د.ضرغام الدباغ
خرافة العلم الكامل
بيدي عمل (تأليف) أقوم به بنشاط (المقاومة اليونانية للأحتلال الألماني 1941 ــ 1944)، وفيه مصادر كثيرة باللغة الألمانية ، والكتاب يبحث في موضوع سبق وأن اشتغلت فيه من أعمال سابقة، وهي التفاصيل السياسية والاستراتيجية للحرب العالمية الثانية، التي كنت وما أزال أعتقد أنه ميدان بحث واسع الأرجاء متعدد الجنبات، وكنت أظن لحد يوم الأمس (كنت أعمل في الكتاب حتى الثالثة فجراً) أن ليس هناك معلومة قد فانتني في هذا المجال، وفوجئت بمعلومة كانت تشغل فكري دون توقف منذ زمن بعيد، لماذا لم يحتل الألمان جزيرة مالطا وهي ذات ضرورة حاسمة من أجل السيطرة على البحر المتوسط ولنجاح عملياتهم في شمال أفريقيا (ليبيا ومصر) أو في الشرق الأوسط، هل يعقل أن القيادة العسكرية الألمانية لم تدرك هذه الحقيقة ؟
وفي الواقع، هذه ليست المرة الأولى التي أواجه فيها هذه الحقيقة: أنك كلما تقدمت في الدراسة والعلم أكثر، كلما اكتشفت أن هناك زوايا قد فاتت عليك، لعدة أسباب، إما أن النقطة عصية على الفهم، أو أنها نقطة غير جذابة، أو أنها تبدو للكثيرين غير مهمة، والكتاب والمؤرخين حين يكتبون عن معارك شمال أفريقيا مأخوذون بقصة ثعلب الصحراء (رومل)، وبمعركة العلمين، وبمونتغمري، ومعركة طبرق ....الخ وقلما يتساءل أحدهم، لما لم تحتل ألمانيا جزيرة مالطا ليكون تموين الحملة الأفريقية سهلاً ويجعل الأنتصار فيها ممكناً ..؟ كنت قد كتبت في إحدى كتبي أن بحر العلم لا ضفاف له ... حقاً المحيط الباسفيكي (الهادئ) تبلغ مساحته (169.2 كم مربع) وهو اليوم يقطع خلال ساعات معدودة بالطائرة، ويقطع بالسفن والبواخر، بل وحتى بالشراعية منها .. ولكنك هيهات لك أن تبلغ نهاية بحر العلم وقراره.
وهناك موضوعات سياسية / تاريخية قد تعمقت فيها منذ عشرات السنين لدرجة أني أحفظ عن ظهر قلب، حتى الحوارات بين الشخصيات المهمة فيها. ومفردات وتفاصيل، وأحياناً حتى الإحصائيات. وهناك موضوعات في العلوم السياسية والاقتصاد الدولي قد درستها بشكل عميق بعدة لغات، ولكني أعرف أن محال أن تبلغ الكمال أو تزعم أمتلاك ناصية العلم.
وهذه الخاطرة تقود لأخرى .. فعندما كنا في السجن، كان معنا شيخ جليل كان آية في التهذيب والخلق العالي، قبل أن يكون عالم دين كاد أن يبلغ مرحلة الاجتهاد، هو الشيخ محمد الطبطبائي رحمه الله رحمة واسعة. وكنت على علاقة وثيقة به وبيننا مودة وأحترام مع هذا العالم المحترم، ونتحادث حتى في الموضوعات التي يتجنبها الناس عامة، أو كان يتجنب الشيخ طرقها مع غيري. والحديث يجر إلى آخر، وذات يوم قلت له وأنا أختار عباراتي ومصطلحاتي، قلت له: يا شيخنا الجليل الناس، وأنا منهم، نقرأ الاقتصاد السياسي في الثانوية سنتان (سابقاً واليوم ثلاث سنوات) ثم في كلية الاقتصاد 4 سنوات، ثم يدرس الماجستير بين 2ـ 3 سنوات، ثم الدكتوراه 4 سنوات، المجموع 11 سنة يدرسها في كتب ومناهج. وسابقاً كانت شهادة الماجستير والدكتوراه تحصل بعد كلية الحقوق (القانون) ولم تكن هناك كلية الاقتصاد، ثم يذهب لأوربا ويدرس الاقتصاد. واليوم (من بعد الحرب العالمية الثانية فصاعداً) تنوعت فروع الاقتصاد وهناك جامعة في ألمانيا تضم 12 كلية أقتصاد واليوم ربما أكثر، وأنا شخصياً رغم كون تخصصي هو في العلوم السياسية، إلا أن بوسعي أدرس بعض فروع الاقتصاد: الاقتصاد السياسي للرأسمالية، والاشتراكية، أقتصاد التنمية، الاقتصاد الدولي، مثلاً .. ولكن كل معلوماتي عن بعض فروع الاقتصاد لا تتجاوز البضعة أسطر ... بضعة أسطر فقط مثل علم المالية العامة، الاحصاء وإلى حد ما التخطيط .. وهذه الحصيلة جاءت بعد سنوات طويلة من القراءة ...
وهنا سألت شيخنا المحترم، رجاء كيف بوسع رجل في السلطة، إن كان معمماً أو حاسر الرأس ... كيف يدير دولة، مليئة بالمشاكل والتعقيدات، وقد يكون هذا الرجل محترم وله صفات شخصية حميدة، ولكن كيف له أن يدير دولة ..؟ وفي بلداننا الحاكم لا يستشير، بل الخبير المستشار يتوارى خجلاً ... بالأحرى تخوفاً تحت طاولة المسؤول ... بالله عليكم ما يقول رئيس الوزراء لوزير المالية إذا سأله : سيادة الرئيس نريد عمل مناقلة ... بماذا سيجيبه ..؟؟ سيقول له بلغة مكسرة : الجهل نورن ... يا بني ... أتكل على الله وأعمل اللازم .. تأملني الشيخ الطبطبائي عميقاً ... وأدرك أبعاد ما أقول ... وهو رأسه مؤيدأ ومدركاً بعض من أبعاد كارثتنا.
الذي أنقذ اليونان من كارثة محدقة أعظم المتفائبين كانوا يعتقدون أن اليونان دخلت في نفق مظلم لن تخرج منه إلا بعد قرن، وكادت اليونان أن تباع كما تباع المكائن العاطلة بالخردة ... وزير شاب من مواليد 1961 أسمه يانس فاكورافيس (Yanis Varoufakis) يساري عبقري أستاذ اقتصاد هو من أنقذ اليونان وأبقاها دولة.
أنا أعرف أشخاصاً تولوا مسؤوليات كبرى بلا خبرة سابقة ولا تجربة، ولا تأهيل دراسي بسيط، إذا تولى إدارة مدرسة أبتدائية فسوف يخربها بالتأكيد المؤكد. المرحوم سعيد قزاز لم يكن قد حصل على دراسة جامعية على حد علمي، ولا حتى ثانوية، ولكنه أشتغل في الإدارة بكافة مراحلها من درجة كاتب ومعاون ملاحظ وملاحظ ورئيس ملاحظين، ومدير تحرير ومدير ناحية وقائمقام ومتصرف لواء (محافظ) في عدة محافظات، وهي مسيرة قطع فيها نحو أربعة عقود، وعندما صار وزيراً كانت كفائته مضرب الأمثال ولحد اليوم .. لم يعرف عنه ذات يوم أنه كان يفرق بين عراقي وعراقي آخر، القانون يفعل ذلك وليس الأفراد
4274 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع