د. سالم محمد ذنون/ العراق
جمالية العنوان في قصص سناء الشعلان
مجموعة (قافلة العطش) أنموذجاً
يعد العنوان ركناً أساساً في العمل الأدبي، ذلك أنه يشكل المفتاح الإجرائي الذي تتجمع فيه الإنساق المكونة للعمل الإبداعي التي تصب في البؤرة ذات الحالة التكثيفية لمجريات الحدث داخل البنية النصية، ومن خلال هذه البؤرة تتشظى رؤى القاريء التي يكشف من خلالها عن جمالية الترابط بين عنوان العمل الأدبي وبين تلاحق الإنساق في الأحداث المتبلورة في بؤرة ذلك العمل. وقد أخذ العنوان أهمية بالغة الأثر في النتاج الأدبي من خلال عناية النقاد بهذا الجزء من العمل الأدبي كونه يمثل الصورة المكثفة التي تخبر القاريء عما تريد ان تقوله الأحداث عبر إشارات وقرائن تتشابك مثل نسيج العنكبوت لتضع القاريء أمام تجربة تفاعلية مع النص الأدبي، ونعني بالتجربة التفاعلية تلك التجربة التي يخوض غمارها القاريء من أجل الوقوف على جماليات النص عبر سلسلة من الإجراءات القرائية التي تبدأ من العنوان وتنتهي بخاتمة العمل الأدبي، وبذلك يكون القاريء قد وقف على رؤية إبداعية جديدة من خلال قراءته النص الأدبي منطلقاً من العنوان، ويمكن ان نطلق على هذه الرؤية الجديدة الهجينة بين معطيات النص الأدبي، وبين معطيات القاريء الثقافية القراءة الإنتاجية.
فالعنوان هو العتبة الأولى للنص الأدبي، وهو في الوقت نفسه العتبة الأخيرة التي يقف القاريء عند حدودها مطلعاً على النص من فوقية ليضع يده على مواطن الجمال التي أفصح عنها العنوان أولاً، لذلك فالعنوان يمثل الحركة الدائرية للعمل الأدبي، إذ ان نقطة البدء والانتهاء واحدة، ومن الجدير بالذكر ان العنوان في العمل الإبداعي لم يأخذ أهميته في الإبداع الأدبي الحديث والمعاصر فحسب، بل ان العناية بالعنوان قديمة قدم النقد العربي، وهذا واضح من خلال ما تعرض له نقادنا القدامى في كتاباتهم التي ذكروا فيها آراءهم عن أهمية العنوان، ولعل أبا بكر الصولي (335هـ) يعد أول من ذكر العنوان وبين حده، فقال :"والعنوان العلامة كأنك علمته حتى عُرِف مَنْ كتبه ومن كُتِبَ إليه"(1). فهو يجعل من العنوان علامة، ونحن نعرف ان العلامة هي الإشارة التي تتميز بها الأشياء عن بعضها، إذن فالعنوان عند الصولي هو هوية الشيء أو الكتاب أو الرسالة، وهذا لا يختلف عما قلناه من ان العنوان هو المفتاح الذي من خلاله يمكن للقاريء الولوج إلى معطيات النص.
ولعل أول من أعطى العنوان استفاضة بالتحليل والأهمية من النقاد القدامى هو أبو القاسم محمد بن عبد الغفور الكلاعي (542هـ)، إذ أعطى شرحاً وافياً لأهمية العنوان في أي نتاج أدبي، ذلك أنه يعد الدليل على فحوى ومحتوى الشيء، فيقول الكلاعي في العنوان إنه "ما دل على الشيء"(2). وهو بهذا التعريف لا نراه ابتعد عما ذهب إليه أبو بكر الصولي، فهما يقتربان في ان العنوان هو ما يدل على ما هية الشيء، ويكون علامة دالة عليه أي ان العنوان يشكل نقطة استثارة القاريء، واستفزازه لأجل تحقق الإمكانية التفاعلية بين معطيات كل من القاريء، والنص، والخروج فيما بعد بالقيمة الجمالية التي أوحى بها العنوان، فكما ان الأشياء تعرف من عنواناتها، فكذلك العمل الأدبي يعرف من عنوانه، لذلك فالأديب الجيد هو الذي يستطيع ان يختار لأعماله عنوانات تستشير ذهن القاري، وتجعله متفاعلاً بالعمل الأدبي منذ النظرة الأول إلى العنوان... وقد ذهب الكلاعي إلى تعليل ماهية تسمية العنوان للكتاب وغيره، بقوله :"ويحتمل ان يسمى عنوان الكتاب عنواناً لوجهين: أحدهما أنه يدل على غرض الكتاب، (...) والوجه الآخر: أنه سمي عنواناً لأنه على الكتاب ممن هو وإلى من هو"(3). فالوجه الأول يشار به إلى محتوى الكتاب ومضمونه، والوجه الثاني يتضمن جانبي الرسالة النصية المرسل، والمرسل إليه، ولعلنا نقف هنا مع الكلاعي أمام رؤية تكاملية للعملية الإبداعية، التي تتضمن ثلاثة أركان أساسية هي الرسالة، والمرسل، والمرسل إليه... "وقد يقصد بالعنوان title الاسم الذي يدل عادة على موضوع الكتاب، كما قد يعني مكان الإقامة address"(4). فنرى من خلال ما طرحناه آنفاً ان العنوان لم يكن بمعزل عن الرؤية النقدية في الثقافة العربية، فالثقافة العربية حملت في معطياتها المتنوعة صورة التطور في أرقى صوره في العصور القديمة، فكانت نظرة النقاد القدامى نظرة شمولية إلى النتاج الأدبي والثقافي ومن ذلك النظرة في العنوان التي تطورت حتى وصلت إلى ذروتها في العصور الحديثة، ومن خلال ذلك يمكن "القول ان العنوان في الأدب العربي دخل مرحلة التطور منذ العهد المكي للدعوة الإسلامية وتضافرت أربعة عوامل لتهيئة التطور في العنوان وهذه العوامل تتابع ظهورها في حقول تسجيل الفكر الإنساني الإسلامي خلال فترة ازدهار الحضارة الإسلامية بدءاً من هذا الزمن المبكر لظهور الإسلام أما هذه العوامل فهي:
1.عنونة القرآن الكريم وسوره.
2.التطور في مضمون المدونات.
3.آداب التدوين والمدونين.
4.نقل الآثار الأجنبية إلى العربية..." (5).
إذن، فقد جاءت هذا العوامل بتضافرها وتواشجها متمثلة في صورة ازدهار الثقافة العربية، ومن ثم تطور معطيات العنونة التي ارتبطت بصورة مباشرة بالثقافة العربية التي بلغت أوجها في العصر العباسي... وبعد هذه الوقفة البسيطة على مفهوم العنوان، لابد من التطرق إلى معطيات جمالية قراءة العنوان في النص الأدبي، لا يمكن لأي كاتب أو أديب ان يضع عنواناً لنتاجه الأدبي اعتباطاً، بل إنه يختار العنوان الذي فيه قصدية كبيرة لأن الكتابة الإبداعية أنأى ما تكون عن البراءة، فليس هناك نص بريء، فالنصوص تسعى من خلال فكر المبدع ومشاعره إلى استفزاز القاريء، ولكنه ليس استفزازاً عدائياً، بل هو استفزاز جمالي الغاية من ورائه الوقوف على جماليات النص بكل جزئياته، بما في ذلك العنوان الذي يعد المنطلق الأول للكشف عن المستور الذي تدفنه العبارات في ثنايا النص، لذا فجمالية تلقي العنوان قائمة بصورة أو بأخرى على ضيق أو إتساع الفجوة الكامنة بين العنوان والنص، ومن ثمة سعي القراءة إلى تأسيس علاقة بين الطرفين لملء هذه الفجوة(6). ويأتي ذلك من خلال اشتغال القارئ على فك التكثيف الذي طغى على العنوان وذلك من خلال آليات التأويل والفهم الذي يتحقق بالتفاعل الموضوعي لا الانطباعي بين معطيات النص وبين ثقافة القاريء، إذن، فنحن إزاء جدلٍ ديالكتيكي بين الطرفين (النص/والقاري)، ونحن عندما نذكر النص فإننا نشير إلى كل متعلقاته بضمنها المبدع، ذلك لأن "الكتابة قرينة الغياب (غياب المتكلم) والانفصام والانقطاع حتى الموت عن المصدر، فلابدَّ-والحال هذه-من أثرٍ دالٍ على هذا الانقطاع-الصلة الزمكانية-فكانت العنونة بما تشتمل عليه من اسمي النص ومنتجه، لتكون ذلك التعويض العلامي أو السيميوطيقي للحضور الذي كان واختفى فجأة لحظة إنتاج النص (الحدث الكلامي)"(7). فيكون العنوان بذلك المعادل الموضوعي لكل من المبدع والنص، فالعنوان يحمل بصمات النص الذي بدوره هو بصمات المبدع الذي أنتجه، وأرى ان المبدع في لحظة وقوفه على عنوان ملائم لمنتجه فإنه يرقى إلى لحظة التسامي؛ إذ إنه يستحضر في ذهنه كل أنساق النص وبؤره ليخرج بعد ذلك إلى إنتاج نص آخر أكثر تكثيفاً من النص المسرود، ألا هو العنوان، إذ "إن العنوان بعامة عتبة قرائية مهمة كونها أول ما يواجه القاريء في رحلة القراءة معطياً انطباعاً عاماً عن مجرى دلالات النص وكون العنوان بنية اهدائية يعني أننا بإزاء عتبة مزدوجة يراد لها ان تحقق وظائف العنوان في التكثيف والتدلال والدعوة اللبقة إلى القراءة"(8). بمعنى ان العنوان يفتح أمام القاريء آفاقاً رحبة للتأويل والكشف عن المتعالقات الجمالية المترابطة بين العنوان وبين بنية النص، الأمر الذي يؤول فيما بعد إلى علاقة تحاورية عبر شبكة ثيمات متواشجة في عنوان العمل الأدبي، وفي بنية النص، وهذه العلاقة التحاورية يكون طرفاها القاريء والمنتج، "فظهور العنوان يعني سطوته وتجبره على (المبدع/المنتج) و(القاريء) فأما الأول فمن حيث إنه صاحب الخطوة والصدارة في النص، (...) وأما على الثاني فكونه يلقي بظلاله سلطته على القاريء يفرض نفسه عليه، لاجل استئذانه في الدخول إلى عالم النص"(9). وحالما يلج القاريء في فضاءات العنوان تفتح له آفاق تأويل رحبة تفسح المجال أمامه في الوقوف على المعطيات الجمالية لبنية العنوان.
أولاً: عنوان المجموعة القصصية:
يعد عنوان أية مجموعة قصصية المحور الأساس الذي تتبلور حوله أحداث القصص في المجموعة القصصية، ذلك ان العنوان الذي ارتأى الكاتب ان يجعله مفتاح مجموعته القصصية يتضمن خطأ حريرياً يربط أحداث قصته بأحداث القصص الأخرى التي تضمها المجموعة ولعله من اللافت للنظر عند أي قاريء مدرك لمعطيات العمل الأدبي ان يصل إلى مغزى اختيار الأديب عنواناً معيناً ضمن عنوانات مجموعته القصصية، وإيثاره إياه دون غيره، فيكشف القاريء عن مغزى ذلك الاختيار وهو ان العنوان الذي اختياره المبدع يمثل انعطافة كبيرة في تجربة الأديب الشعورية/ الحياتية، وفي تجربته الفنية من حيث كون المجموعة التي وقع اختيار الأديب على جعلها بعنوانها المفتاح السحري الذي يستطيع من خلاله القاريء الولوج إلى ما يعتري القصص من معطيات ثقافية واجتماعية وأيدلوجية ونفسية ومن خلال قراءتنا مجموعة (قافلة العطش) للقاصة سناء الشعلان، فإننا سنقف على جماليات عنوان هذه المجموعة من خلال ثلاثة محاور، هي: الغلاف، الإهداء، وأخيراً الوقوف على جملة العنوان والكشف عن جمالياته.
(أ) الغلاف
إن الناظر إلى مجموعة (قافلة العطش) يجد في غلافها خمسة عناصر متواشجة بصورة دقيقة لا يجد القاريء فيها أي تنافر، فالغلاف يعد لوحة فنية متكاملة في عناصرها ومعبرة عن كينونة الأحداث الواردة في المجموعة القصصية، ويتضمن الغلاف عناصر دراماتيكية أعطت اللوحة حيوية وحركية، فبعد النظر الذي تتضمنه اللوحة تعكس الحالة الشعورية عند المبدعة، الأمر الذي يعكس في ذهن القاريء حالة من الاندماج التفاعلي مع اللوحة فتبدو اللوحة متحركة مع حركة الأحداث التي تدور في المجموعة القصصية أما العناصر الخمسة التي تشكلت منها لوحة الغلاف فهي: 1- العين اليمنى للقاصة. 2- العنوان الذي جاء بلونين الأصفر والأبيض. 3- صورة جملين بينهما راعٍ واحد. 4- صورة قلبٍ مرسوم فوق الرمال تتجه نحوه آثار قدمين حافيتين. 5- خلفية اللوحة التي طغى
عليها اللون الأحمر القرمزي وشيء بسيط من اللون الشفقي أسفل اللوحة... فالعنصر الأول عين القاصة التي تكشف عن النظرة العطشى، النظرة الملأى بالطموح إلى الارتواء من ينبوع الحياة، إنها النظرة الحالمة التي تبغي الوصول إلى النهائي اللا منتهي، إنه صراع من أجل البقاء بين التابو / الممنوع، وبين الرغبة الجامحة في تخطي ذلك الممنوع، وجاءت هذه العين ذات اللون الأزرق تحمل في معطياتها خصائص الماء، فكما ان الماء يقتل العطش بإرواء العطشى، فكذلك هذه العين تحمل فعل الماء الذي يروي ويقتل الظمأ، فهي كذلك تروي الظامئين بسحر لونها...
أما العنصر الثاني الذي تشكلت منه لوحة الغلاف، فهو عنوان المجموعة الذي جاء بلونين، الأول الأصفر في الجزء الأول من العنوان (قافلة) والثاني الأبيض في كلمة (العطش)، ففي اختيار اللون الأصفر لـ(القافلة) إيحاءات دالة على رمزية الصحراء المتمثلة بالجفاف والقسوة في حين شكل اللون الأبيض في لفظة (العطش) دلالة الارتواء من الظمأ في هذه الصحراء، وجاءت لفظة (العطش) أكبر حجماً من لفظة (قافلة) في إشارة إلى امتداد هذا العطش، فهو عطش أزلي، فهو ليس عطش المرء إلى الماء، بل هو عطش المشاعر والأحاسيس إلى عاطفة الحب كما تضمنت صورة الغلاف جملين بينهما راعٍ يسير على قدميه ويجر زمام الراحلة، أما العنصر الرابع في لوحة الغلاف فيتمثل في رسم لقلبٍ خط فوق التراب وإلى جنبه آثار قدمين حافيتين، وهذا العنصر يحمل إيحاءات ودلالات عن القلوب التي أصابها الجفاف وهي ترنو وتصبو إلى الارتواء، والقدمان الحافيتان إشارة جلية إلى السعي الجاد إلى كسر قيود الممنوع الذي يحجر القلوب ويصدأ المشاعر، وهو سعي إلى قتل العطش الذي استبد بالقلوب.
أما العنصر الخامس في لوحة الغلاف فهو اللون الأحمر القرمزي الذي طغى على خلفية اللوحة إلا جزءاً صغيراً ساده اللون الشفقي، ان اللون الأحمر يحمل في طياته دلالات كثيرة تنطوي عليها سياق النص، ففي هذه المجموعة ينطوي اللون الأحمر على دلالة العطش الغريزي عند الإنسان الذي يتبلور عن طريق الحب والإشباع الجسدي، ومما يؤكد ذلك ارتسام الشفة المتهدلة في لوحة الغلاف، وهذه الشفة لا يلاحظها إلا من ينعم النظر في اللوحة، والشفة هي أداة التقبيل، والقبلة كما هو معروف هي رسول الغرام، فهي الوسيلة التي تستخدم لقتل الظمأ والعطش في الحب...
ومن خلال تضافر وانسجام عناصر لوحة الغلاف بهذه الجمالية المتقدة استطاعت الكاتبة ان تضع القاريء أمام نقطة الاستقطاب التي تتمحور حولها أحداث القصص الواردة في هذه المجموعة القصصية.
(ب) عتبة الإهداء
يمثل الإهداء عتبة تتلخص فيها رؤية الأديب وتكشف عن المعطيات المعرفية والشعورية التي ينم عنها الأديب بأسلوب مكثف وبجمل مركزة ومؤطرة بالبلاغة العالية والإيجاز البليغ، فعتبة الإهداء جمل قصيرة ذات دلالات متشظية تحمل في تلافيف حروفها كل جزئية في القصص الواردة في مجموعة قافلة العطش. فقد جاءت عتبة الإهداء في هذه المجموعة بأسلوب تعجيبي تشكل بواسطة (كم) الخبرية التي تصدرت جملة الإهداء، فتقول الكاتبة في جملة الإهداء :"كم هم عطشى أولئك الذين لا يعرفون أنهم عطشى"(10)...
فهي تبني جملة الإهداء على هيئة مفارقة لغوية، فهي تتعجب من شدة عطش الكثير من الناس، ولكن المفارقة ان هؤلاء لا يعرفون أنهم عطشى... ان هذه المفارقة عملت على استفزاز القاريء بصورة مباغتة تدفعه إلى الكشف عن جمالية مفارقة الإهداء التي ترتكز عليها رؤية الأديب/ الكاتبة التي أخذت على عاتقها نصرة هؤلاء الأبرياء الذين لا يعرفون أنهم عطشى ويمكننا القول إن عتبة الإهداء التي افتتحت الكاتبة بها مجموعتها تمثل بؤرة هذا العمل الأدبي، فأصبح الإهداء بؤرة العمل الذي تصب فيه كل الأنساق المتشظية من أحداث القصص الواردة في هذه المجموعة.
(ج) جملة العنوان (قافلة العطش)...
يشكل العنوان بؤرة أي عمل أدبي، ومفتاح الولوج إلى بنية تشكل المعنى الجمالي في النص الأدبي عن طريق آليات القراءة التي يمارسها القاريء في حالة من التفاعل بينه وبين معطيات متعالقات خاصة بذاته المبدعة، فهو لا يختار اعتباطاً أو بصورة عشوائية العنوان الذي يحمل هوية مجموعته، ذلك أنه لا توجد اعتباطية في هذه المسألة المهمة التي ربما تأخذ من فكره وذهنه الكثير حتى يستقر على العنوان الذي يرتئيه لمجموعته أو لنصه، ومما تجدر الإشارة إليه ان اختيار المبدع عنوان مجموعته ينبني على أساس أكثر الأعمال قرباً إلى نفسه، أو أكثرها تعبيراً عن معطياته النفسية والشخصية والثقافية وأكثرها شمولية لأنساق القصص المشاركة ضمن المجموعة الواحدة... ففي مجموعة القاصة (سناء الشعلان) التي بين أيدينا (قافلة العطش) تمثل الاختيار الأمثل من القاصة ليكون هذا العنوان هوية مجموعتها وكذلك عنوان المجموعة يمثل القصة الأولى التي تتصدر قصص المجموعة فهي إذن القصة التي تحمل في طياتها رؤية الكاتبة التي سادت أحداث قصص المجموعة كلها. ان الكاتبة تفصح عن رؤيتها في حياة المساكين والبؤساء الذين يلفهم العطش، ولكن أي مساكين وبؤساء وأي عطش؟ إنهم مساكين الحب وبؤساؤه، والعطش هو عطش الحب، وقد أعطت الكاتبة بعداً جمالياً في بنية العنوان في لفظة (قافلة)، فالمعروف ان أهم ما تحمله القوافل التي تجتاز الصحراء هو الماء، ولكن المفارقة في العنوان عندما تجعل الكاتبة من هذه القافلة موسوعة بالعطش، فالمشاعر الجياشة بالحب تملأ الناس، ولكنهم لا يكتفون عنها بسبب التابو الذي يجعلهم في عطش دائم... "ورحلت قافلة العطش، كانت قافلة عطشى إلى الحب، ومعطوفة في كرامتها على يدي مهرتها الجميلة، هذه المرة لم تدفن الرمال حكايتها في جوفها الجاف، بل أذاعتها في كل الصحراء، شعرت القافلة بأنها محملة دون إرادتها بالعطش، العطش إلى الحب والعشق"(11). ففي هذا المقطع من القصة التي حملت المجموعة عنوانها (قافلة العطش) كشفت عن رؤية الكاتبة، ألا وهي العطش إلى الحب والعشق، إنه الخواء العاطفي الذي يسعى كل إنسان إلى إشباعه بعاطفة الحب السامية...
ثانياً: قصص المجموعة:
بعدما أطلنا الوقوف على جماليات عنوان مجموعة (قافلة العطش) القصصية سنقف في هذه الأسطر القلائل على عنوانات القصص التي تشكلت منها هذه المجموعة-ان مجموعة (قافلة العطش) تشكلت من ست عشرة قصة بدءاً (بقافلة العطش) وانتهاء بقصة (الجسد)، ان الكاتبة استطاعت ان تفعل الخيال في صياغة عنوانات القصص التي جاءت على وفق مبدأ دائري بمعنى ان بؤرة القصة الأولى تلتحم ببؤرة القصة الأخيرة في المجموعة وبين هاتين القصتين مجموعة من الأنساق المتواشجة المترابطة بخيوط حريرية تربط عناصر المجموعة ببعضها، فعطش الحب في القافلة يأخذ القاريء إلى إطلالة مستفيضة عبر (النافذة العاشقة) التي تفتح أمام بطلة القصة آفاقاً رحبة من خلال ضيق النافذة، إنها نافذة المجتمع القاتم الذي يحرم الإنسان من أبسط متطلبات حياته، "ثم فتحت هذه النافذة طاقة صغيرة على أنوثتها، وولدت عندها رغبة الانتظار، وأسواق اللقاء، لم تكن قد خبرت من قبل معنى لذة الانتظار..."(12). ومن خلال هذه النافذة الصغيرة المطلة على عالم كبير تأخذ الكاتبة على عاتقها امتطاء نسق جديد لتفصح عن رؤيتها فجاءت قصة (رسالة إلى الإله) إنها رسالة الاستعطاف التي ما يلبث يرفضها الإله، لأنها رسالة تحرك فيه غريزة الظمأ، "تنهد طويلاً، فأحرقت تنهداته وزفراته الكثير من بقاع الأرض، وضج البشر بالشكوى، عندها تذكر أنه إله، وان ليس من حقه ان يتمنى ولو حتى في لحظة ضعف، طوى الرسالة التي يحملها، وجعلها في خزائن أوراقه، اتكأ على حشية في مضجعه، وطلب حضور ساقيه، شرب كثيراً، وفي آخر الليل أصدر مرسوماً إلهياً يمنع وصول رسائل العشاق إليه، لأن لا وقت عنده لوجع قلبه فضلاً عن قلوب البشر، وغرق في سباتٍ طويل"(13). ان خيال القاصة سناء الشعلان امتزج بمشاعرها الطافحة فأثمر ذلك نصاً ذا نسق مغاير قائم على تحريك العاطفة الجياشة في نفوس العطشى، فاختارت (الفزاعة) لتدور القصة حولها، لتقول للقاريء حتى الفزاعة المصنوعة من خرق بالية يمكن ان تتحول إلى كائن ذي أحاسيس ومشاعر جياشة، في حين ان الكثير من البشر لا تتحرك فيهم تلك المشاعر فيظلون في دوامة الأحياء الأموات... ثم تتوالى القصص في هذه المجموعة في نسق واحد يدور حول ثيمة العطش الروحي من الحب السامي فنجد في قصة (قلب لكل الأجساد) امرأة تبحث عن الحب الصادق النقي، ولكنها تفشل عند كل عتبة تتخطاها، لأنها حوت بقلبها أجساداً كثيرة، ولكن لم يستطع أي جسد ان يحوي قلبها هي فضاعت في متاهات الطريق وهي تبحث عن سبيل لتقتل به ظمأها وعشقها الأبدي، "وفي المساء، ومن جديد، تدلف إلى فراش آخر، ترك صاحبه الباب مفتوحاً لها، يصفها الرجال بالتفاعل والاستكانة اللذيذة، والشهوة العارمة، لذا يتعشقونها، أما هي فتجد من تحب في جسد كل رجل..."(14). ثم لا تلبث الكاتبة إلا ان تعود إلى نقطة البداية في المجموعة القصصية على شاكلة الزمن الدائري الذي يبدأ بنقطة معينة وينتهي عند النقطة ذاتها؛ إذ ان قافلة العطش لم تحط رحالها في مكان، وربما لن تحط رحالها طالما العطش يلفها ويغمرها، فظلت القافلة تدور وتدور بين الأجساد فتمحورت في قصة (الحسد) التي أنهت الكاتبة بها مجموعتها القصصية، فالجسد الأزلي المثالي يطارد بطل القصة الذي يبحث عن الارتواء ولكنه لا يقع على ذلك الجسد، فتظل قافلته تسير باحثة عن مرفأ الأجساد، ولكن لا يحصل على مبتغاه فيظل في دوامة البحث، "وحتى ذلك الوقت سيعيش في حنين موصول إلى الجسد الذي لم يقابله بعد ومن جديد عاد يحترف الانتظار..."(15). إنه الانتظار الأبدي، فيراوده هاجس الذي يأتي ولا يأتي...
1175 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع