هل تعيش شعوب الأرض اليوم نهضة حضاريّة نتيجة التقدّم البشري بكافة مناحي الحياة، أم أن هناك تردياً واضحاً في مفاهيمها الفكرية ومعتقداتها الاجتماعية نتيجة شيوع التطرّف الديني والتعصّب الطائفي والمذهبي؟! هل أضحى الناس في عصرنا الحاضر أكثر وعياً بحقوقهم، أم هناك وباء فكري أدّى إلى تلوّث عقولهم وجعلهم يتقهقرون، وينظرون بشك وريبة لكل من يُخالف شريعتهم؟! هل هذه التساؤلات مبالغ فيها بدليل أن العالم بزمننا الحاضر، صار أكثر أمناً من الماضي الذي أنهكته ويلات الحروب والصراعات؟!
حقيقة أنا حائرة، فما الذي يدور من حولنا؟! لماذا أصبح العالم معبّأ بكل هذه الشحنة من العنف الدموي؟! لمَ أضحى العالم بأسره يقف على فوهة بركان مشتعل، قابل للانفجار في أي لحظة؟! ما أن يفتح أحدنا التلفاز على إحدى القنوات الإخباريّة، حتّى يُصيبه الغثيان من كم الأخبار السيئة، إلى الحد الذي يجعلنا نتوجّس من الحاضر وننظر بتشاؤم إلى المستقبل، ونتساءل بقلب واجف عمّا يحمل في غياهبه لنا من مفاجآت مفجعة!
كنتُ قد تحدّثت من قبل عن زيارتي لجنوب أفريقيا، هذا البلد الخلاّب بمناظره الطبيعيّة الجميلة. أصابتني الدهشة من الوضع المعيشي المتدني لسكانها الأصليين من الأفارقة السود، وعلى الأخص عمّال المناجم الذين يعدون أكثر الطبقات فقراً، في بلد اشتهر بثرواته الطبيعيّة من المعادن الثمينة.
كانت الشرطة قد فتحت النار مؤخراً على مجموعة من العمال المتظاهرين لمنعهم من التقدّم، وقد أسفر التصادم إلى مقتل 34 عاملاً منهم. وكان هؤلاء قد أضربوا عن العمل بمنجم "ماريكانا" احتجاجاً على أجورهم المتدنية ومطالبتهم بزيادة في رواتبهم، إضافة إلى رغبتهم إقامة اتحاد ملاّك جديد لهم، مما أدّى إلى إغلاق المنجم مؤقتاً.
هناك قانون يعود إلى فترة حكم الفصل العنصري في جنوب أفريقيا لم يزل قائماً، يُتيح للشرطة قتل أي من المتظاهرين عند القيام بالاحتجاجات! وكانت الأقلية من السكان البيض تستغل هذا القانون لقمع معارضيهم من السود الذين كانوا وقتها يُطالبون بإنهاء الحكم العنصري في بلادهم.
هذا القانون أصبح محل نقد من قبل منظمات حقوق الإنسان. وقد عبّر أحد العاطلين عن العمل عن استيائه من قسوة رجال الشرطة في التعامل مع المتظاهرين، وأنه كان يظن بأنَّ قوات الأمن قد تغيّرت، وأن ما جرى أعاد إلى الأذهان حقبة السبعينيات والثمانينيات إبان الحكم العنصري بجنوب أفريقيا.
من الواضح أن شعوب الأرض لم تعد ترضى بالفتات، وأنها غدت تتطلع إلى الحصول على حصّة الأسد في أوطانها. بالتأكيد هناك شعوب وصلت إلى التخمة الحضاريّة بفضل أنظمة بلدانها القائمة على أسس ديمقراطية حقيقيّة، وهو ما جعلها تعيش في بحبوحة من العيش، وتنظر برضا إلى إنجازات حكوماتها التي وضعت نصب أعينها رفاهية مواطنيها، لكن أيضاً هناك للأسف بلدان كثيرة في العالم لم تزل تُناضل بشراسة لتنتزع مطالبها وإن كانت داخل عرين الأسد.
كافة شعوب الأرض أثبتت بأن العدل والمساواة والحرية هي مطلبها الذي تسعى إليه بلا هوادة، لا يختلف في هذا غني أم فقير، رجل أم امرأة، شيخ أم شاب. كل الشعوب تتحد حين يتعلق الأمر بإنسانيتها وآدميتها.
بالأمس نجحت جنوب أفريقيا بإنهاء الحكم العنصري في بلادها، بفضل مناضلها وقائدها الثوري نيلسون مانديلا، ولكن ما جرى في حق عمال المنجم يعني بأن النظرة العنصرية لم تزل قائمة كما يعتقد البعض! مع هذا أؤمن بأن العبوديّة لا يمكن أن تعود، مهما كانت موجة الاستبداد عالية! الشعوب تظل صاحبة القرار الأول والأخير في تحديد مصائرها وإن طال ليل الظلم!
392 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع