الدكتور محمد عياش الكبيسي
مأساة المسلمين في بورما
المسلمون في بورما -أو ميانمار- ليسوا عنصراً طارئاً في تلك البلاد، بل هم أهل أرض وملك منذ مئات السنين، وغالبهم من أهل البلاد الأصليين، الذين دخلوا في الإسلام مبكّراً، ثم انضمّ إليهم عدد غير قليل من أهل العراق وحضرموت أيام الدولة العبّاسية، لغرض الدعوة، والتعليم، والتجارة، وامتزجوا بهم.أسس المسلمون هناك مملكتهم التي أطلقوا عليها "أركان"، والاسم كما تشير الدراسات العلمية مأخوذ من أركان الإسلام، وهو يشير إلى البعد الدعوي والتعليمي الذي تميّز به المسلمون هناك، وما زالوا يحملون هذا الاسم، ويعتزون به "الأركاني"، وقد قابلت عدداً منهم في مكة المكرمة -شرفها الله-، وأما اسم "الروهينجا"، فالذي يرجحه الباحث محمد أمين الندوي أنه مأخوذ من منطقة قرب الكوفة.اللغة الروهينجية هي لغة المسلمين هناك، وهي لغة مزيج من العربية واللغات المحلية، إلا أنها تكتب بالحروف العربية، وتشكل المفردات العربية فيها قرابة 50 %. حاولت بورما -وهي دولة مجاورة وذات أغلبية بوذية- احتلال مملكة أركان مرات عديدة، فتفشل مرة وتنجح أخرى، ثم يقوم المسلمون بتحرير مملكتهم، إلى أن جاء الاحتلال الأخير في سنة 1784م، حيث تحولت مملكة أركان إلى إقليم تابع لبورما، وإلى اليوم، وهذا شبيه لما حصل للأحواز العربية التي ضمتها إيران أوائل القرن الماضي.مارس المحتل البورمي -طيلة هذه السنوات- كل ما من شأنه تغيير هوية هذه المملكة، وتاريخها، وثقافة أبنائها، معتمداً على سياسات تعليمية وإعلامية موجّهة لهذا الغرض، مع سياسة الترغيب والترهيب، حتى وصل الأمر إلى الحال الذي تؤكّد فيه حكومة بورما إصرارها على طرد المسلمين نهائياً من أرضهم ومملكتهم، وهو انعكاس لفشل الحكومة في محاولاتها البائسة لتغيير هوية هذا المجتمع.إن صور المجازر الدموية، وحرق الأطفال والنساء، وهدم القرى بالكامل لم تعد خافية على أحد، وقد بلغت من الكثرة والقسوة، بحيث يصعب على المتابع تمييزها عن صور الدمار الناتج عن الكوارث الطبيعية، كالزلازل والفيضانات!إن تغافل المجتمع الدولي لا يمكن تفسيره إلا على التواطؤ المكشوف، فمجلس الأمن ما مهمته بالضبط إذا كان يرى نفسه غير معني بكل هذه الإبادة والجريمة المستمرة والمنظمة بحق شعب كامل من شعوب الأرض؟ وما معنى سكوت المؤسسات والجمعيات المعنية أصلاً بحقوق الإنسان، ونشر ثقافة التعايش السلمي، ومكافحة الإرهاب والتطرف؟أما الأغرب من هذا، فهو سكوت المسلمين أنفسهم، فهذه الملايين من البشر -التي تسدّ عين الشمس بكثرتها- لم تعد تملك وزن الجرادة في التأثير الدولي، لقد سكتنا عن فلسطين، وقلنا إنها إسرائيل المدعومة من العالم كله، وسكتنا عن العراق وسوريا، وقلنا هذه لعبة الكبار، لكن بورما يا ناس، بورما؟ ومع هذا، عجزتم حتى عن التلويح بطرد سفرائها؟!مع أني لا أحبّذ التفسير القدري للأحداث، لكني في هذه المأساة -التي لم أجد لها تفسيراً معقولاً- أجدني مضطراً لاستدعاء الحديث الشريف (يوشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل)
1129 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع