محمود سعيد
أحيّ أنا أم ميّت؟
لكي يتسلّم أهلي راتبي التّقاعديّ في العراق "ما يعادل مئة وسبعة وستون دولاراً وثلاثة عشر سنتاً" يتوجّب علي استخراج وثيقة إثبات حياة، مصدّقة من وزارة الخارجيّة الأمريكيّة في شيكاغو. كنت في السّنوات السّابقة أذهب إلى السّيد إيشو مدير الجمعيّة الآثوريّة، في شارع بيترسون مع ويسترن القريب إلى بيتي.
يستقبلني السّيد إيشو بابتسامة حلوة، يشدّ على يدي بحرارة. يضيّفني بفنجان قهوة، ثم بقدح شاي عراقيّ جيّد، وأحياناً يقدّم لي كعكة، أو قطعة كيك لذيذ. يضع صورتي على الاستمارة المعتمدة. يطمغ العريضة في ختم الجمعيّة الخاصّ المعترف به من قبل الجهات الرّسميّة. بعد أن ينتهي يرافقني باحترام حتى الباب. أشعر بامتنان لهذه المعاملة الكريمة إلى آخر حدّ.
تتمّ العمليّة في خلال وقت لا يزيد على ساعة بما فيه مسافة الطّريق ذهاباً، وإياباً. عندما حاولتُ في كانون الأول سنة 2009 استخراج وثيقة إثبات الحياة المعتادة أخبرني السّيد إيشو متأسفاً أنّني يجب أن أذهب إلى ديترويت "450 كم" لأنّ الحكومة العراقيّة انتزعت هذه الصلاحية منهم مع غيرها.
أردت أن أعرف موقع القنصليّة بوساطة الهاتف لكنّي فشلت. لا يجيب على مكالمتي رجل حيّ. أكره آلات التّسجيل. يأتي الكلام من خلال الهاتف بصورة متشنّجة، يردد بصوت مزعج: أذكر اسم الموظف، أو رقم تسلسله بالقنصليّة.
ذلك مستحيل. لا أعرف اسم أيّ موظف، ولا رقم تسلسله. أنا بعيد عن القنصليّة مئات الأميال. ما العمل؟ يتوجب عليّ أن أنتظر حتى ينتهي الحديث المسجّل الطويل. ربما في النهاية يتضح الأمر. الحمد لله. جاء شيء واضح بعد تلك التعمية، أمر آخر : ضع رقم هاتفك واسمك الكامل. سنتّصل بك بعد قليل.
انتظرت، لم يتصل أحد.
بحثت عمن مرّ بالتجربة نفسها في شيكاغو، قال لي حال عرف ما أنويه: "لا فائدة من الاتصال. يجب عليك الذهاب إلى ديترويت، التّلفون حيلة للتخلص من المراجعين". هناك المئات مثلك هنا وفي كل ولاية أمريكية. ولكي لا يزعجوا أنفسهم، يتركون العمل يتكدس، ثم يقومون بمثل هذه الحيلة لركل المراجعين على قفاهم.
شعرت بالإحباط، سألته: "كم انتظرت مكالمتهم؟".
"لا تسأل.". قال ذلك لأنّه رأى ألمي. ثم ابتسمَ ساخرا: لا يحترمون الناس.
"كيف؟"
كاد يضحك: عليك أن تدرك أنهم عندما وضعوا في التسجيل "سنتّصل بك بعد قليل". يعني مدّة غير محدودة. وأن النظر في معاملات المواطنين يمر من خلال مزاج موظفي القنصلية لا من خلال القوانين. فالقضية التي يعهد بها إلى موظف معيّن، لا يعني أن عليه إنجازها حالاً، بل متى يروق له العمل بها. عليه أن يعمل وفق راحته النفسية. ربما أجاب بعد بضع دقائق فعلاً، أو ربما في نفس اليوم، وإن كان مشغول البال. أو مزاجه" بنفسجيّاً أو برتقاليّاً" يعني أنه كان محبطاً لسبب ما، فلا إجابة ولا هم يحزنون.
ابتسمت بدوري والألم يحزّ في صدري وأنا أسمع بعد أكثر من عشرين سنة تعبير "المزاج البنفسجي أو البرتقالي". كنا نردده دائماً لنصف ما هو سييء الخلق.
فجأة لمع ضوء في آخر النّفق. تذكّرت، أن "ميغ" وهي طالبة درّستها قبل سنتين. ذكرت لي أنّها تعمل في مقر الإدارة الأمريكيّة المحليّة هنا في شيكاغو، وأن معاملات القنصليّة الرسمية التي تتعلق بالموظفين والعاملين بالقنصلية تتم لا في واشنطن بل في شيكاغو. كونها احدى المراكز القليلة التي تدير شؤون القنصليات المتعددة في الوطن كله.
"ميغ" مسؤولة عن تصديق معاملات موظفي قنصليّتنا المحترمين الأنيقين "المؤدبين" في ديترويت، وأن موظفي القنصلية، "شديدي التهذيب" دائماً يعرضون عليها أن تلجأ إليهم إن احتاجت شيئاً من العراق.
اتصلت بـ "ميغ". يبهجني صوتها، فيه لكنة لذيذة تضفي على جمالها ألقاً يبهج النفس. تخيلتها أمامي تعدّل شعرها الذهب. شرحت لها المشكلة.
"لا بأس، انتظرني، سأحدّثك بعد قليل".
تمشيّت إلى أقرب محل "آيس كريم". لم أدخل. ضحكت على نفسي. الثلج بارتفاع قدم وأنا أذهب إلى محل "آيس كريم"؟ أيّ غباء! حتى أني لم اشتهه. إذاً لماذا ذهبت؟
رن الهاتف بعد نصف ساعة تقريباً، جاء صوت "ميغ"، فرحاً يبشرني: اتّصل بالقنصليّة الآن. أطلب أن تتكلم مع السّيد "س"، هذا هو رقم تسلسله في القنصلية: "557". أخبره أنّك من طرفي. ثم ضحكت ضحكة قصيرة: "سيسافر جيمي إلى واشنطون، لإجراء مقابلة في وزارة الدّاخلية،يريد أن يعمل ضابط شرطة. أتصدّق؟".
ضحكت بدوري: "أصدّق ما دمت قلت ذلك، لكن احذري".
"لماذا؟".
"ستخطفه منك شرطية حسناء".
قهقهتْ: لا تبقى حسناء في ذلك السلك، تنمسخ خلال أسبوع.
زرقتني ملاحظتها بمصل مرح أشاع الحبور إلى نفسي. اتصلت بالقنصليّة وأنا في مزاج رائق. طلبت السيد "س". بدا أنه ينتظرني. أجاب ما إن ذكرت اسمه وتسلسله في القنصليّة، والغريب أنّ لهجته كانت كما وصفته "ميغ" شديدة التّهذيب. ثم أضاف، بلهجة ناصحة واضحة مؤدّبة: تعال غداً إلى ديترويت واجلب معك كل ما تملك من وثائق عراقيّة رسميّة تخصّ الموضوع.
الثّلج في ديترويت بارتفاع قدم كما هو في شيكاغو، والرياح قارسة قارصة تحت الصّفر بعشرين درجة، تهبّ بشدّة تكاد تقتلع قبعتي، وأنا أسير. المسافة بين محطة القطار والقنصليّة تأخذ نحو نصف ساعة بسيارة الإجرة. لم أذهب إلى "موتيل" بل توجّهت وحقيبتي إلى القنصليّة مفعماً بأمل أن يساعدني السيّد "س" وأنهي المعاملة في اليوم نفسه، كما في الأوقات الخوالي، لأرجع إلى شقتي وأقوم بتحضير دروسي.
مبنى القنصلية دافئ، مريح. توجّهت نحو الاستعلامات، رجل في نحو الستين، له لحية قصيرة سوداء شابها البياض، حدّق ببي بجمود. سألت عن السيد "س".
قدّم لي ورقة: "اكتب اسمك هنا".
سجلت أسمي، اضفت: إنه ينتظرني، رجاء أبلغه ذلك.
هزّ رأسه. يبدو أن "س" مهمّ جداً، لأن الموظف نهض حالاً، أسرع في تلبية طلبي، اختفى في الغرف الدّاخلية.
يخدعني الصوت في الهاتف دائماً، يخيّب توقعاتي فعندما كلمت السيد "س" جسمته لي خيالاتي بجسد شخص طويل نحيف أعرج. لماذا أعرج؟ لا أدري. بعض الأحيان توغل خيالاتي في الأوهام. توقّعت أنه سيتّجه إليّ في الممر الطّويل ورأسه يترنح، بسبب عرجه كبندول الساعة يميناً وشمالاً فيصطدم بهذا الحائط أو ذاك. وأنه ما إن يصلني حتى يتهاوى على المنصة الفاصلة بين المراجعين والموظفين، وسيحتاج إلى ثلاثة أشخاص ليرفعوه، وشخص رابع يمسك رأسه بكلتا يديه ليفتح عينيه ليستطيع أن يراني. لكن كلّ هذا لم يحدث لأن الموظّف رجع وحده. نظر إليّ معتذراً: "السيّد "س" في إجازة.
"كم يوماً؟"
"لن يأتي قبل أسبوع". عقصت ما بين عيني وأنا أنظر إليه بحدّة: أنت تعرف أنه هنا وإلّا ما ذهبت إليه.
أحسّ بحرج شديد، أدرك أنه كشف نفسه بشكل فاضح، احمرّ وجهه وقال لي وعيناه مكسورتان، وبصوت مهزوم خافت، لا يمكن أن يمحو كذبته الفاقعة: عفواً، ظننته هنا.
أخرجت أوراقي، وقلت له إن السّيد "س" قال لي في الهاتف أن أجلب معي هذه الأوراق.
أمسك الموظف بوثائقي، فردها ورقة ورقة، نظر فيها جميعأً، ثم رفع عينيه، لكن نظراته الآن طبيعية، فقد تجاوزت سقطته، لا بل حلّ فيها شيء من مراوغة شديدة، قال بما يشبه الهمس وكأنه يكلّم نفسه: التّعليمات تغيّرت.
شهقت، لكنّي تمالكت نفسي: "تغيّرت؟.
هزّ رأسه: "نعم.".
"تغيّرت خلال يوم واحد؟".
ضحك: ثم ماذا؟ اليوم صباحاً، وصلت التعليمات الجديدة، هل هناك غريب في الأمر؟". قال ذلك وارتسمت على وجهه ملامح سخرية مؤلمة.
ضاق صدري، كدت أنفجر، لكنّي ضبطت أعصابي، قلت بهدوء: "لا، لا يمكن أن تتغير بهذه السرعة. هو نفسه البارحة طلب مني أن أجلب هذه الوثائق، إن تغيّرت فعلاً فهاتها لأرى التاريخ".
ازدادت ملامحه سخرية: لا يمكن أن نطلع أياً كان على وثائق رسميّة. هذه فوضى يعاقب عليها القانون، للقنصليّة أسرارها.
"لكني أطلب إنهاء معاملتي، أنا مواطن ومن حقي أن احصل على وثيقة الاستمرار بالحياة، ما دمت حيّاً، حياتي ليست من أسرار الدولة، أو القنصلية، تعليمات أي سفارة أو قنصلية في العالم كله لتسهيل أمور المواطنين العراقيين".
هزّ رأسه بعناد: "ليس عندي ما أضيف".
أذعنت بوجهة نظره الخاطئة، قلت له وأنا أستسلم: "حسناً، أعطني قائمة بالوثائق المطلوبة لأجلبها، وحدّد لي موعداً".
زفر بارتياح، نجح أسلوبه في التخلص مني، زفر: "هات صورة إثبات الحياة السّابقة، مع هذه الوثائق، لعل الأمور تسير بشكل أفضل".
توقفت، هتفت: قلت: "لعل! يعني غير متأكّد".
ضاعت عيناه في فضاء القنصلية، ثمّ هزّ رأسه جاداً: مؤكّد.
لم أكن واثقاً أنّني أمتلك نسخة منها. ظللت طيلة الطريق أفكر كيف أستعيدها إن كنت فقدتها. رجعت إلى شيكاغو. لم أجدها فعلاً. اتّصلت بأهلي وطلبت منهم أن يرسلوا لي بواسطة "السّكانر أو الفاكس" صورة اثبات الحياة السّابق.
بعد بضعة أيام توجّهت إلى ديترويت مرّة أخرى. وصلت القنصليّة في العاشرة صباحاً بعد سياقة ست ساعات كاملة، مع بعض الوقفات. اتجهت إلى المرافق لأغسل وجهي. وجدت ورق المرافق ورديّاً فاتحاً. ارتعبت. خرجت. لا بدّ أن هذه غرفة مراحيض السيدات. لا، لم يكن الأمر كذلك. مكتوب على الباب "حمام" من دون تعيين. إذاً لماذا ورق ورديّ؟ يبدو أن أشياء كثيرة تتغيّر في القنصليّة، ليس ورق الحمام فقط. فوجئت. موظف الاستعلامات رجل ثانٍ.
لماذا؟ بدل الشيخ الستيني رأيت رجلاً في الخمسين، نصف ملتحٍ، ذا عينين صفراوين، وملامح سمحة. كانت القاعة مليئة بمواطنين آثوريين جالسّين ينتظرون دورهم. سالتّ أحدهم كم دقيقة وأنتم تنتظرون؟ كاد يضحك: قل كم ساعةً؟ أدركت أنّني لن أرجع اليوم إلى شيكاغو بل سأبقى في ديترويت.
كتبت اسمي في سجل المراجعين. كان الشيء الجيد أنني جلبت كتاباً، أقضي به على مرارة المعاملة. جلست قرب السيّد الأثوري الذي تكلّمت معه من قبل.
يبدو أن الموظّف قرأ اسمي وعرف أّنني لست آثورياً، فنظر إليّ وغمز عينه بشكل تواطئي. حدست أنه يريد أن يتكلّم معي لسبب معيّن. توجّهت إليه. بادرني: "أعطني أوراقك".
هذه اللفتة جعلتني أحسّ أنّه قام بخدمة كبيرة لي حين جعلني أتجاوز الدور. هناك العشرات ينتظرون. فلماذا قدّمني؟ ربما أشفق عليّ كوني جئت من مدينة أخرى، لكني مع ذلك لم يعجبني أن يميزني أحد على غيري.
تصفّح الوثائق، وضعها واحدة فوق الأخرى، بينما كان زميله المتشنّج السّابق يناولني إياها واحدة واحدة. رفع رأسه: قال لي وهو يبتسم بتحدٍ: تغيّرت التعليمات. باتت صورة اثبات الحياة السّابق غير مهمّة. هل جلبت معك نسخاً ملوّنة لهويّة الأحوال المدنيّة وشهادة الجنسيّة وهويّة التّقاعد؟ فوجئت: ولماذا ملوّنة؟
لمعت عيناه وكأني استفززته، أو كأني كشفت جهلاً مخزياً، لكن لم يكن في نظراته ما اعتبرته سخرية، أضاف بلهجة تعليمية واضحة: لا يظهر التّزييف في الأسود والأبيض، أما في الملوّنة فهو واضح وضوح الشّمس.
ثم أعطاني وريقة مطبوعة فيها قائمة بالوثائق الملوّنة التّي يجب أن أجلب معي.
قلت له: يا أخي، كنا في السّابق نستخرج الوثيقة ببضع دقائق، وها أنذا جئت من شيكاغو مرّتين، وقطعت أكثر من ألفي كيلومتر، وصرفت أكثر مما أتحمّل ولم أنجزها، فلماذا تعذبون الناس؟
عندئذ فقد أعصابه، هتف بعصبيّة ليسمع الجميع: صدام حسين مسؤول عن هذا كلّه، دمّر كلّ شيئ، علينا أن نبني من جديد.
حدّقت به جادّاً: رجاء إهدأ، لا تصرخ بي. أنا أريد حلّاً لمشكلتي. لماذا تضعون المأساة برأس شخص انتهى قبل ست سنوات؟
"لكنها مشكلته".
"سنة واحدة كافية لتصححي أخطاء في مسار معاملات الناس لا ست سنين. لماذا تعقّدون الأمور، لماذا لا تعيدون بناء أسس بشكل إنساني؟ أيجب أن يصاحب البناء تعذيب الناس؟ هل تستمتعون بوضع العراقيل أمام الناس؟ أريد وثيقة حياة فقط!".
سكت ولم يجبني. لكنّه بدا محتدماً. فوّضت أمري لله. رجعت إلى شيكاغو. طلبت من أهلي أن يرسلوا لي نسخاً ملوّنة. ولحسن الحظ زوّدوني بها بسرعة. بعد أسبوع توجّهت إلى ديترويت من جديد وكان الجوّ صحواً مع وجود الثلج والبرد الزمهرير. عدد الآثوريّين والآثوريات قليل، في قاعة انتظار القنصليّة هذه المرّة، بضعة عشر آثورياً وآثورية. لست أدري لماذا لم أرَ سوى آثوريين فقط! لم أجلس مع المنتظرين، لم أسأل أيّ واحد منهم كم ظلّ ينتظر! لا فائدة من توقع ما سيجري. توجّهت إلى منضدة الاستعلامات. وجدتها خالية. لا أحد. وقفت أنتظر. أحدّق بالممرّ. أين ذهب الموظّفون؟ أحسست بغضب شديد. لم يظهر أحد طيلة بضع دقائق. كتبت اسمي في سجل الحضور مع ساعة وصولي.
جلست أنتظر، وبعد نحو خمس عشرة دقيقة، أطلّ شاب قصير في عشريناته، أنيق. رفع رأسه نحو المنتظرين. صوت حاد انطلق من فمه وهو ينطق باسم أحد الموجودين، لم أصدّق أنّه يخرج منه. كان أشبه بسعال. بعد نحو نصف ساعة جاء دوري. عرضت "بضاعتي" بتفاصيلها وبهدوء.
حدّق بي وهو يهزّ رأسه: هذه كلها غير مهمّة، عليك أن تجلب نسخاً أصليّة غير مصورّة. فأخرجت وريقة زميله السّابق، ووضعتها أمامه: هذا ما أعطانيه موظفكم قبل عشرة أيام. أنظر إلى القائمة. لم يذكر نسخاً أصليّة.
تجهّم وجهه لكن وجّه إليّ نظرات استنكار عدوانية، وهو يفتح عينيه على وسعهما: قلت لك نسخ أصليّة.
حدّقت فيه: لا يمكن أن تتغيّر كلّ يوم.
ردّد بآلية: تبدّلت الأمور. لم يبقِ الأكراد لنا شيئاً.
" وما علاقة الأكراد؟".
" زيّفوا كلّ الوثائق. علينا تبديل المتطلّبات بين مدّة وأخرى. قال تلك الكلمات كلمة بعد أخرى، وكأنه يلقيها على طفل".
"وما الحلّ؟".
"لا بدّ من جلب أصليّات".
حاولت أن أهدأ، قلت: لا أمتلكها.
عليك أن تذهب إلى العراق وتستخرج نسخاً بدل الضّائعة.
" أتدري كم يكلّف الذّهاب إلى العراق؟".
"ليست مشكلتي."
ماذا أفعل؟ لم أسيطر على نفسي، ادرت له ظهري، واجهت المواطنين الآثوريين، سالتّهم: أيها الإخوان، يا ناس، رجاء قولوا لي: أأنا ميت أم حيّ؟
ضحك معظمهم، قال واحد: لا. أنت حيّ.
" هل تشهدون أنني حيّ؟".
ابتسموا جميعاً، قال غير واحد: نعم. نشهد.
إلتفتُ إلى الموظّف: انظر، شاهدان يسوقان المتّهم إلى الإعدام، وهنا أكثر من عشرة يشهدون أنّني حيّ، آكل وأشرب وأذهب إلى المرافق، وإن أردت فسأثبت لك أنّني استطيع ممارسة الجنس هنا، من دون فياغرا إن أتيت لي بواحدة. فلماذا لا تكتب وثيقة تستند إلى هؤلاء العراقيّين الشّهود بأني حيّ؟
انفجر الجميع ضاحكين. نكّس رأسه. لم يجب، ازدادت تقاطيعه ظلمة وتجّهماً. ثم أعدت عبارتي بأنّني كنت استخرجها بخمس دقائق، ومن دون خسائر، فلماذا تعرقلون الأمور؟ قال كمن هرب إلى صيغة من القول تؤمن له هدوءً مزقته أنا بوجودي: لابد من وثائق أصليّة لا تتعب نفسك.
أردت أن أرجع إلى شيكاغو، لكني طلبت منه أن يضع قائمة بالمستمسكات الأصلية التي يريد أن أجلبها، فأخذ يعددها، وكانت موجودة عندي، إلّا هويّة الأحوال المدنية، وعندي نسخة مصورة لها فقط.
أشار إليها مؤكّداً، قال لي: حاول في العراق أن تستخرج مثل هذه أصلية. عندئذ تنتهي القضيّة.
انكفأت على نفسي في شيكاغو. أفكّر وأجمع وأطرح، وأضع مصالح عائلتي ومدخراتي، وقابليتي على تجاوز الأزمة التي يخلقها النظام لسحقي وسحق غيري، ثم توصّلت إلى احتمالين لا ثالث لهما: ترك راتبي التقاعدي لهم. لتسرقه عصابات النظام، أو الكفاح لانتزاعه من أنيابهم السامة. ففضلت الاحتمال الثاني. قطعت تذكرة جوية إلى أربيل. حينما وصلت إلى ضابط الجوازات ورأى جواز سفري أمريكيّاً، سألني وهو يبتسم: "لماذا تريد أن تتعس قلبك؟"
حدّقت فيه، ابتسمت: "لم أفهم".
"ماذا في العراق لترجع؟".
كدت أضحك.
كان علينا أن نمشي نحو ربع ميل نسحب حقائبنا حتى نصل إلى سيارات الأجرة التي تنقلنا إلى مركز المدينة، ليتسنى لنا بعدئذ الذهاب إلى المدن التي نقصدها.
الحرّ على أشده في الموصل، نحو مئة وخمس وعشرون درجة فهرنهايت. في اليوم الأول من رمضان وجدت نفسي في دائرة الأحوال المدنية أكاد أذوب من الحرّ. بينما كنت واقفاً بالدّور وجسدي ينضح عرقاً سمعت أحدهم يقول: عفا الله العراقيّين من نار جهنم مهما فعلوا، لأن عدالته قضت أن لا يدخلها المرء مرّتين. أحسست بشيء من المرح، هذا إنسان مثلي قهر جهنّم والرّوتين الغبيّ بالمرح.
معظم مسؤولوا الدّائرة كإخوتهم في ديترويت تماماً، متجهّمين غاضبين ساخطين على البشر والبشريّة، مترفّعين عن "الحشرات" التي تراجعهم. أحدهم عملاق بشارب ثخين "رقم ثمانية" وجه عبوس "قمطرير"، جسد ديك مزهوٍ منفوش الرّيش، ذكّرني بملابس القوات الخاصّة الزّيتونية في النّظام السّابق. كنت أتبع تعليمات الموظفين. بعد ثلاث ساعات من دخول غرفة واختها وجارتها وبنات عماتها وخالاتها سؤلتّ عن بطاقة التّموين، ووثيقة السّكن. وعندما استفسرت عن علاقة الهويّة الشّخصية بهاتين الوثيقتين، قالوا لي لا بدّ من جلبهما لتحديد مكان سكناك في الموصل. فاحتججت بإنّني لا سكن لي في الموصل لأنّي غادرت العراق منذ ربع قرن. قالوا إذن لابد من الذّهاب إلى دائرة الهجرة والمهجّرين.
الموظف المسؤول في نحو الثّالثة والثلاثين، قلت له بصوت حاولت أن يكون مقنعاً: إنني أريد فقط شهادة إثبات أنّني حي. أنا هنا في العراق. في وطني. أنا حيّ أمامك. فقط دلّني كيف أثبت ذلك.
ردّد وهو ينظر إلى أوراق في المنضدة، وكأنّه يحاول أن يقنعني بأنه غير معني برأيي: لا بد من مراجعة دائرة الهجرة والمهجرين.
ما العلاقة بين شهادة إثبات الحياة أو الهوية الشخصية بالهجرة والمهجرين؟
"لم يردّ".
خرج. ترك لي الغرفة. حدّقت بالحيطان الدكناء. بالخزانات الحديد، بالشعارات الطنانة التي تبثها أجهزة الدعاية الحكومية.
بدأت أخطو خارجاً، وأنا أتساءل مع نفسي أيدركون أنّهم يتعبون المواطنين، ويذلونهم أم يتصرفون معهم بغباء، ألا يعلمون أنهم يسحقون شعبهم، ويذلونه، لماذا يستخدام ذرائع شتى. يدفعونه إلى كره الحياة، والحقد على السلطة والانتقام منها بأيّ وسيلة؟
قرّرت أن أتوقّف. وأقرأ على راتبي التّقاعدي السّلام، لكنّ شاباً في الخامسة والثلاثين. عرف نفسه لي وهو يصافحني: " صباح قدّو".
كان يقف قربي، قال لي: لا تيأس، يحاولون إتعابك وإتعابي والآخرين. أنا لا أتنازل عن تقاعد أبي. أنا أراجع مثلك منذ ستة أشهر، صرفت أضعاف التقاعد، لكني لا أستسلم، إن توقفنا فسيأتي من يزيف هويّات لنا، يتسلم التقاعد باسمنا. يتقاسم به مع المسؤولين. هناك مئات الآلاف مثلي ومثلك. ملايين الدولارات تدخل جيوبهم كل شهر.
في الواحدة بعد الظّهر وصلت مع صباح قدّو دائرة الهجرة والمهجرين، فرأيناها مليئة كالعادة بالمراجعين، لكن الجديد فيها حيطانها، فهي مملؤة ببوسترات جذّابة ملوّنة تلفت العين، على مستوىً راقٍ من الإخراج مطبوعة في بلد مجاور. فيها شعارات تحارب الفساد والمفسدين، ومستغلّي الشّعب، وتصوّر كلّاً من الرّاشي والمرتشي غارقين في بحر لا قرارة له، وأيديهما مكبّلة بالحديد من الخلف، مع عبارات قرآنيّة، وتحذيرات عقابيّة وفق القوانين الصّارمة.
أما لماذا في هذه الدائرة فقط؟ فلا أدري. نظرت إلى صباح قدّو، فأدرك ما أقصد، قال بازدراء: "إنّهم يلقون آثامهم على الوافدين المهاجرين. يحذرونهم من إفساد الشّعب العراقيّ؟
ضحكت ضحكة قصيرة: هذا يعني أن العراق بلد في قمة النّظافة السّياسية والمالية، كسويسرا أو السّويد، فلماذا أنزلوه إلى أسفل دركة في العالم سبع سنين متواليات؟ لماذا عُرف واشتُهر بأنّه يحوي أتعس زمرة من اللصوص الدّوليين؟
كان هناك معنا في الغرفة من يتكلم بصراح، وبصوت عالٍ. عدد أحدهم أسماء شخصيًات في مركز الحكم، تكدّست في جيوبها عشرات الملايين، بل عشرات مليارات الدّولارات، بدا الحاضرون يعرفونها، تختلط مع أسماء كثيرة معروفة لدى من يعيش في الخارج. أشار مراجع آخر إلى حرية سرقة الوزراء والمتنفذين للمال العام. بينما سخر آخر منه وهو يقهقه بصوت عال: من سرق العراق والعراقييّن ليسوا أبناءه.
ضحكت: من أي قطر؟
"شياطين نزلوا من السّماء وسيعودون إليها قريباً".
ضحك غير واحد. ثم جاء من استدعانا إلى ان نتحول إلى غرفة أخرى، كانت هي مقرّ "الخبير"، وبعد نحو ربع ساعة من الاستجواب شبه "الأمنيّ"، أجراه معنا بخبرة فائقة وذكاء عميق، بدا فيه يتّخذ سلوك شاب دمث سمح طيّب. حاول أن يقنعني بأنني يجب أن أرجع إلى أمريكا لجلب وثيقة مصدّقة تثبت لجوئي السّياسي فيها.
ابتسمت بكل تقاطيعي: "وإذا جلبت الوثيقة من واشنطن، ماذا ستكون النتيجة؟".
"ترجع ثانية إلى هنا، فنزودك بالأوراق اللازمة؟".
اندفعت أقهقه، وشاركني في القهقهة صباح قدّو، مما جعل عيني الخبير تلمعان خبثاً. لم استطع الردّ حالاً، فكّرت قليلاً، حدّقت فيه: أتظنّ أن الذّهاب إلى أمريكا والرّجوع منها يتمّ خلال نصف ساعة باستعمال سيارة إجرة؟
دماثته المصطنعة دفعته إلى الابتسام ليستمر في خداعي، كما خدعني قبل قليل: كيف إذن نثبت أنّك لاجئ في أمريكا.
أخرجت جواز سفري الأمريكيّ: "ألا يكفي إبراز جواز سفري".
هزّ رأسه: "جواز سفرك أمريكي. صحيح".
"أتقبلون به؟".
"بالطبع".
تجسم أمام عينيّ دليل يسكته، ابتسمتُ قلت: "الجواز يثبت أنّني عراقي وأمريكي معا".
ابتسم، أجابني بذكاء نادر: "أنت على حقّ، جوازك يثبت أنك عراقي وأمريكي كما قلت، لكنا نريد وثيقة أمريكية رسمية خاصة بك تثبت أنك كنت عراقيّاً عندما لجأت، وأنهم قبلوا لجؤوك في أراضيهم".
تساءلت مع نفسي وأنا غارق بالألم، كيف؟ يهيّئون ويعدون أشخاصاً أذكياء مثل هذا الشاب، ويستخدمون ذكاءه، ومنطقه، ومناوراته، وألاعيبه لخدمة أغراض تسيء لا إلى المواطن بل إلى السلطة أيضاً؟
قلت: "حسناً، لماذا لا تطلب دائرة الهجرة في الوطن، إلى وزارة الخارجية، كي تزوّد القنصليّة من يراجعها بالتّعليمات كاملة ليوفّر المواطن تكاليف رحلتين إلى الوطن، كل رحلة تثقل كاهل صاحبها بما يقلّ عن ألفي دولار لبطاقة الطّائرة فقط ذهاباً وإياباً.
هزّ رأسه وهو يبتسم: هذه ليست مشكلتنا، لقد عقّدنا الرّوتين لأن الأكراد والمسيحيّين زوّروا المستندات وحصلوا على حقوق غيرهم. فأخذت أضحك.
"لماذا تضحك".
"هذا تمييز عنصري ضد المواطنين الأكراد والمسيحيين. يجب أن لا تردده. اعتدنا نحن العراقيين لوم غيرنا وسبّهم لنغطي تقصيرنا ونفاقنا. نحن نبدد مياه دجلة والفرات ولا نقوم بأيّ جهد لخزنها والحفاظ عليها لكنّ لساننا أطول من ذراعنا في اتهام الأتراك ودول الجوار، ونحن نسمح لدول الجوار أن تقضم وطننا جزءاً جزءاً ولا نقف بوجههما لكننا نتباكى ونصرخ في أجهزة الإعلام والصّحف ونسبّها. نحن نغطس في الرّشوة واللصوصية والفساد والقتل العشوائي حتى القعر ونسب من يتعاطاها، لكننا لا نقدم المرتشين، اللصوص، القتلة، المليشيات، إلى المحاكمة، نحن نسب الإرهابيين والمخربين كل ساعة ودقيقة ولحظة، لكننا ندع الحدود مفتوحة مع دول الجوار لتدخل شاحنات المتفجّرات بحريّة، بعدئذ نقوم بسبّ تلك الدول صراحة، ونتهمها بالتآمر علينا ثم لا نفعل شيئأً، لا نهاية لقائمة النفاق والكذب والدجل. موظفوا القنصليّة في ديترويت يضعون مسؤولية تعقيد الرّوتين على عاتق الأكراد، وأنتم تضعونها على عاتق الأكراد والمسيحيين، بينما هي مسؤوليّتكم أنتم وليس أحد سواكم، لو خفّفتم إجراءات المعاملات لنال كلّ حقه.
امتقع وجهه، أصبح كالحاً، لم يجب. نهض، غادر الغرفة. خرجت تعباً يسحقني الحرّ والعطش، وتضبب أشعة الشمس رؤاي.
في رحلة الرجوع إلى شيكاغو حلّت عليّ لعنة التأخيرات. تأجلت الطائرة في مطار أربيل اثنتي عشرة ساعة. ساعتان ونصف في مطار أتاتورك في إسطنبول. ثلاث ساعات في مطار زيروخ. حينما وصلت إلى شيكاغو، ثم إلى واشنطن، كان كل ما ادّخرته قد تبخّر. لم يبق عندي سوى مئتي دولار. لجأت إلى صديقي أحمد ليسعفني.
كان من المستحيل لي أن أصل إلى السفارة العراقيّة في واشنطون لولا اتصالي بتلميذتي السابقة "ميغ" مرة أخرى. وضعت لي خطة ممتازة، نفّذتها بحذافيرها. لكنّ السفارة العراقية لم تزودني بوثيقة اللجوء حالاً، بل طلبت ترجمتها إلى العربية أولاً، بعد ذلك كان عليّ أن أصدّقها في شعبة تصديق الوثائق في واشنطن. نصحني موظف صغير السن في السفارة تعاطف معي بعد أن اطّلع على ما عانيته من عذاب، أن أذهب قبل السابعة صباحاً.
فززت. كدت أضحك وأنا أردّد: "لماذا في السابعة؟"
"لإن الازدحام شديد".
"ازدحام شديد في واشنطن؟"
ضحك وهو يهزّ رأسه: "لا تصدق؟ حسناً إذهب لترى!"
لم أحفل به، وصلت في السابعة والنصف صباحاً. فوجدت دوراً يمتدّ نحو مئتي متر. السيدة التي أمامي في نحو الخمسين من عمرها. يداها الثنتان مشغولتان،اليمنى تحمل أكثر من أربعين معاملة، وتتعلق باليسرى حقيبة جلدية منفوخة حمراء، سألتها: لماذا هذا الإزدحام؟
ضحكتْ ضحكة خافتة، كأنها تسرّني: ألا تدري؟
"لا،
"انظر إلى وجوه المراجعين". قالت ذلك وعيناها الصفراوان تلمعان، وهي تهزّ رأسها كي لا تسقط خصلات شعرها الذهب على عينيها، لانشغال كلتي يديها.
التفت إلى الخلف، حدّقت بالوجوه، لم أرَ سوى بضعة أشخاص يبدون كمواطنين أمريكان، كان على وجوه الآخرين سمات من العالم كله، بدءً من اليابان فالصين حتى السكان الأصليين في الآمازون.
اختنقت. أغمضت عيني، أدركت أنني لن انتهي اليوم.
حدثت المفاجأة على غير توقّع. في الرابعة والنصف عصراً. حصلت على وثيقة جميلة، مصدّقة، ممهورة بشكل أثري، لا أحلم به. وثيقة أشبه بالوثائق التي كانت تصدر من بلاط هنري الثامن ملك بريطانيا. حين نظرت إليها قرأت ملخّصاً لسجل تاريخي فريد. شمع برتقالي لا أحمر. ختم دائري جميل. أوراق صفراء رسميّة عليها صورة علم الولايات المتحدة ملوّنا. الوثيقة في غلاف أصفر جيد أنيق. لكني لم أتسلمها إلا بعد أن دفعت رسما تجاوز خمسة وأربعين دولاراً.
لم يكن هناك بدّ من الرجوع إلى العراق. وجدت نفسي في الموصل. ساعدني صديق لي للحصول على بطاقة سكن في بيته، وعلى بطاقة تموين على عائلته. انشغل معي، قضينا نحو أسبوع نعمل بجد لإنجاز الوثيقتين. كنت متفائلاً جداً في إنهاء المعاملة. قدّمت كل ما عندي إلى مديرية الأحوال المدينة مع شهاداتي القديمة الأصليّة، والوثيقة التاريخية الصادرة من واشنطون.
لم أتذكر من الموظفين سوى الطويل المتجهم. طلبوا مني أن أرجع بعد يوم واحد، ثم تكرر التأجيل مرة أخرى، ثم ثالثة، حتى اضطررت إلى الاتصال هاتفياً بالسيد صباح قدّو الذي التقيته قبل شهرين هنا في الموصل.
قال لي، وهو يضحك: ماذا تفعل إن كنت تقف قرب نار تحرقك؟
ابتسمت: رجاء لا تمزح.
"لا امزح، أجبني".
"أبتعد وأنجو".
"إفعل.
"أأترك إكمال المعاملة بعد كل هذا التعب".
"لا. فكر".
لم أدر ماذا أقول؟ سألته: ماذا تعني؟
"قلت فكر، تأجيلهم المتكرر أشبه بالنار. سيتكرر مرة وأخرى وأخرى ربما يطول إلى مدة سنة أو سنتين حتى تؤدّي رشوة. إن دفعتها اليوم، تتسلم هوية الأحوال المدنية غداً. فلماذا لا تنهي عذابك.
"هل أنت متأكد؟"
ضحك ثانية: "لو لم أكن متأكداً لما نصحتك، إدفع وتوكّل على الله؟".
كرهت نفسي وأنا أدفع ثمانمئة دولار. ثم تسلمت هويّة الأحوال المدنية العراقية، الجديدة، ورجعت في اليوم التالي إلى أربيل. كانت السنة الجديدة 2010 قذ بدأت قبل أيام.
دخلت مبنى القنصلية العراقية في شيكاغو وجدت نفسي أمام الموظف الأول الستينيّ، الذي تكحلت بمرآه عيناي أول مرّة دخلت القنصلية ابتسم ابتسامة كبيرة. شجعني.
حينما وضعت أوراقي على المنضدة، وضع يده عليها بتعاطف. فرحت. ابتسم، وهو يزوي عينيه ويضع فوقها ورقة فيها عنوانان. ثم أعطاني التعليمات بصوت دافئ مع ابتسامة: إذهب إلى هنا.
أشار إلى العنوان الأوّل. أضاف "هذا عنوان مصوّر، تأخذ أربع صور، هو يعرف الحجم المطلوب."
ثم أشار إلى العنوان الثاني: "هذا مكتب لطبع الوثائق. أعطه شهادة الجنسيّة العراقيّة وسيقوم بطبع وثيقة كاملة، يملؤها بالمعلومات المطلوبة، يضع عليها صورك، بعدئذ تجلبها إلى القنصلية".
وقفت في باب القنصلية. ديترويت غريبة عليّ، العنوان لا يكفي. احترت أي اتجاه أذهب! هممت بالرجوع للسؤال/ رأيت شاباً ضخماً في الثلاثين يخرج. أريته العنوانين، سألته أيّ اتجاه، قال لي: "تعال معي، أنا مراجع مثلك".
كان يعرف أكثر مني، ظل صامتاً حتى تسلمنا الصور، واتجهنا إلى مكتب الطباعة الصغير، الخالي من أي كرسي يجلس عليه المراجع. لم يكن يتسع إلّا إلى سيدة محتشمة في أربعيناتها بنظارات كبيرة، وشعر كستنائي، كانت تطبع الوثائق، بجدية. مكتوب على لوحة أعلى رأسها: "30 دولار لطباعة الاستمارة"
آنذاك ابتسم، وهو ينظر إليّ ويشير إلى اللوحة: "أعطينا المصور عشرين دولاراً، وسنعطي هذه ثلاثين دولاراً، اليس كذلك".
"نعم".
"ألف مراجع في اليوم".
حدّقت به، لم أفهم: "ماذا تعني"؟
هزّني من كتفي: "فكّر، ألف شخص يراجع القنصلية في اليوم في الأقل، يأتون من بضع ولايات، ومئات المدن، فكّر".
ابتعدت عنه: قل لي من دون أسئلة.
"عندك حق، ألف شخص يدفع كل منهم خمسين دولاراً، يعطون المكتب خمس دولارات فقط، ويعطون المصور خمساً أخرى، هذا هو الاتفاق مع المكتبين، يبقى أربعين دولاراً، في نهاية الدوام يتجمع لدى القنصلية أربعين ألف دولار يومياً يقتسمها الكبار".
قال ذلك وأخذ يرقص، ويغني بصوت عالٍ: "بغداد مبنية بتمر، التقط وكل خستاوي".
طفقت السيدة تضحك وهي تطبع.
قدّمت أوراقي مع الاستمارات الجديدة كاملة، تسلمها الرجل الستيني بجدية واضحة. استدار. اختفى في ممرات المبنى. ثم رجع بعد بضع دقائق. وضع الأوراق كلها أمامي كما هي. قال لي وهو يبتسم وينظر إلي نظرة ذات معنى: كم مرة جئت إلى شيكاغو؟
"لماذا؟"
هزّ رأسه: أجبني. لا تخشى شيئاً.
"أربع مرات".
"كم مرة ذهبت إلى واشنطون؟ وإلى العراق؟".
"مرتان لكل منهما".
"كم صرفت؟".
"6800" دولار.
قال ذلك ثم انتزع هوية الأحوال المدنية الجديدة من الأوراق بيمينه، هزّها أمام عينيّ، ثم هتف: "هذه الهوية لا قيمة لها، كتبوا اسم أمك مع اسم أبيها في سطر واحد، بينما كان يجب أن يكتبوه بسطرين. كما هو موجود في شهادة الجنسية العراقية وهوية الأحوال المدنية القديمة، هذا يعني أنها غير معترف بها.
"وما العمل؟
"لا أدري!"
"أتعني أنني لا أستطيع أن أثبت أنني حيّ؟
1016 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع