سيف شمس الدين الالوسي
قصة قصيرة/ هي
كان من الممكن ان تكون تلميذة شقراء ناعسة العينين محمرة الوجنتين، يلفحها برد الشتاء فيحيل وجهها حبة تفاح متدلية من غصن بأحد سفوح جبال لبنان.
كان من الممكن أن تهتف كل خميس بنشيد العلم وهو يلوح من فوق ناصيتها فتجيب نداءه بعدما أشبعها لبناً وخبزاً وحرية وكرامة، ماذا لو رشفت من رحيق حريته ما يصبو طموحها وأحلامها الطفولية.
البراءة ليست في أن نموت غدرا أو أن نُسرَقَ فنشكر الذين سرقونا، البراءة في أن أُذبَح وأُجبر على ممارسة حياتي، أو أن أتحمل مسؤولية شقاء طفولي لا يرحم.
لم يكن ذنبها أن تكون بذرة بوقت فاسد قد أعياها وأنهكها وهي لم تزل ابنة السبع أو الثمان، فهي خطيئة المسبب وخطيئة المثقف قبل الجاهل، والعالم قبل المتعلم، والقاضي قبل الجاني.
كان بمقدورها أن تستيقظ صباحاً على أنغام فيروز مرتدية الفراشات البيضاء، تلك التي تزين بها شعرها الذهبي متأهبة للذهاب إلى دروسها لتلتقي بزميلاتها ولينتجن مستقبلاً مزدهراً خالياً من فلسفة "شوبنهاور" ومن تنبؤات "نيتشه".
كان بإمكانها أن تخرج من كرة "موباسان" وتبقى آخر شجرة من أشجار "عبدالرحمن منيف"، فيا ترى لماذا عبث بها الزمن مثلما عبث باشجار الياس نخلة؟
فقد ابتلعها الزمن وكسرها مثلما كسرتها لغتها العربية وجعلت كل ما يخصها مكسوراً (هي وانتِ ولكِ)، فماذا لو خلقت بغير عالم وغير زمان ومكان وبغير لغة؟
أسئلة قد سألت نفسها بها، وهي تجوب الشوارع صاخبة بأنينها وحسرتها، تجوب الأرصفة بأقدام حافية ليس لها من الوجد سوى آلامه، ناظرة إلى أقرانها وهم لاهين بما يسرهم كأنهم فراشات تعرف أن أعمارها مجرد أيام ليس إلان فتحاول ملئ تلك الأوقات بكل ما هو ممتع، فقد اكتشفت الوجودية قبل "سارتر" وأحالت عدمية "ديستويفسكي" إلى وجودية "كامو" ولتعلن تحرير "مانيت" من الباستيلن فقد حررته قبل ان يحرره "ديكينز" بمدينتيه.
رحى الحياة أحالتها لجسد عجوز قد سحقته عجلة الأيام ومضت، هذا الكائن البريء كان من الممكن أن يكون زهرة بجنة تفوح عبيرها صبابة. لكن هذه الؤلؤة كانت بيد "كينو" فلماذا استودع "شتاينبك" تلك الؤلؤة الثمينة بيد ذلك الصياد البائس الذي يدعى كينو؟
هي لم تَسرق بل سُرِقَت وما ذَبَحت بل نُحِرَت، وها نحن شهودا على تلك الجريمة البشعة التي ترتكب بحقها، مهللي الوجوه كالذين يسلخون ذلك الحمل الوديع تقربا من معبودهم.
ماذا لو كانت راقصة باليه ببحيرة بجع "تشاكوفسكي" قبل أن يعطيها الدهر ماسحة لتمسح بها زجاج السيارات كل يوم متوسلة حياتها ولتشحذها من صدقات المارة.
كان من الممكن أن تكون شهداً وسماناً قبل أن تصبح فقاعة ماء قد سكب على إحدى زجاجات الحياة المتكسرة .
1158 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع