بقلم : سهيل إبراهيم عيساوي
الموت في قصص الأطفال عند نادر أبو تامر وميسون أسدي
موضوع الموت من المواضيع القليلة الشائكة التي يتجنب كتاب أدب الأطفال المحليّون التطرق إليها، لحساسيتها وخصوصيتها وصعوبة الولوج في تعرجاتها لأسباب أدبية وفنية ودينية واجتماعية، إضافة إلى أن دور النشر قد تستصعب تسويق هذا الموضوع، فالقارئ والأهل عادة ما يبحثون عن قصص تتحدث عن الحياة والأمل والمستقبل والسعادة وانتصار الخير على الشر والخيال، والنهايات السعيدة، من أجل رفع معنويات الطفل والمساهمة في بناء شخصيته، لكن هل يجب أن يتهرّب أدب الأطفال من طرح المشاكل الحقيقية التي يعاني منها الطفل بشكل خاصّ أو المجتمع بشكل عامّ؟ هل يجب التحايل على الطفل في طرح موضوع الموت؟ والسؤال الأعمق كيف يمكن أن يطرح هذا الموضوع ويصل إلى أطفالنا بأسلوب جميل وصادق؟
في اعتقادي أن الموت جزء من الحياة، ومن الطبيعيّ أن يطرح الموضوع بجسارة؛ لأن الطفل يعرف أن قريبه قد مات، أو جاره أو صديقه أو ابن بلده أو أي إنسان آخر، زد على ذلك أنّ موضوع الموت لم يعد غريبا ولا مستهجنًا في ظل الحروب الأهلية والإقليمية والطائفية المنتشرة في الشرق الأوسط، والقنوات الفضائية ترصد لنا فصول الموت ببساطة وبلاهة وبرودة، وقصف وموت الأطفال بنيران الحرب الشرسة، وتحت الأنقاض، والموت جوعا، وغرقا في عمق البحار، بلا قبر أو جنازة أو وداع، وخاصة أن العالم أصبح قرية واحدة صغيرة، والأطفال على اطّلاع تامّ بكلّ ما يحدث في العالم الواقعي والعالم الافتراضيّ.
في هذه المقالة سوف نناقش قصة الكاتب والإعلاميّ نادر أبو تامر "أجنحة الملائكة " الصادرة عن دار الهدى للطباعة والنشر كريم 2001، بدون إثبات سنة الإصدار! عدد الصفحات 24 (وهي غير مرقّمة)، أمّا الرسومات فللفنان أيمن خطيب.
تتحدث القصة عن طفلة اسمها شوشو، فقدت شقيقها واسمه عفيف، عفيف كان يحبّ كرة القدم، كان ليديه دمى جميلة، كانت شوشو دائما تنظر إلى أعلى ولا تركّز في أثناء اللعب، صديقها رامي الذي يحبّ كرة القدم، كان يظن أن شوشو تحدق في السماء؛ لأنّها تحبّ الطائرات. شقيقها عفيف مرض ثم نقل إلى المستشفى لكنه سرعان ما فارق الحياة، أخته الصغيرة لم تفهم لماذا يتجمهر الناس في بيتهم، ولم تجد عفيف في غرفته، سألت أباها أين ذهب عفيف؟ لكنه صمت طويلا مع أنه يحب الحديث مع جاره، عانقها وقال لها: " لقد أتى إلينا الملاك هذا الأسبوع، وأعطى جناحيه لعفيف. أخوك مات "، ثمّ همس في أذنها: " ذهب إلى السماء يا بابا ". ومنذ ذلك الحين، وهي تراقب الطائرات والسماء لعلّ عفيف أخاها يمرّ من فوق البيت!
قصّة "أبي لم يمت" للكاتبة ميسون أسدي، رسومات الفنانة وفاء عبود، إصدار أ. دار الهدى، 2017 ، تقع القصة في 26 صفحة من الحجم الكبير.
تتحدث القصة عن طفلة اسمها أحلام، كانت في الصف الثاني عندما غرق والدها في بركة ماء كبيرة تكوّنت بفعل المطر، تعوّدَ أطفال القرية السباحة فيها، وسبّبت لهم الأمراض العديدة. بينما كان عمُّها توفيق، وكان فتى شقيا، يسبح مع رفاقه كاد يغرق، واتّفق أن مرّ والدها قرب البركة وسمع الصراخ، وبالرغم من أن يده كانت مكسورة، وملفوفة بالجبس، قفز إلى الماء وأنقذ عمّها توفيق، لكنه غرق لأن يده علقت بين صخرتين. كلّ المحيطين بالطفلة أحلام أعلموها أن والدها سافر، فكانت تتوقّع عودته، لكنه لم يعد، ذات يوم أخبرها عمّها توفيق أن والدها لن يعود لأنه مات. أحلام كانت تعتقد أن الأشرار وحدهم يموتون كما حدثتها المعلمة، وأخبرها عمّها أن والدها سوف يبقى معهم، وبإمكانها استحضار طيفه والحديث إليه، وهي تحدّد الإشارة ليستمع إليها، مثل فرك الأذن، وفعلا جرّبت أحلام هذه الطريقة وقالت له: " أبي اشتقت إليك أنا وأمّي، وعمّي توفيق يسلّم عليك" ثمّ أرسلت لأبيها قبلة بالهواء، عادت أحلام مسرعة إلى البيت، وأبلغت والدتها أن أباها لم يمت، وأن عمّها توفيق جعلها تتحدث إليه، وعن وجود إشارة متفق عليها، وفي نهاية القصة تحدثنا الطفلة أن أهل القرية طمروا البركة كي لا تتسبّب بوفاة آخرين، وتمَّ إنشاء حديقة ألعاب للأطفال مكانها.
- العنوان: عنوان القصة عند الأديب نادر أبو تامر " أجنحة الملائكة". العنوان غير مباشر يترك للقارئ والطفل المجال الواسع للتخمين، وإن كان هناك ترميز لمحتوى القصة، إذ استعمل كلمة "الملائكة"، وهي كلمة ترمز إلى الطهارة والموت والرسالة، وهي كلمة ذات دلالات دينية. بينما اختارت الأديبة ميسون أسدي لقصّتها عنوان " أبي لم يمت "، وهي جملة تقريرية تشير إلى الموت، وإن كان المقصود إنكار وقوعه بالنسبة للطفلة، ولو بشكل مطلق.
- سبب الموت: في قصة نادر أبو تامر، يبدو المرض السبب المباشر لموت الطفل عفيف، لكننا لا نعرف نوعه، هل هو مرض مزمن أم مرض عضال، نقل عفيف على أثره إلى المستشفى، ولم يلبث طويلا حتى فارق الحياة. أمّا سبب الموت في قصة ميسون أسدي، فهو الغرق في بركة تجمّعت فيها مياه الأمطار، ونتيجة الإهمال وعدم وجود برك للسباحة في القرى العربية لجأ الأطفال والفتيان للسباحة في هذه البركة الراكدة التي نشرت الأمراض. والد أحلام فارق الحياة على الفور رغم كلّ المحاولات المتأخرة لإسعافه.
-هُويّة المتوفّى: في قصة نادر أبو تامر، المتوفّى هو طفل صغير اسمه عفيف، أمّا في قصة ميسون أسدي، فالشخصية هي والد الطفلة أحلام، الذي ترك خلفه طفلة في الصف الثاني، وزوجة شابّة وأخًا اسمه توفيق .
-التعرف على عالم المتوفّى: في قصة نادر أبو تامر عرفنا بعض المعلومات عن الطفل عفيف؛ له أخت اسمها شوشو ووالدان، كان يحبّ لعبة كرة القدم، لديه دمى جميلة، كان مرحا رغم مرضه، يتقاسم الغرفة مع أخته، بينما في قصة ميسون أسدي بقي عالم المتوفّى غامضا، لا نعرف عنه إلّا أن يده كانت مكسورة وملفوفة بالجبس، يحبّ أن يساعد. لا نعرف إذا كان قد قفز إلى الماء لأن الذي يشرف على الغرق هو شقيقه، أم لأنه يحبّ المساعدة؟! له زوجة وطفلة اسمها أحلام ..
- مدة إبلاغ الطفل حدث الموت: في قصة نادر أبو تامر استغرق الأمر مدة أسبوع، إذ قام الوالد بإبلاغ ابنته الصغيرة شوشو موت أخيها عفيف، وأن ملاكا زار البيت ومنحه جناحيه ليطير إلى السماء. وفي قصة ميسون أسدي استغرق الأمر وقتا طويلا لا نعرف بالضبط مدّته، لكن استعمالها عبارة " لم يعد عمي توفيق شقيا، أصبح هادئا وحيدا " تفيد أنه قد مرّ وقت ليس باليسير.
- تقنية التواصل مع الميت: في قصة نادر أبو تامر، شوشو تراقب السماء دوما والطائرات المحلقة عاليا، على أمل أن يمرّ عفيف من فوق بيتهم، لكن المحاولات لم تنجح، بينما في قصة ميسون أسدي، كانت التقنية استحضار طيف الوالد المتوفّى، من خلال إشارة، وهي فرك أذن الابنة أحلام، عندها تقول له ما تشاء وتطلب منه ما تريد، فتحضر جميع الطلبات! وترسل له القبلات الحارة.
- تقبّل الموت من قبل الصغار والكبار: من الطبيعي أن يرفض العقل الواعي في البداية خبر وفاة أي شخص قريب لنا، منعا للصدمة وفقدان العقل والاتزان، لكن في النهاية فالموت حقيقة وجزء من الحياة. في قصة نادر أبو تامر الطفلة شوشو تتقبّل الموت، وتقبل تفسير والدها لاختفاء وموت شقيقها عفيف، لكنها تظل ترقبه وتشتاق إليه. وفي قصة ميسون أسدي الطفلة أحلام تتقبّل موت والدها وتتعايش معه، بل تستغله في نقل الرسائل والحصول على هدايا وطلبات.
- أثرالموت على المحيطين: في قصة نادر أبو تامر، عرفنا أن الناس تشارك في المواساة من خلال توافد الناس بكثرة على بيت الفقيد، والوالد كان يصمت طويلا ويقلل من كلامه على غير عادته، لكن صورة الحزن لم تنقل لنا كاملة، كذلك لا ذكر لحالة الأم أو حتى صمتها. وفي قصة ميسون أسدي، عرفنا أن العم توفيق أصبح متزنا وحزينا، لكن لم يكن تطرق في القصّة لوضع الزوجة بعد موت زوجها، ولا كيف واجهت الطفلة اليتم، أو كيف تمثّل حزن الطفلة أحلام لفقدان والدها، في البداية غضبت لأن الوالد لم يعد يزورها في المدرسة أو يصحبها في مشاويره. في القصتين تجاهل لمشاعر الحزن على فقدان فرد من العائلة، ربما قصد كلٌّ من الأديبين عدم شحن القصة بموجة من الحزن .
- غلاف القصة: في قصة نادر أبو تامر " أجنحة الملائكة " رسم الفنان أيمن خطيب لوحة لطفلة حزينة تنحدر من مقلتها دمعة حارة سخية، وهي تمسك بيديها لعبتها، صورة الغلاف توحي بحزن، وفي قصـة ميسـون أسدي "أبي لم يمت" رسمت الفنانة وفاء عبود أيضًا لوحة لطفلة تجلس على كرسيّ، تمسك بيد لعبتها الصغيرة، وتداعب شعرها باليد الأخرى، لكنها تبتسم ابتسامة عريضة، وخدّاها حمراوان، لكن صورة الغلاف لا توحي أن الطفلة فقدت والدها، ولا نعرف إن قصدت الفنانة، بإيعاز من الأديبة ميسون اسدي، إبرازتلك المفارقة!
- دلالات الموت ومراسم الدفن: في قصة نادر أبو تامر هنالك إشارة واحدة وهي تجمهر عدد كبير من الناس في بيت والد الطفل عفيف الذي فارق الحياة، لكن لا إشارة للدفن أو الجنازة أو الصلاة على الميت. وفي قصة ميسون أسدي هنالك قفز عن الموضوع "ولم أدر بعدها إلى أين حملوا أبي" ص 7 ، بعدها تنقلنا الكاتبة إلى فصل آخر كأنه منفصل أو منقطع عن المشهد الأول الذي ينتهي بغرق وموت والد الطفلة.
- النهاية: في قصة نادر أبو تامر النهاية مفتوحة، فالطفلة شوشو تترقب السماء على أمل أن يمرّ شقيقها من فوق بيتهم، أمّا في قصة ميسون أسدي النهاية تبدو سعيدة، الطفلة أحلام تنجح في التواصل مع طيف والدها، وهي فرحة بهذا الحلم والإنجاز العظيم الذي يبدد حزنها ويساعدها على فهم وتبسيط فقدان الوالد، إضافة إلى أن أهل القرية فطنوا إلى البركة التي تسبب الأمراض والغرق، فقاموا بطمرها وأقاموا حديقة عامة للأطفال، أي تمّ تحويل الأمر السلبي إلى أمر إيجابي ولصالح الأطفال.
- مصدر القصتين: مصدر القصتين هو واقعي، فقصة "أجنحة الملائكة" مستوحاه من فقدان ابن صديق الكاتب، إذ كتبها بعد أن دارت بخلده عدّة أسئلة حول الموت، (هذا ما صرّح به الأديب نادر أبو تامر في إحدى مقابلاته الصحفية)، أما قصة "أبي لم يمت" للأديبة ميسون أسدي، فهي أيضا قصة حقيقية وقعت مع عمّها ( وفق ما صرحت به ).
ملاحظات عامّة حول القصتين:
- في قصة الأديب نادر أبو تامر "أجنحة الملائكة" تفتقر القصة إلى إثبات سنة الإصدار وترقيم الصفحات، (وإن كنا نعلم أنه كتبها عام 2007 ، وصدرت عام 2008 وفق تتبع خبر صدورها عبر وسائل الاعلام).
- في قصة ميسون أسدي ورد في غلاف القصة " حكاية ميسون أسدي".
ما الفرق بين القصة والحكاية؟ كتب الباحث والناقد المغربيّ محمد داني حول الموضوع ما يلي: "القصة تكتب للطفل وتوجه إليه، وتراعي قدراته العقلية وعمره الزمني ومراحل نموه، وميوله ومواقفه واتجاهاته، تعتمد الحدث والشخصيات والحبكة، واللغة والخاتمة، يقوم بها شخصيات بشرية أو غير بشرية، تدور في إطار وزمان ومكان محددين". أمّا الحكاية " فهي تقوم على الحدث والشخصيات وزمان مطلق ومكان غير محدد، بسيطة في أحداثها وأفعالها، وتعتمد على الحكي والقص التقليدي" ( المصدر : محمد داني ، أدب الأطفال دراسة في قصص الأطفال لسهيل عيساوي، 2015 ). من هنا يتضح أنها قصة وليست حكاية
خلاصة: تطرّق كلٌّ من الأدبين نادر أبو تامر وميسون أسدي، لموضوع الموت، من خلال قصص الأطفال، أمر في غاية الأهميّة بسبب واقعية الموضوع وضرورة طرحه بأسلوب أدبي جذاب، ورسومات تعبر عن الحدث بدقة، وتنقل المشاعر بصدق، وإن كنت أعتقد أن القصتين بحاجة إلى ضخ المزيد من مشاعر الحزن لتعكس الموقف الحقيقيّ لمرارة الفراق ولوعة الموت وانعكاسها على الأطفال، فالتفريغ من الغضب والحزن أمر صحيّ وطبيعيّ من أجل استمرار الحياة، وتقبّل الموت كجزء من حياتنا وواقعنا، في سبيل النهوض مجدّدا بعد نفض الغبار وإزاحة جليد الحزن العميق المتراكم فوق حجيرات القلب الجريح. كما نشيد بلغة الكاتبين السلسة والملائمة للأطفال، والتمهيد للموضوع بشكل جيد، وطرح الموضوع بجسارة ومهارة.
1210 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع