عالي ومتبجح من أحداث الفيلم مستعرضا خفة دمه وحسه الفكاهي السطحي أمام صديقته وصديقه، مستمتعا بضحكهما التفاعلي المشجع، فتدخلت بفضول غريب لأقول له ولأصدقائه بأن هذا الفيلم تحفة سينمائية ربما تتفوق على تحفة العائد الشهيرة (والتي أخرجها اسباني ايضا)، وأن عليه أن يبحث في الانترنت ويتعمق في الثقافة ليجد لها معنى جدي، فالتزم الصمت واصغى وأوقفوا "قهقهتهم" السخيفة ربما مؤقتا وخجلا!...وبالفعل عندما عدت للمنزل وبحثت في موقع "الطماطم الفاسدة" السينمائي لأجد أنهم قد منحوا هذا الفيلم درجة عالية: أربع درجات ونصف من اصل 5 درجات (حوالي ال 93%).
قصة هذا الفيلم بسيطة للغاية وتتحدث عن شيخ عجوز مريض يسافر عبر جبال الأطلسي المغربية في قافلة يرافقها اثنين من المارقة المشبوهين ...وهذا الفيلم من اخراج الاسباني "اوليفر لاكس" (المقيم في المغرب)، وكذلك من كتابته بمشاركة "سانتياغو فيلول"، وتمثيل المغاربة: احمد حمود وشكيب بن عمر وسعيد عقلي واكرام انزولي (بأدوارهم بنفس اسماؤهم)، مع كل من حميد فردجاد (بدور الشيخ) ومارغاريتا ألبومريس وعبد اللطيف حويدار (بدور المرشد)، وهو من تصوير "كريستوبال فيرناندز"، وقد وصفه المخرج بأنه عبارة عن "ويسترن ديني"، ويمثل الانتاج المشترك لكل من اسبانيا والمغرب وفرنسا وقطر، وقد تم عرضه في اسبوع النقاد العالميين في مهرجان كان لعام 2016، وقد نال الجائزة المرموقة الكبرى "نسبيرسو"، والخلاصة أن الفيلم يصور بشكل آخاذ الأحداث مدمجة مع الشخصيات اللافتة والمواقع الساحرة لجبال الأطلس المغربية الوعرة في سالف الزمان...
الفيلم مقسم لثلاثة فصول مسماة حسب حركات الصلاة الثلاث: الاستقامة والركوع والسجود، مع القليل الضروري من الحوار والموسيقى مع تصوير سينمائي طبيعي لافت (وقد ذكرني بمشاهد "العائد" الطبيعية من اخراج الاسباني أليخاندرو غونزالس إناريتو)، وهو يعكس عالمين منفصلين أحدهما عصري باللباس والسيارات ونمط الحياة في مدينة مغربية حديثة، والآخر "بدوي- جبلي- قرنوسطي وتراثي" عتيق سواء بنمط التعامل والحياة او باللباس التقليدي او بالتنقل اللاهث بالدواب (الجحوش) عبر الطرق الجبلية الوعرة او من خلال الممرات المائية المتدفقة ويعكس حياة قاسية لا رحمة فيها!
في الزمن العصري "المديني" يتم اختيار شخصية شكيب "الجامحة والقيادية والروحانية" من قبل الزعيم المتسلط، وذلك بغرض ضمان وصول الشيخ العجوز سالما لمقصده (وربما مسقط رأسه)، وخاصة مع وجود شخص خبيث كأحمد برفقة المرشد...في المشاهد اللاحقة، نرى قافلة صغيرة تقاد من قبل شيخ عجوز متهالك (برفقة زوجته التي تحتفظ بالمال)، تنطلق باتجاه اطلال البلدة القديمة "سيجلماسا"، وهدفه الوصول لأهله ليكون بينهم، والقافلة مهددة دوما من قبل السارقين "أحمد وسعيد"، حيث يصر الشيخ على العبور من خلال الجبال الوعرة لاختصار المسافة، ولكنه يتعرض فجأة لوعكة صحية قوية تؤدي لوفاته بشكل غير متوقع، وبغرض المساعدة والتضليل يعرض أحمد وسعيد توصيل الرفاة لبلدة "سيجلماسا" مقابل النقود، بينما يبقى الآخرون ضمن القافلة...هنا يظهر فجاة شكيب "الجامح" لمرافقتهم، ثم يقوم احمد بخبث مقصود باطلاق الجحش الذي يحمل الرفاة لاختصار المسافة والتهرب من المهمة الشاقة عبر الجبال الوعرة، لكن شكيب بصر بعناد على ايجاد الجحش والرفاة، هكذا تتطور علاقة التزام مصيرية ضمن المجموعة، ويتمكنوا اخيرا من ايجاد الجحش الهارب مع مسافرين جديدين غريبي الأطوار (العجوز محمد مع ابنته "الصماء البكماء" اكرام)، ويحاولون جميعا تجاوز الصعاب واختراق الطرق الجبلية الوعرة، ويسعى شكيب بروح ايجابية التفاعل مع أحمد لاكتشاف مهارات قيادية داخلية، ثم يدخلون منطقة "العصابات المسلحة"، حيث يتم قتل محمد "والد الفتاة"، ويكافح شكيب بلا هوادة مستعرضا مهاراته الخفية كمرشد روحاني، متحديا احمد "اذا ما فعلت جيدا سأفعل أفضل"...بينما يحاول أحمد الابتعاد عن القافلة والتهرب من المهمة والتخلي عنها، ثم يتفرق الفريق بفعل الظروف وملاحقة العصابة لهم، حيث يتعرض كل من سعيد واكرام للهجوم المسلح، ويقتل سعيد، فيما يتم اعتقال اكرام وتعريضها لعذاب الشنق مرارا بسادية وحشية تتخللها "قهقهات" همجية...هنا ينتهي الشريط بطريقة غامضة، ويحدث تناقض لافت بين مرحلتين لتبدو الأحداث احيانا وكانها وليد خيال خصب افتراضي، حيث يهاجم شكيب (بمرافقة احمد المتردد والخائف) مستلا سيفا بغرض انقاذ اكرام من برائن الوحوش البشرية، واثقا من قدراته، معبرا عن ذلك "بالحب" مجيبا على تساؤل احمد الحائر والمتجابن...ثم نكاد نرى الرجلين في المشاهد الأخيرة الغامضة وكأنهما يتعرضان للاتهام في مخيم العصابة، وقد فشلا ربما بمهمة الانقاذ المستحيلة التي لم نعلم تفاصيلها...هكذا نلخص هذا الشريط المهش بسطور: في القرون الوسطى واثناء تجوال قافلة قي التضاريس الوعرة، وأثناء عودة شيخ متهالك عجوز (صوفي ومريض) لمسقط رأسه... يموت فجأة بسلام، حيث يوجد ضمن القافلة أحمد الساعي بلا هوادة لسرقة القافلة (أموال الشيخ التي تحتفظ بها زوجته)، ثم يراه يتاثر نسبيا ويشعر بالالتزام بعد وفاته لتوصيل الرفاة لمسقط الرأس، ويواجه شكيب المتعاون الشجاع، والذي وظفه زعيم عصري مهتم بانجاز المهمة الصعبة ...هذا هو الملخص السردي الدرامي الفريد الذي سمح للمخرج الاسباني الشاب لكي ينجز تحفة سينمائية فريدة تتحدث عن التحديات والعذابات والطموحات في ظل ظروف مناخية-تضاريسية صعبة وقاسية، وضمن اجواء من الترقب والخوف والمعاناة ومع وجود عصابات مسلحة ضارية ومتوحشة...
ملخص نقدي:
الفيلم يحوي كل خصوصيات أفلام الغرب المتوحش وكذلك شخصياته المختلفة الباطنية "الشريرة والطيبة"، ويتعمق فلسفيا بثيمات الاخلاص والخيانة والغدر والقدر والقيادة، ويقدم مشاهد مذهلة خلابة وواقعية لحركة الأشخاص وللتضاريس الوعرة والثلوج ومساقط وممرات المياه في جبال الأطلس، ويحوي تناقضات لافتة عن سلوك الشخصيات ونواياها الظاهرة والخفية، وكذلك لمقارنة الجحوش بالسيارات المنطلقة في المدينة والطرق البدائية الصحراوية الترابية الواسعة، انه بمثابة "صورة مغربية" أصيلة للغرب المتوحش، ذات بعد حركي و تراثي ديني–صوفي وروحاني، ساعيا ومحاولا لايجاد المغزى وبلا اجابات سهلة مباشرة، من هنا تنبع قوته الفنية وسحره السينمائي، كما أنه يتحفنا دوما بأصوات "عويل الرياح وقسوة الحياة في التضاريس الصعبة وممرات المياه الجامحة التي تسحب جثة الشيخ وأحمد، مع استخدام الحد الأدنى من المؤثرات السينمائية التصويرية المدهشة (عكس فيلم العائد الشهير)، وتفاقم المشاهد المعبرة الشعور بالعزلة والمعاناة والخطر المتوقع، كما تستنفذ صبر المشاهد "العجول" الذي لم يعتد على هذا السرد السينمائي الفريد، انه كذلك بمثابة ملحمة تتحدث عن الدين والايمان الحقيقي الصوفي، ضمن عرض مذهل لزمنين متداخلين ومتباعدين في آن: القرون الوسطى والعصر الحديث الحالي...ومن وجهة نظري فقد وجدته من أكثر الأفلام غموضا وجمالا وروعة (للعام 2016)، وربما من أفضل أفلام اسبوع الفيلم العربي- الفرنسي (المقام في عمان للفترة من 5 الى 12 تموز/2017)، ويدل حقا على عبقرية التمثيل المغربية وحسن اختيار الشخصيات، التي استغلت بمهارة فائقة من قبل المخرج الاسباني الشاب لاخراج أفضل ما في جعبتها التمثيلية والتي وصلت لتخوم التقمص المدهش الخلاق، والذي يضاهي أرقى مستويات التمثيل العالمية.
مهند النابلسي /ناقد سينمائي /عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
1228 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع