سيف شمس الدين الالوسي/ بروكسل
مذكرات ميت
قصة قصيرة
لم أكن أدرُكَ يوماً إن مذكراتي التي دفنتها قبل دفني ستقع بيد أحد ما وسيتم نشرها، عرفت ذلك من جاري الذي دُفِنَ منذ فترة وجيزة.
أخبرني إنها قد نُشِرت ولَقيَت شهرة كبيرة، وقد أثارت جدلاً واسعاً بين فئات الناس، لم أعرف أبداً كيف لًقيت ومن الذي ألقي القبض عليها، دفنتها هرباً من العسس، وها أنا ما زلت خائفاً أن يأتوا إلى قبري لينبشوه ويبعثوني وليقتلوني مرة أخرى.
لا أريد أن أُبعَث مرة أخرى مثل مذكراتي، لا أريد من أحد أن يعبث بعظامي، ماذا يريدون من جمجمتي فهي الآن فارغة، ليس فيها شيء سوى التراب؟ أحقاً ما زلت أشكل خطراً عليهم ؟
أحاول تغيير قبري لقبر ثانٍ عساي التخلص من موت آخر، يمكن أن أُحرق يمكن أن أًنثر كالحلاج، يمكن أن أكون طعاماً للكلاب؟
ما أغربني بعد أن كنت أخشى الموت ها أنا أخشى العودة للحياة، موتي هو العودة لها، هنا الطمأنينة والحياة والركود والسكون .
حياتي لم تكن أفضل من هذا التراب الذي يرقد فوق صدري، حياتي هنا ليست أكثر ظلاماً من ذي قبل، ها أنا هنا أرقد بسلام.
أعرف أن أطفالي الصغار الآن يعانون جوعاً، أعرف إن زوجتي تندب حظها كل يوم وربما باعت شرفها لتقتات حرف خبز، أعرف بأن أمي الآن تبكيني مع مطلعِ الشمس وغروبِها، أعرف بأن أبي قد أنحنى ظهره وشكا الزمن بسببي، لكني أعلم جيداً إنهم سيلحقونني وسيرقدون بسلام وهكذا إلى اللا منتهى .
تركت مدرستي بصباي بعد أن إجتاحنا البؤس والفقر والحصار، تركت مدرستي بعد أن أوشكنا على الهلاك، تركتها بعد أن كادت أخواتي أن يمتهن الدعارة، تركتها وهكذا إلى الأبد، لكي أصبح آلة زمنية تعمل دون توقف فقط لكي تعد الدقائق والساعات.
اشتغلت بائع شاي وصباغاً للأحذية، إشتغلت عامل بناء وبائعاً للحلوى، إمتهنت القوادة لكي أجنب أهلي الدعارة، إمتهنت التلصص لكي أجنبهم السرقة، كنت مذنباً من أمر لم أكن أنا سببه، بل كنت ضحيته.
أنا يا أيها القوم تعيس سقيم لا أدرك ما حولي، كل شيء ليس له إسم، جردت من كل شيء حتى من أنا.
أعادني الموت إلى يوم ولادتي، خرجت من دنياي كما أتيتها عارياً ، وها أنا ولدت مرة أخرى، أعادني الموت إلى حيث كنت صبياً صغيراً منتظراً عودة أبيه من جبهة القتال، رحى الحرب دائرة ولم تتوقف، كنت أخشى أن يأتينا بنعشه مزيناً بعلم كاذب لطالما نُزِفَت دماء أزكى وأفضل منه.
أنا هنا أحد ضحاياه، فمازالت الرصاصة جاثمة في جمجمتي، لا أعرف لماذا أحد رفاقي وضعها هنا لتستقر فيها وهكذا إلى الأبد، قد أكلت ديداني كل شيء إلا هي بقيت مع عظامي .
كنت يوماً صغيراً غير واعياً ما هي الحياة، كنت أعرف فقط هو إني بحاجة للطعام، كاد الجوع أن يفقدني وعيي فتحولت فجأة إلى وحش كاسر لا يرى أي شيء أمامه إلا كيف يملئ تلك المعدة التي لم يعد لها أي وجود.
مررت من عربة صغيرة لشيخ كبير كان يبيع الفاكهة فسرقت تفاحة وبعدها تفاحة، وبعدها إتجهت لعربة أخرى لأسرق منها قطعة خبز لكنها لم تستقر في جوفي كل ما أعرفه إني فتحت عيني من بعدها وآثار كدمات الرفس ظاهرة على بدني، لا أعرف ماذا حل بي ولماذا، كل ما أردت فعله هو ملئ تلك المعدة التي لطالما آذتني بجوعها.
عرفت حينها إن من يريد ذلك عليه أولاً إما أن يعمل جاهداً وأن يتعب بدنه أولاً حتى يستطيع في النهاية الحصول على قوته أو أن يكون كلب صيد وضيعاً، إني لم أختر تلك الحياة ولم أختر الرحيل عنها، إني لم أختر أن أكون مسؤولاً عن عائلةٍ التي لم يكن لي الخيار باختيارها.
كل شيء قد خرج عن نطاق الوعي، كنت أخاف من العسس الذين ربما يوماً يرحلوني عن الدنيا رغماً عني وها أنا الآن خائفاً منهم عسا أن يخرجونني إليها .
أذكر يوماً قد قرأت جملة لأحد الوجوديين قائلاً ماذا لو كنت شجرة بين الأشجار، حيواناً بين الحيوانات؟ بقيت تلك عالقة في ذهني، ما زالت لهذه اللحظة، بقيت للحظة التي لم يعد لدي أي ذهن فيا ترى أين مستقرة تلك الذاكرة ؟
ماذا لو كنت حياً بين الأحياء، ماذا لو كنت تراباً أو رصاصة بندقية، ماذا لو كنت قاتلاً، ماذا لو كنت صمتاً، ماذا لو كنت دودة تأكل أجساد البشر، ماذا لو كنت مخالب طير جارح، ماذا لو كنت فم تمساح، ماذا لو كنت سم عقرب وماذا لو كنت ريش حمامة بيضاء، ماذا لو كنت نملة ولدت في جوف الأرض ولتموت هناك، ماذا لو كنت سمكة سردين، ماذا لو كنت تلك الديدان التي أكلت جسدي بعد أن كان يمدها بالحياة، إنقلبت عليه بعد أن سكن، فقامت بالتهامه؟ كل شيء بالنسبة لي سيان فلا شيء يفرق عن الآخر .
سأشعل شمعة أمل معطرة "بالفانيلا" لكل من يأتي إلى هنا لكي يرقد بصمت، لكل من تخلص من حياة الشقاء والحروب والفتن والمجاعات.
ها أنا أرقد بسلام بعد أن كان الجوع والبرد يفتكان بي من كل جانب كضباع اِفترست طريدتها لتأكلها قبل موتها.
تعودنا أن نكون ظلاميين يأكل بعضنا البعض، اِنفلت زمام أمر الطبيعة وخرج القطار عن مساره بعد إن هجم عليه رعاة الأبقار .
نحن أيها القوم عبارة عن شخوص "ديستويفسكي" مجتمعين من كل صفحات روايته، نتسامر ونتحاور بعد أن بذل لنا كل حياته المأساوية، نحن أيتها الرفاة القابعة بجواري التي يعمها الصمت عبارة عن لا شيء لفظتها الحياة فقبعنا هنا منذ سنين لا نعلمها، منتظرين عودة "غودو"، رغم يقيننا انه لن يأتي.
الزمن هنا متوقف كسابق عهده، نحن من اخترعناه ونحن من يريد التخلص منه، نحن عبارة عن "فرانكشتاين لماري شيلي" التي خلقته وأرادت عدمه فلم تفلح، نحن نتائج عن أعمال لم يكن لها أي دور بفعلها .
ها أنا لم أختر أن أكون بائعاً للسجائر والمناديل الورقية، أقف بتقاطعات الطرقات وأرصفتها متوسلاً للسابلة لكي يشتروا مني، أنا لم أختر هذا الشيء بل هو من اختارني، أنا لم اختر أن تكون ساقي معاقة وأعاني سوءا في المشي، إني لم اختر أن أكون ضحية رصاصة من شخص لا يعرفني فقط نظر إلى هويتي لتنطلق من فوهة مسدس لم يصنعه هو بل صنعه شخص روسي أو أمريكي لكي يهديني موت الذي لم أشأ اختياره .
أنا لم أشأ أن أكون "ميشكين" بطل رواية الأبله لديسكوفيسكي، أنا لم أشأ أن أكون "سيزيف" يحمل صخرته ابد الدهر، أنا لم أشأ أن أكون "كوازيمودو" لكي أنقذ "ازميرالدا" ولكي أبقى طول الدهر قارعاً أجراس نوتردام، كما إني لم أشأ أن أكون يوما "الياس نخلة" الذي رماني المطاف إلى أن أكون مهرباً للملابس المستعملة عبر الحدود بعدما قطعوا أشجاري ورموها لكي أكون احد شخوص عبدالرحمن منيف .
الحياة عبارة عن 25 ساعة، 24منها خارج عن إرادتنا نعيش فيها على هامش الحياة والساعة المتبقية هي التي خارجة عن إرادتنا، نعيشها رغماً عنا إن شئنا قبولها أو لم نشأ، الساعة الخامسة والعشرون هي وجودنا ومنفانا وحبنا وآلامنا وسعادتنا وتعاستنا، الساعة ال25 هي عندما تكون خارجاً عن الزمن عندها ستنكشف لك الرؤيا، وتكون عارياً عن كل شي حتى عن الحقائق.
ها هي الرصاصة ما زالت تؤلمني، ستبقى مستقرة في جمجمتي ولا أنساها حتى وان نسوني الناس وانطوت آخر صفحة من حياتي، فلم يعد شيئا شاهداً على حياتي سوى تلك الرصاصة.
1132 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع