كتابات مصدرها أعماق الذاكرة وصفحات المذكّرات

                                                       

                            يعقوب أفرام منصور

كتابات مصدرها أعماق الذاكرة وصفحات المذكّرات

كما أن الكتابات الأدبية الإبداعية ( قصص، روايات، أشعار، مقالات، خواطر، إبتهالات، أمثال، رسائل) مَعِينها الرصيد الثقافي والمعرفي والفكري ، وحاصل الإعتمال الداخلي للفرد بين العقل والقلب وما يتوالد عنه من مشاعر وآراء وتصورات وعواطف وأخيلة، هكذا هي الكتابات الموصوفة ب (المذكّرات) التي مصدرها دفاتر المفكّرات وكراريس المذكّرات والأجندات الحَولية.
كانت بداية تدوين "يومياّاتي" في عام 1947، وأنا في الحادية والعشرين من عمري، وقد مضى عام على إنهاء دراستي الإعداديّة في سنة 1946، وارتباطي بعمل وظيفي كتابي، مستخدمًا مفكّرة صغيرة، لا تشغل مساحة غلافها اكثر من مساحة باطن الكف، قهوائية اللون، تحمل عنوان (المفكّرة العصرية 1947) صادرة عن ( المكتبة العصرية) المشهورة آنئذٍ لصاحبها محمود حلمي. ولما لاحظتُ أن مكتبة العم (فرجو) الموصلي وأولاده (أكرم، سامي، ....؟) في العشّار، البصرة، قد عرضت للبيع دفاتر مذكّرات مستوردة من إنكلترا (LETTS DIARY) زرقاء أنيقة التجليد والمظهر والصفحات، شرعتُ في اقتنائها كل عام بدءًا من 1948، حتى أوان انفطاع استيرادها في أوائل الستينيات حين تغيّر لون غلافها من أزرق إلى رصاصي ذي حروف سود؛ وكان سبب انقطاع استيرادها صدور دفاتر مذكّرات وأجندات، وطنية الصنع غالبًا، عن مؤسسات تجارية وصناعية وثقافية عديدة، يوزّع عدد كبير منها على سبيل الهدايا لغرض الدعاية والإعلان.
بفضل مطالعاتي العديدة والمتنوّعة منذ أعوام دراستي الإعدادية وبعدها، تبيّن لي أن اليوميات المدوّنة من قِبل بعض مشاهير المؤلّفين في الغرب، وبأقلام المفكرين والمتفننين والسياسيين قد غدت مصدرًا مهمًا لحقائق ووقائع تاريخية وحياتية، وأضواءً كاشفة عن سِيَر وتراجم أفذاذ وأساطين، بعضها أو جُلّها في غاية الأهمية والجدوى من حيث التوثيق والتثبّت والكشف عن غوامض ومستورات وأسرار وألغاز. فكنتُ في الغالب، قبل الخلود إلى النوم الليلي،  أُدوّن على صفحات دفاتر مذكّراتي ما عنّ لي من خواطر ومشاعر وأفكار وآراء وملاحظات وانتقادات، وما سمعتُ من أنباء مدهشة أو خطيرة، أو ما طالعتُ من مقال أو بحث في مجلة أو جريدة، أو ما أرسلتُ من رسائل، أو ما وردني من بريد أو مطبوع مُهدى من الداخل او الخارج، فقد كنت مولعًا  بالتراسل مع الأصدقاء  والمفكّرين والأدباء.
بيدَ أن الذاكرة لها سجلّها الخاص اللامرئي في الأعماق وطيّ الكتمان إلى حين أو إلى  المنتهى، تبعًا للظروف وبعض الإعتبارات، وبعضها يتصل بعهد الصِبا والمراهقة واليفاعة والدراسة، حين لم يكن  لأحياء جيل الأربعينات والخمسينات ـ شبابًا وكهولاً وشيوخًا ـ إهتمام أو عِلم أو إطّلاع على "اليوميّات".
وممّا رسا في ذاكرتي ولم يُدوّن في اليوميّات، مقالان أحدهما بعنوان ( ألبصرة في أعماق الذاكرة) نُشر في جريدة (العراق) البغدادية في 1993، والآخر بعنوان (مدرستي : مدرسة القديس ألبير) نُشر في مجلة (ألفكر المسيحي) البغدادية في عام 2000، ثم نُشر الإثنان لاحقًا في كتابي( بين الأصيل والغسق ـ 2011) مع مقالات أخرى : ( جزيرة أم الفحم وفندق شط العرب) و( من أعماق الذاكرة " أم الجدائل البصرية") و(أطياف مرج أبي عُبيدة =  سهل الموصل أو سهل نينوى)   و( ألقبلة المنسيّة) و ( مشاهد من أغوار الذاكرة) إحتواها كتابي الآنف ذكره. إضافةً إلى ذلك، يشتمل كنابي المعنون( من أدب الرحلات ومن وحي السفر والتجوال والذاكرة ـ 2012) على هذه العناوين: (دهوك في أعماق الذاكرة ـ من وحي السفر: قطرات من مداد القلب ـ رحلة دهوك، سولاف، العمادية، ديري 1955ـ سفراتي العديدة إلى ألقوش، شهر في سويسرة).
أورد هنا بعض مدوّناتي في (المفكّرة العصريّة 1947) كنماذج كتبتها أوّل مرة في هذا الباب من الكتابة قبل  70 سنة :
ألأربعاء  1ـ1ـ 47 للمرة الأولى أُسجّل مذكّراتي، وشئتُ هذا بعد أن قرأتُ كتاب "بيرون" بالعربية لمؤلّفته أمينة السعيد، حيث بان لي قيمتها وفائدتها وغايتها.
ألخميس 2ـ1ـ47 سأضمّن هذه المفكّرة بعض أسراري وخوالجي التي قد استقرّت زمنًا طويلاً في أركان قلبي الصغير، وسأجتهد ألاّ يعثر عليها أحد ما.
ألجمعة 3ـ1ـ47 زيّنتُ مفكّرتي بصورتين لعزيزيَّ فريد و أسمهان، حبيبيَّ في هذه الدنيا. أنا في هذا اليوم سعيد جدًا لأنني استمعت إلى ألحانهما الجميلة تتوارد على مسمعي بوساطة أجنحة الأثير.
ألإثنين 3ـ3ـ 47 كثيرًا ما أغضب على هذه المفكّرة لآنها لا تسع الشيء الذي أرغب في كتابته إلاّ مبتورًا ناقصًا مشوّهًا.
ألجمعة  14،3ـ 47 كان ابتهاجي وانبساطي اليوم كثيرَين، إذ  كنت في نزهة مع بعض الجيران والأصدقاء في غابات (الأثل) الجميلة. إلتقطنا صوَر بعض المناظر الجميلة.
ألأربعاء 2ـ4ـ47 إستفدتُ كثيرًا من الوعظ الذي ألقاه علينا الأب لويس نقّاشي في كنيسة السريان الكاثوليك.
ألخميس 10ـ4ـ47 كثيرًا ما أختلي بنفسي ساعة الغروب للتأمّل في جمال السحب الملوّنة، وفي وجه الشمس الذي ينحدر ليضيء ظلام قسم آخر من العالم.
ألثلاثاء 23ـ9ـ47 يقول صديقي الدانماركي (كرستيان نيلسن) في رسالته إنه  يود ان يزورني في بلدتي ويعيش فيها إذا تمكّن من الحصول على وظيفة أو عمل. فأشرتُ عليه بالعدول عن هذا الرأي، لأن المعيشة في هذه البلاد لا تعادل شيئًا. فالعمر خسارة في هذه البلاد.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

924 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع