قاسم محمد داود
العولمة مصطلح جديد الا انها كمفهوم ليست ابتكاراً حديثاً
يُستخدم مفهوم (العولمة )لوصف العمليات التي تكتَسب بها العلاقات الاجتماعية نوعاً من عدم الفصل وتلاشي المسافة حيث تجري الحياة في العالم كمكان واحد قرية صغيرة .
وقد ظهر هذا المصطلح في أواخر القرن العشرين واوائل القرن الحادي والعشرين وهو من ابتكار فلاسفة الرأسمالية العالمية .فعلى سبيل المثال يعرفه المفكر البريطاني "رونالد روبرتسون "بأنه :"اتجاه تاريخي نحو انكماش العالم وزيادة وعي الافراد والمجتمعات بهذا الانكماش ." كذلك عرّفَ العولمة "مالكولم واترز "مؤلف كتاب العولمة بأنها "كل المستجدات والتطورات التي تسعى بقصد او بدون قصد الى دمج سكان العالم في مجتمع عالمي واحد ".
روجت وسائل الاعلام الغربي للعولمة وكالمعتاد لحقت بها وسائل الاعلام العربية وبشرت بعالم بلا حدود او قيود وما يتيح ذلك من حرية السفر والانتقال والإقامة وركزت وسائل الاعلام الموجه على فكرة جديده للهجرة في عالم واحد يتحرك فيه الناس والبضائع والأفكار حركة حرة في كل مكان من هذا العالم .
لكن رغم ان (العولمة )مصطلح جديد الا انها كمفهوم ليست ابتكاراً حديثاً ،فمن يقرأ تاريخ الامبراطوريات التي ضمت شعوباً ودولاً مختلفة يجد ان هناك نوعاً من العولمة ،فالامبراطورية الرومانية التي وفرت للشعوب التي حكمتها في حوض البحر المتوسط نوعاً من الوحدة السياسية والاقتصادية على مدى قرون طويلة ،وكان يعرف ب(السلام الروماني )، حيث كانت التجارة والافراد يتنقلون بحرية داخل حدود الامبراطورية ويمكن القول ان العولمة الرومانية كانت اكثر صدقاً من عولمة العصر الحالي وان اختلفت اساليب التطبيق .
اما الحضارة العربية الإسلامية التي ظهرت في القرنين السابع والثامن الميلاديين فقد قسمت عالم البحر المتوسط الى ثلاث حضارات لكل واحدة ميزاتها : الحضارة الرومانية الآفلة والحضارة البيزنطية التي تمثل القسم الشرقي من الإمبراطورية الرومانية القديمة والحضارة العربية الإسلامية التي ورثت الكثير من أراضي الامبراطوريتين ونظمهما. وفي رحاب الدولة العربية الإسلامية ساد مفهوم الوحدة السياسية والاقتصادية الذي تعززه الوحدة الدينية وخلق نوعا ً من العولمة الإسلامية .ومع ظهور الحضارة العربية الإسلامية برزت سمات العلاقات الاقتصادية المركبة المتشابكة بين اوربا الغربية الكاثوليكية والعالم الإسلامي .ولم تقف الديانة في طريق التبادل التجاري وحرية حركة الناس من المسلمين والمسيحين واليهود ،آنذاك بأي شكل من الاشكال .فقد عرفت ديار الإسلام ما يمكن ان نسميه اليوم بالعولمة الذي يعني حركة حرة للناس والبضائع والأفكار على نحو أكثر صدقاً من عولمة الرأسمالية العالمية التي نشهدها اليوم وأكثر فعالية .
لقد كان العالم الإسلامي في ذلك الزمان يعمل بموجب المبدأ القائل :-"ان التجارة الحرة يجب ان تكون مصحوبة بحرية التنقل والحركة للناس مهما كانت اعراقهم او الوانهم او حتى دياناتهم " .ورغم ان هذا المبدأ حسب مزاعم الغرب بأنه مبدأ ليبرالي حديث فأنه لم يوضع موضع الممارسة الفعلية في العصر الحديث على الاطلاق . ففي الوقت الذي كانت وسائل اعلام الدول الغنية تروج للعولمة كانت حكوماتها تزيد من تشديد القيود على حركة الناس القادمين من الدول الفقيرة للدرجة التي جعلت من محاولات الوصول الى اوربا وأستراليا مغامرات انتحارية بشهادة حوادث غرق سفن المهاجرين عن طريق البحر هنا وهناك كما ازدهرت تجارة الهجرة غير المشروعة . لقد اتضح ان عولمة اليوم فصلت على مقاييس الدول الصناعية المتقدمة ،لغرض السيطرة على المواد الخام والأسواق والعمالة الرخيصة والمقدرات الاقتصادية والسياسية في بلاد العالم الفقير من خلال حركة رأس المال الذي تملكه الشركات عابرة القارات والدول الكبرى على حساب الجزء الفقير من العالم وفي نفس الوقت فقد فرضت هذه الدول قيود شديدة على السفر والإقامة والهجرة .
ولو عدنا الى عولمة الحضارة العربية الإسلامية وبشهادة الكثير من المصادر التاريخية لوجدنا ان الموقف من حرية التجارة وانتقال الافراد والبضائع كان متقدماً عن مواقف الغرب بجناحيه الأوربي والامريكي من ناحية وانه الأقرب الى مفهوم العولمة من ناحية أخرى . ففي عصور ازدهار هذه الحضارة كانت السفن تجوب البحار والقوافل على الطرق التجارية تنقل البضائع والناس الى كل انحاء العالم المعروف آنذاك ،وكانت هناك أماكن إقامة خاصة للتجار الاوربين شبه دائمة في البلاد العربية والإسلامية خاصة في حوض البحر المتوسط ،وحتى عندما غزت اوربا المنطقة العربية فيما يعرف بالحروب الصليبية لم يُمنع الافراد والتجار من الإقامة المؤقته او الدائمة في بلاد العالم الإسلامي . وكانت هناك حرية تنقّل الكتب والأفكار والمعارف وحتى الاذواق على نطاق واسع في عالم ذلك العصر . لقد كانت العولمة التي عرفها ذلك الزمان تؤمن بالحرية والمساواة في فرص العمل لجميع الناس بغض النظر عن العرق او اللون او الدين او الموطن الأصلي ،وكان الشرط الوحيد هو الكفاءة والتميز ولم تكن هناك وظائف ممتازة خاصة بالمواطنين و وظائف حقيرة خاصة بالاجانب والمهاجرين كما يحدث في دول الغرب الذي لا يفسح مجالاً سوى لأصحاب المؤهلات والخبرات الاستثنائية من المهاجرين .اخيراً هل كانت تلك عولمة حقيقية على الرغم من عدم وجود شعارات او دعاية تروج وتهلل لها ،ام ان عولمة اليوم دعاية بلا مضمون وشعارات فارغة وتبرير غربي لشركاته الكبرى العابرة للقارات للسيطرة على العالم ...؟
4768 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع