توليف :الدكتورعبدالرزاق محمد جعفر
أستاذ جامعات بغداد والفاتح وصفاقس/ سابقاً
الحلقة الأولى : السيرة الذاتية:
هو عبد الله بن المقفع، فارسي الأصل، وُلِد في قرية بفارس , اسمه جور، و مؤرخون آخرون ينسبون مولده للبصرة،وكان إسمه روزبه بن داذويه وكنيته دادویه, ولما أسلم سُمى بعبد الله,.. وتكنى بأبي محمد
ولقب بالمقفع,... لأنه أُتهِم بِمّدَ يده وسـرق من أموال المسلمين , ولذا نكل به الحجاج بن يوسف الثقفي وعاقبه ,... بضربه على أصابع يديه حتى تشنجتا وتقفعتا, أي تورمتا وإعوجت أصابعهما ثم شُلِتا.
وقيل أن سـبب التسمية , يعود لعمله في الفقاع ، ولكن الرأي الأول هو الشائع,.. وعلى أساسه عرف بابن المقفع.
نشــأ ابن المقفع على المجوســية, وكان له نشـاط في نشــرتعاليمها, وترجمتها , حتى أسلم على يد عيسى بن علي ، ولم تطل فترة اسلامه فقتل بإيعاز من المنصور بتهمة الزندقة, وكانت مبررات قتله على أنه زنديق من الفئة التي تتظاهربالإسلام, ولكن لم تظهر في آثاربن المقفع مايدل على زندقته!,...كما لم يكن هنالك دليل مادي يوجه اتهامات إليه لإثبات زندقته وتبرير قتله ، فالزندقة ليست السبب الحقيقي لمقتله ,.. وإنما كانت للتغطية ! حيث يشير بعض المؤرخين بأن اسلامه ماكان إلا ليحافظ على كرامته وطمع في الجاه وتقرباً إلى مواليه العباسيين.
صفاته
عُرِف عبد الله بن المقفع بذكائه وكرمه وأخلاقه الحميدة، وكان له سعة وعمق في العلم والمعرفة ماجعله من أحد كبار مثقفي عصره ، حيث تتكون ثقافته من مزيج من ثلاثة جوانب : العربية ، الفارسـية واليونانية , وكان ملماً بلسان العرب فصاحةً وبياناً،.. وكاتباً بمنزلة الخليل بن أحمد , في الذكاء والعلم، واشتهر بالكرم والإيثار، والحفاظ على الصديق والوفاء للصحب في الخلق وصيانة النفـــس وحبه الى الأصدقاء قائلاً : "ابذل لصديقك دمك ومالك" !
وذات مرة سُئل ابن المقفّع من أدّبك؟!,...فقال: "إذا رأيت من غيري, حسنا آتيه"، وإن رأيت" قبيحا أبَيْته", واتهمه حساده بفساد دينه ،... وربما كان الاتهام واحد من أسباب مقتله!
جمع بن المقفع الثقافات العربية والفارسية واليونانية والهندية، فنال منها نصيبًا وافرًا من الفصاحة والبلاغة والأدب ، ولا يخفى هذا الأثر الطيِّب إذا تصفّحتَ مؤلفًا من مؤلفاته ،... فتنهال عليك الحكمة من بين الأسطر، وتنعم بالأسلوب السلـس ، والذوق الرفيع!, ومن أهم أقواله:
"اذا أسديت جميلاً إلى إنسان فحذار ان تذكره وإذا اسدى إنسان اليك جميلاً فحذار ان تنساه ".
مقتله
اشتهر عبد الله بن المقفع بِأنه على خِلافٍ شديدٍ مع سُفيان بن مُعاوية
بن يزيد أثناء فترة حُكم الخليفة العباسي أبوجعفر المنصور وكان إبن المُقفع يعبث معه ويضحك عليه ويستخف به , وقيل :" أن أنفه كبيراً" فكان يقول له عبد الله بن المقفع إذا دخل عليه:
"السلام عليكُما، يعني سفيان وأنفه معه"
وقال سفيان يوماً : ما ندمتُ على سكوتٍ قط فقال له ابن المقفع:
" الخرس زينٌ لِأمثالك فكيف تندم عليه!"
وورد عن سفيان بن معاوية أنه قال في إحدى المرات:
" والله لأقطعنه إرباً إرباً وعينه تنظر "
غضب سُفيان من إبن المُقفع يوماً وافترى عليه أمراً ما وعندما سمِع عبد الله بن المقفع إفتراء سُفيان عليه قذف أُمّه وسبها وقال له:
يا إبْن المُغتلِمة، والله مَا اكتفت أمك حَتَّى نكحها رجال أَهْل العراق والشام.
قَصد عبد الله بن المقفع بِالمغتلمة أي الشبقيّة,... التي لا تكتفي من الرجال , ولا تنطفيء شهوتها وأُم سفيان التي قذفها إبن المقفع هي ميسون بنت المغيرة بن المهلب بن أبي صفره.
عِندما قال عبد الله بن المقفع مقولته هذه زادت ضغينة سُفيان وحقد عليه وضمر له الكراهية لِذا عزم على قتله والإنتقام منه فآمره بالقدوم إليه واستدعاه فقال له: أتذكر مَا كنت تقول عن أُمي !؟
ورد عليه عبد الله بن المقفع نادِماً مُتَوّسِلاً: أنشدك بالله أيُهاالأمير
فرد عليه الأمير: "أمي مغتلِمة"؟ سترى, إن لم أقتلك قتلةً لم يُقتل بها أحداً قبلاً ولّن يُقتل بها أحداً بَعداً, ثم ربطه وآمر بإحضارفرن وأوقده
حتى أصبح حامياً مُتوّقداً عندئذٍ,.. أمر سفيان رجاله بِتقطيع أعضاءه وأطرافه عضواً عضواً وكُلما قطعوا عضواً من جسمه يقول لهم:"ألقوه وأرموه في النار !!"
فجعل رجال سفيان يقطعون أعضاؤه ,... ثم يرمونها في الفرن حتى تحترق بينما يرى وينظرلها عبد الله بن المقفع حتى مات من التعذيب!
يتبع في الحلقة الثانية , مع محبتي
الحلقة الثانية /
اشتهر بترجمة كتاب كليلة ودمنة من الفارسية إلى العربية ووضعه على لسان الحيوانات ليكون متعة للعوام وعبرة للخواص ورغم تنكيل الحجاج به ، ورغم أنه عانى من انتقال الحكم بين الأمويين والعباسيين وقتل في النهاية بأمر المنصورإلا أنه كان شديد الحب للعرب كثير الإعجاب بلغتهم وآدابهم وعاداتهم ..
وبسبب انتمائه إلى ثقافتين مختلفتين وعيشه في فترة اضطراب سياسي كان كثير المقارنة بين الثقافات العربية والفارسية والهندية واليونانية ..
ومن النماذج التي علقت بذهني تساؤله عن أعقل الأمم في الدنيا وأكثرها ذكاء على وجه الأرض حيث قال من أعقل الأمم في الدنيا ؟
هل هم الفرس ؟ كلا ؛ فهم قوم علموا فتعلموا ومثل لهم فامتثلوا ليس لهم استنباط ولا استخراجهل هم الروم ؟ كلا ؛ فهم أصحاب أبدان وثيقة وبناء وهندسة لا يعرفون سواهما ..
أما الصين فأصحاب أثاث وصنعة لا أصحاب فكر وروية .
و الترك سباع للهراش تسبق أفعالهم عقولهم
والهنود أصحاب شعوذة وحيلة ليس لهم في العلم وسيلة
أعقل الأمم هم العرب ؛ إذ لم يكن لهم تؤمة ولا كتاب يدلهم , أهل بلد قفر ووحشة في الأنس لجأ كل واحد منهم في وحدته إلى فكره ونظره وعقله وعلموا أن معاشهم من الأرض فوسموا كل شيء بسمته وأوقاته وزمانه (...)
ثم علموا أن شربهم من السماء فوضعوا لذلك الأنواء واحتاجوا إلى الانتشار في الأرض فجعلوا النجوم أدلة
على إطراف الأرض (...)
ثم جعلوا بينهم شيئا ينهاهم عن المنكر ويرغبهم في الجميل ويحضهم على المكارم (...)
ليس لهم كلام إلا الحث على اصطناع المعروف ثم حفظ الجار وبذل المال وابتناء المحامد (...)
وكل هذا يصيبونه بعقولهم ويستخرجونه بفطنتهم وفطرتهم .
لا يتأدبون لأن لهم طباعا مؤدبة ،
ولا يتعلمون لأن لهم عقولا مدركة ؛
لذلك أقول وما يزال الكلام لابن المقفع إن العرب أعقل الأمم لصحة الفطرة واعتدال البنية
وصواب الفكر وذكاء الفهم ...
انتهى ..
وتعليقا على هذا الكلام الذي ينم عن حسن ظن أبعث رسالة
لابن المقفع أقول فيها ...
رحمك الله يا صاحب كليلة ودمنة ؛ فبعد ألف ومائتي عام لم يعد في العرب شيء مما ذكرت ؛
فقد تركوا الصحراء وتطاولوا في البنيان وعاشوا حياة ترف وتخمة .. ولم تعد حياتهم تسمح بالتأمل والتدبر لفرط انشغالهم بلقمة العيش ( نهارا ) وستار أكاديمي وMBC4 ( مساء )والسفر لأوربا ( صيفا ) وشرق آسيا ( شتاء ) ..
لم يعد لهم فكر سديد ولا عقل مجيد ولا صنعة تغنيهم عن بقية الأمم أما تناهيهم عن المنكر وحضهم على المكارم فتحول من فطرة وواقع إلى ديكور ومظاهر ..
أما شجاعتهم فتحولت إلى تخاذل ، وعزتهم إلى تواكل ،ونخوتهم إلى كسل وتجاهل ...
ثم عن أي عرب تتحدث أيها المخدوع الصالح ؛
فقد أصبحنا دولا عديدة وفرقا بديدة وتحولنا رغم كثرتنا إلى عرب بائدة وأصوات تائهة ومجرد غثاء كغثاء السيل !!
أيضا جانبك الصواب بخصوص ما ذكرته عن الفرس والروم والصين والهند ؛فالفرس أصبحوا أصحاب روية وبرامج نووية ..والروم توحدوا في " أوروبا عملاقة " تقود العالم في النزاهة وسياسة اللباقة ..أما الصين فأصبحت " ورشة العالم " وتحقق نمو اقتصادي يفوق المفروض والعادي ..أما الهنود فتركوا الشعوذة والحيلة وأصبحوا أرباب تقنية وعقول مبرمجة تقدم خدماتها عبر " الستالايت "
رحمك الله يا أبا محمد ؛ أعماك حب العرب عن شر قد اقترب
بعد ما كنا مفخرة الأمم تحولنا إلى مسـخرة الأمم
ابن المقفّع بين فكّي التاريخ
دافع عنه غير واحد من المؤرخين، ودحضوا عنه تهمة الزندقة التي اتهمها به أعداءه، منهم وائل حافظ خلف في تصديره لكتاب الأدب الصغير، وفي كتابه "خواطر حول كتاب كليلة ودمنة"، حيث قال في الكتاب الأول : ((كان عبد الله بن المقفع مجوسيًّا من أهل فارس، وكان يسمى روزبه بن داذويه، وأسلم على يد عيسى بن علي عم السفاح والمنصور، وأطلقوا على أبيه : المقفع – بفتح الفاء - ؛ لأن الحجاج بن يوسف الثقفي كان قد استعمله على الخراج، فخان، فعاقبه حتى تقفعت يداه. وقيل : بل هو المقفع – بكسر الفاء - ؛ نُسب إلى بيع القفاع وهي من الجريد كالمقاطف بلا آذان. وقد مات مقتولاً، واختلفوا في سبب مقتله والطريقة التي قُتل بها وفي سنة وفاته أيضًا، ومهما يكن من أمر فإنا لا نسلم أبدًا لمن قال: إنه قُتل على الزندقة ! واستدل بما أورده العلامة ابن كثير في "البداية والنهاية" [8] عن المهدي قال : ((ما وجد كتاب زندقة إلا وأصله من ابن المقفع، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد)) قالوا : ونسي الجاحظ، وهو رابعهم !!)) ا.هـ ونقول: أما "فلانٌ" وأمثالُه مِنَ الحَوَاقِّ فعسى، وأما ابن المقفع فلا ؛ فَكُتُبُهُ بين أيدينا تكاد تنطق قائلة : ((وايم الله ! إنَّّ صاحبي لبريء مما نُسب إليه)) !. وليت شعري كيف ساغ لفلان وفلان وفلان ممن ترجموا للرجل أن يجزموا بذلك، وكلهم قد صَفِرَت يَدُهُ من البرهان؟ إنْ هي إلا تهمة تناقلوها بدون بيان. وقِدْمًا اتهموا أبا العلاء المعري بذلك حتى قيض الله له مِن جهابذة المتأخرىن مَن أثبت بالدليل الساطع والبرهان القاطع براءته
. فتبصروا رحمكم الله)) انتهى كلامه.[9]
***********
وكان ابن المقفّع صاحب علم واسع، وعرف الثقافة العربية والفارسية واليونانية والهندية. وإذا كان ابن المقفّع اظهر عيوب النُّظُم الإدارية في عصره وفضّل النظم الإدارية الفارسية، فالحقيقة إن العرب كانوا بعيدين عن النظم الإدارية. فبعد قيام الدولة الإسلامية في عهد الرسول، أخذ الفاروق عمر بن الخطاب الكثير من النظم الإدارية عن الفرس، واستطاع بهذا بناء دولة قوية. وكان لهذا أثره الكبير في تطوّر الدولة الإسلامية .
قتل ابن المقفّع وهو في مقتبل العمر، ولم يتجاوز السادسة والثلاثين عند موته. إلا انه خلّف لنا من الآثار الكثيرة ما يشهد على سعة عقله وعبقريته، وانه صاحب المدرسة الرائدة في النثر. عرف ابن المقفع بكرهه للنساء وخوفه من مكائدهن وقد وصفهن بالطعام لاياكله الإنسان الا إذا جاع والطعام سريع الفساد! وقد كان وسيم الملامح.
مؤلفات
بعض مؤلفات ابن المقفّع نقل من الفارسية واليونانية والهندية. ومن مؤلفاته:
•- الدرة الثمينة والجوهرة المكنونة.
•- مزدك.
•- باري ترمينياس.
•- أيين نامة ـ في عادات الفرس.
•- التاج ـ في سيرة أنو شروان.
•- أيساغوجي ـ المدخل.
• -ميلية سامي ووشتاتي حسام وعمراني نوفل
•- الأدب الصغير. نشره "طاهر الجزائري"، ثم نُشر بتحقيق "أحمد زكي باشا" سنة 1911 م، وصدر حديثًا بتحقيق "وائل حافظ خلف" سنة 2011 م. هنا
•- رسالة الصحابة.
•كليلة ودمنه ـ نقله عن الهندية. (ترجمة)
•- الأدب الكبير
•الأدب الصغير.
بقي ابن المقفّع وبقيت الكتب التي كتبها أو نقلها عن الفارسية أو
الهندية والبنغالية أو اليونانية مرجعا لأنّ الكتب الأصلية ضاعت
*************.
أشهر اقواله:
علينا أولا أن نشير إلى أن ابن المقفع قد نقل رهطا كبيرا من الحكم عن الفارسية ومآثر العرب وكل ما وجده من أقوال ذات أثر عظيم في نفس البشر كحكم الفلاسفة اليونان مثلا. ولابد على كل من يريد أن يقرأ حكم بليغ العرب أن يرجع إلى كتبه المعروفة : "كليلة ودمنة"، الأدب الصغير والأدب الكبير، الدرة اليتيمة ورسالة الصحابة. ولابأس أن نأتي لا تدري أيهما أصوبُ فانظر أيهُما أقربُ إلى هواك فخالفه، فإن أكثر الصواب في خلاف الهوى. وليجتمع في قلبك الافتقارُ إلى الناس والاستغناء عنهم، وليكن افتقارك إليهم في لين كلمتك لهم، وحسن بشرك بهم. وليكن استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك، وبقاء عزك.
وقال: اعلم أن لسانك أداةٌ مُصلتةٌ، يتغالبُ عليه عقلُك وغضبُك وهواك وجهلك. فكُل غالبٍ مستمتعٌ به، وصارفه في محبته، فإذا غلب عليه عقلك فهو لك، وإن غلب عليه شيءٌ من أشباه ما سميتُ لك فهو لعدوك. فإن استطعتَ أن تحتفظ به وتصونهُ فلا يكونَ إلا لك، ولا يستولي عليه أو يشاركك فيه عدوك، فافعل.
وقال: إذا نابت أخاك إحدى النوائب من زوال نعمة أو نزول بلية، فاعلم أنك قد ابتليتَ معه: إما بالمؤاساة فتشاركه في البلية، وإما بالخذلان فتحتملُ العارَ فالتمس المخرجَ عند أشباه ذلك، وآثر مروءتك على ما سواها. فإن نزلت الجائحةُ التي تأبى نفسك مشاركةَ أخيك فيها فأجمل، فلعلّ الإجمال يسعك، لقلة الإجمال في الناس. وإذا أصاب أخاك فضلٌ فإنه ليس في دنوك منه، وابتغائك مودته، وتواضعك له مذلةٌ. فاغتنم ذلك، واعمل به.
يتبع في الحلقة الثانية , مع محبتي
882 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع