د. محمد عياش الكبيسي
ماذا بعد استفتاء كردستان العراق؟
لم تضف نتائج الاستفتاء معلومة جديدة بالنسبة للخيار المصيري للكرد، والمنسجم مع تطلعاتهم وثقافتهم التي نشأ عليها الصغير وشاب عليها الكبير؛ فالكرد يشعرون بالمظلومية التي حرمتهم من حقهم الطبيعي في قيام دولتهم القومية، بعد أن تقاسمت القوميات الأخرى تركة الدولة العثمانية في مطلع القرن الماضي، وتم توزيعهم وفق اتفاقية سايكس بيكو بين إيران وتركيا والعراق وسوريا هذا الحلم الذي دفع الكرد على طريقه، ودفعت المنطقة كلها، أثماناً باهظة عبر صراعات دموية مع كل الحكومات المركزية في بغداد، يراه الكرد قد بات أقرب للتحقق؛ نتيجةً لضعف حكومة بغداد وانهيار مؤسساتها العسكرية والأمنية، وشيوع فوضى المليشيات والمرجعيات، والفساد الحكومي الذي وصل إلى الحد الذي ينذر بضياع العراق كله. لقد أثبت الكرد في هذه المرحلة قدرتهم على إدارة أنفسهم بشكل لافت؛ حيث نأوا بكردستان عن تلك الفوضى التي تعصف بكل المحافظات العراقية، بل راحوا يمدون يد العون للحكومة المركزية والتحالف الدولي في الحرب المعلنة على «داعش»، واستقبلوا كذلك مئات الآلاف من اللاجئين والمهجّرين العرب، الذين عجزت حكومة بغداد عن استيعابهم بل عاملتهم معاملة الأجانب ووضعت العراقيل المتعسفة لمرورهم وانتقالهم
لقد أضاف السيد مسعود البرزاني مبرراً آخر لمشروع الانفصال أو الاستقلال بخطابه الأخير، أن العراق قد أصبح دولة دينية مذهبية لا تقبل بمبدأ الشراكة، مما يعني أن بقاءهم في ظل هذه الدولة يعني ذوبان شخصيتهم أو الدخول في صراع دموي آخر لا حدود له، والمسألة مسألة وقت لا أكثر، فإذا كانت حكومة بغداد لا تملك الآن جيشاً قوياً تفرض به رؤيتها الدينية والمذهبية على الكرد، فإن ما تقوم به مليشياتها في المحافظات العربية السنية يؤكد أنها ماضية في بسط رؤيتها هذه وجعلها أمراً واقعاً
لكل هذه المعطيات يبدو أن الطريق باتت ممهدة جداً لتكوين القناعة الكافية لدى كل كردي أن الانفصال بات ضرورة بكل المقاييس، وهي ضرورة لا تحتمل التأخير أو التسويف، إلا أن الذي يعترض هذا المشروع إنما هو الموقف الإقليمي المتمثل تحديداً بتركيا وإيران، والذي يظهر -إلى حد الآن- أن الرياح فيه لا تجري بما تشتهيه سفينة الكرد بالنسبة لإيران؛ فإن المسألة تبدو أكثر تعقيداً وأكثر قلقاً، فإيران فيها شعب كردي كبير متعاطف جداً مع أكراد العراق، وقد خرجوا بمظاهرات معبّرين عن فرحتهم بالاستفتاء. كما أن أول تجربة انفصالية لدولة كردية كانت في إيران تحت اسم «مهاباد»، وفوق كل هذا أن إيران تشعر أنها أصبحت قاب قوسين أو أدنى من ابتلاع العراق كله بما فيه إقليم كردستان، ولذلك فستحاول إيران بكل ثقلها أن تمنع قيام هذه التجربة الجديدة، ولا يبعد أنها ستدخل بقواتها تحت راية الحشد الشعبي أو «حشد المرجعية» في أي صراع محتمل بين إقليم كردستان وحكومة بغداد؛ لأن المعركة الآن معركتها.. وإن اتخذت من الناحية الشكلية صورة أخرى. ويكفي للتأكيد والتذكير التدخل الإيراني العسكري في الساحة السورية، ولا شك أن العراق أولى بالنسبة لإيران من سوريا أما تركيا فلها وضع آخر، سنتناوله في الحلقة القادمة إن شاء الله
على خلاف إيران فإن تركيا لا تطمع بالعراق ولا بكردستان، وهذه حقيقة أثبتتها الوقائع منذ الغزو الأميركي الذي رفضت تركيا التعامل معه، أو التمدد تحت مظلته، رغم طلب الأميركان منها ذلك، باعتبارها جزءاً من حلف الناتو، وكانت النتيجة استحواذ إيران على العراق عبر ميليشياتها وأحزابها التي أنشأتها على عينها جهاراً نهاراً، بينما خرجت تركيا صفر اليدين، حتى تأثيرها على السنّة ومنهم التركمان انحسر إلى حد كبير في بعض المواقف السياسية والإنسانية المحدودة، وهذا كله يؤكد أن تركيا لم تخطط ليكون لها شأن فاعل في القرار العراقي، بل حلمت أن ترى بجوارها عراقاً موحداً سيّد نفسه تتعامل معه وفق المصالح المشتركة وقواعد حسن الجوار.
من هذا المنطلق كان تعاملها مع إقليم كردستان في غاية الإيجابية، وكانت العلاقة بين أردوغان ومسعود علاقة صداقة وشراكة إلى اليوم الذي أعلن فيه مسعود عزمه على إجراء الاستفتاء، حيث رأى فيه أردوغان أنه «طعنة في الظهر»، خاصة بعد أن حمل بعض الأكراد المؤيدين للانفصال الأعلام الإسرائيلية، ورددوا كلمات تنال من العرب والأتراك.
الحقيقة أن حملة الأعلام الإسرائيلية هؤلاء لا يمثلون إلا أنفسهم، فالشعب الكردي معروف بتدينه وتمسكه الشديد بالإسلام، وهم بلا شك ممتعضون من هذا التصرف أكثر من غيرهم، لكن تخوف الأتراك إنما هو من انتقال العدوى إلى أكراد تركيا، وهنا لا بد من وقفة وهي في غاية الخطورة، ولا بد أن يتنبه لها الأتراك قبل غيرهم أن البديل المتوقع على المدى المتوسط والبعيد في حالة بقاء الأمور على هذه الموازنات أن تكون كردستان العراق تحت هيمنة «حشد المرجعية» والنفوذ الإيراني المباشر، وهؤلاء بلا شك أقدر على تحريك الداخل التركي من مسعود وممّن سيأتي بعد مسعود، ذاك أن إيران قادرة على تحريك العلويين أيضاً، إضافة إلى الكرد، وبإمكانيات أكبر مئات المرّات من إمكانيات مسعود.
إن الحل لا يكون أبداً بإضعاف أو استئصال المشروع الكردي وفسح المجال للمشروع الإيراني بالتمدد مكانه، فهذه ستكون كارثة أخرى تضاف إلى كوارث العراق وسوريا ولبنان واليمن، وستكون تركيا نفسها أكبر المتضررين.
إن الحل الجذري إنما يكون بالعمل على إعادة بناء دولة العراق وفق أسس وطنية رصينة تشعر جميع المكونات فيه بالاطمئنان على وجودها ومستقبلها، وبخلافه فإنه ليس الكرد وحدهم بل كل المكونات الأخرى، وحتى المحافظات ذات الأغلبية الشيعية كالبصرة مثلاً، والتي تتململ اليوم نتيجة لشعورها بمرارة الظلم، لكن الكرد سبقوا غيرهم بحكم استعدادهم الأولي، ووجود قيادة جامعة وراية واحدة يستظلون بها.
ربما يرى الكرد أن من مصلحتهم في هذه المرحلة تشجيع العرب السنة والتركمان على تكوين إطار جامع معهم، وهذه أفضل طريقة للنأي عن النزعة القومية أو العنصرية التي أصبحت مرفوضة إلى حد كبير في الأعراف الدولية، كما إنها كفيلة بالتخفيف من مخاوف الجانب التركي.
وهنا ينبغي أن لا نغفل الدور الأميركي فهو الأقدر بلا شك على رسم الصورة بالطريقة التي يريد، خاصة أنه يمتلك قوات ليست بالقليلة على الأرض، وأخشى ما نخشاه أن يخططوا لتوسيع دائرة الأرض المحروقة والفوضى الخلاقة.
1155 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع