أحمد فخري
ماذا لو قالو بانك ستموت قريباً؟
كلما هل علينا شهر رمضان المبارك كلما انهالت علينا المسلسلات العربية من كل صوب وحدب فتصبح مهمة متابعتها امراً عسيراً لانها غالباً ما تبدأ في فترات متقاربة من بعضها البعض من اليوم. لذا فانت تحاول ان تعثر على المسلسل الذي يحتوي على قصة تروق لك وممثلين قريبين على قلبك، ومع ذلك فان هذه المهمة تبقى صعبة للغاية.
هناك بعض الناس (اطلق عليهم لقب وزراء المسلسلات) ممن لديهم قابلية تتبع هذه المسلسلات بشكل منتظم و موضوعي وكأنها المهمة المستحيلة. فهم يقومون بتسجيل اسماء المسلسلات في فترة ما قبل ابتداء الشهر الكريم ويحاولون تتبع ما يجري من ندوات وشروحات حول المسلسلات كي يقرروا ما إذا كانت هذه المسلسلة ستكون على قياسهم وبالمواصفات والمعايير المطلوبة ام لا. ولكي يتمكنوا من فعل ذلك فانهم يهيئون دفاتر صغيرة يدونون فيها اسماء المحطات وعناوين المسلسلات وساعات ابتدائها وساعات انتهائها. وبذلك فانهم يحصرون وقت انتهاء المسلسل الاول مع ابتداء المسلسل التالي الذي يودون تتبعه. وهذا حقاً مجهود كبير عادة ما يقوم به بعض الناس ممن لديهم متسع من الوقت ولا يُطلب منهم اداء مهام منزلية او حياتية اخرى. وهذا يعتمد تماماً على حالتهم الاجتماعية كأن يكون الانسان متقاعداً او ما شابه ذلك بدون ادنى شك.
اما عن نفسي فانا استمتع ببعض المسلسلات التي تحمل في ثناياها قصص واهداف اجتماعية او سياسية او تأريخية او دينية. لكني لا احب ان اكون سجيناً مقيداً للمسلسلات طوال اليوم، فاكتفي بتتبع واحدة او اثنتان على اكثر تقدير. وعادة ما استعين بابنتي والتي هي بدورها تستعين ببعض المعارف من وزراء المسلسلات فتعطيني ملخص عن المسلسلات التي قد تكون اهلاً للمتابعة.
في رمضان الذي مر علينا مؤخراً اخبرتني ابنتي ان هناك مسلسلة مصرية جيدة تسمى حلاوة الدنيا. يقوم بدور البطولة فيها ممثلان من تونس هما هند صبري وظافر العابدين مع باقة جميلة من الممثلين المصريين الذين اعتبرهم مبدعين حقاً كحنان مطاوع ورجاء الجداوي وانوشكا ومجموعة اضافية كبيرة من المشاهير. وبما ان لدي بقعة رخوة في قلبي ازاء تونس كوني عشت فيها فترة لا بأس بها فوجدت نفسي منحازاً لتلك المسلسلة بطريقة او باخرى. وبناءاً على ذلك قررت ان استمع الى نصيحة ابنتي واتابع تلك المسلسلة.
كنت متحمساً لاحداث المسلسل إذ لم يكن عندي ادنى فكرة عن موضوع القصة ولا مدى تشابهها بالقصص المصرية الروتينية والتي عادة ما تتناول مواضيع متكررة وتجد نفسك تتنبأ بنتائج الحلقة الاخيرة منذ الحلقة الاولى. الا ان هذه المسلسلة كانت تشذ كثيراً عن سابقاتها من القصص المصرية الكلاسيكية.
تبدأ القصة بالبطلة أمينة والتي تسكن مع والدتها واختها وجدتها في شقة واحدة. وامينة هذه انسانة مثقفة وتعمل في شركة كبيرة وهي سيدة اعمال ناجحة ومخطوبة لعمر وهو انسان ناجح كذلك وتكن له كل الحب وتتطلع لمستقبل سعيد باهر معه. تبدأ الحلقة الاولى بالاستعدادات لعرسها على عمر وذلك بتحضير بدلة العرس والذهاب الى المشفى كي تقوم بتحليل الدم وذلك لان ذلك مطلوب في عقد الزواج. والمفاجئة الكبرى هي انها من جراء فحص الدم الروتيني تكتشف بانها مصابة بسرطان الدم (اللوكيميا). بداخلها تنطبق عليها السماء فوق الارض لانها لم تكن تتوقع ان يتغير مسار حياتها 180 درجة. فقبل ايام كانت تستعد لاسعد مناسبة بحياتها واليوم تواجه خطر الموت. تواجه صعوبة كبيرة في إخبار من حولها عن مرضها لانها تدخل في دوامة نفسية ما بين المُصدق والمُكذب.
واصلت تتبع هذه المسلسلة حتى وصلت الى الحلقة الخامسة. فوجدت نفسي ادخل بكآبة نفسية كبيرة كلما شاهدتها وتعمقت بالقصة. بتلك الليلة اتصلت بي ابنتي تسألني عن حالي ثم سألتني إذا ما أعجبني المسلسل، فقلت لها كلا يا ابنتي. لقد قررت ان اتوقف عن متابعته لاني اصبحت اشعر بالكآبة. فما هو الممتع في ان ارى انسانة تنهار حياتها يوماً بعد يوم وتخطو بخطاً بطيئة نحو الموت. فقالت حسناً يا والدي، حاول ان تتابع مسلسلة اخرى.
انتم تعلمون باننا كشرقيين عموماً وعراقيين خصوصاً لا نحب سيرة هذا المرض الخبيث، ولو سألنا شخص عن فلان نقول له "مسكين فلان اصيب بذلك المرض يا ساتر" وكأننا لو ذكرنا كلمة سرطان فان هذا المرض سوف يصيبنا نحن ايضاً.
انتهى رمضان ولم اتابع سوى مسلسل واحد فقط وكان غير ذا اهمية او اثارة ولكن كما يقول المثل (من قلة الخيل شدو عالجلاب سروج). وبعد مرور حوالي شهرين ونصف من انتهاء الشهر الكريم اصبت بازمة صدرية حادة لاني اعاني من مرض الربو المزمن. كانت ازمتي هذه المرة شديدة جداً وقاسية اكثر من المعتاد مما استدعاني للذهاب الى المشفى بشكل فوري محمولاً بالاسعاف. في المشفى انطلق الطاقم الطبي حول سريري باجراء اللازم وصاروا كالنحل الذي يدور حول خليته. فكل واحد منهم يؤدي دوره بحرفية عالية. فانت ترى ممرضة تضع كمامة اوكسجين مخلوطة بمادة مهدئة للربو فوق انفي وفمي وممرضة اخرى تقيس لي ضغط الدم ونسبة الاوكسجين وسرعة نبض القلب وما شابه. وتأتي خبيرة الدم لتقوم باخذ عينة من دمي فتذهب بها للمختبر. وبعد ساعة او اثنتان من هذه المعمعة بدأت اشعر بتحسن بسيط وعاد تنفسي الى حالة شبه طبيعية. جائتني رئيسة اطباء قسم الطوارئ واخبرتني بان حالتي اصبحت مستقرة الآن لكنهم يفضلون ادخالي الى المشفى لبضعة ايام حتى يتأكدوا من استقرار الوضع عندي تماماً. وافقت طبعاً بالرغم من اني لا احب البقاء في المشفى. المهم، اخذني احد (الموصلين) وهذا ما يسمون بعض العاملين هناك ممن يدفعون اسِرّة المرضى، اخذني الى غرفة الاشعة حيث صوروا صدري ثم الى الغرفة التي سامكث فيها خلال الايام القليلة القادمة. كانت الغرفة بسريرين وكان في السرير الثاني رجل يبدو عليه بنفس سني. بعد ان ربطوني باجهزة الاوكسجين ووضعوا الكمامة فوق انفي نظرت الى المريض الثاني في الغرفة فوجدته يبتسم بوجهي فرديت له الابتسامة وحييته. قال، اسمي كارستن، قلت، وانا اسمي احمد.
بعد قليل جائت احدى الممرضات وسألتني بعض الاسئلة التي تخص الادوية التي اعتدت ان اتناولها بشكل يومي فاخبرتها بذلك. ثم جائت مسؤلة التغدية وسألتني عن نوع الغذاء الذي اتناوله فاخبرتها باني اتناول كل الاغذية ما عدى لحم الخنزير فسجلت ذلك وتركوني كي اخلد الى قسط من النوم، ولكن هيهات يتركوني بسلام، فبعد حوالي نصف ساعة فقط جائت ممرضة الدم وايقضتني ثم قالت بانها ستأخذ عينة من الدم فقلت لها باني سبق وان اعطيت عينة في قسم الطوارئ قبل قليل فقالت كلا، هذه العينة الجديدة تؤخذ من معصم اليد وهي مختلفة تماماً عن سابقاتها. لم اكن اعلم كم هي مؤلمة لانها تدخل ابرة كبيرة بمعصم اليد ثم تسحب كمية من الدم من هناك. وبعد ان اكملت مهمتها، خرجت فصرت اتحدث مع جاري في السرير الثاني.
باليوم التالي وبالصباح الباكر حضر الى غرفتي طبيب وسيم كانت تبدوا عليه الملامح الشرقية. حياني وقال لي بالدنماركية، انا الدكتور گوران وانا الذي ساشرف على حالتك من الآن فصاعداً. سألته، وهل حضرتك كردي فقال نعم انا من اربيل. قلت باني سعيد جداً لانك ستشرف على حالتي واتضح انه حضر الى الدنمارك منذ امد بعيد واكمل دراسته منذ الطفولة في الدنمارك حتى تخرج من كلية الطب هنا. لكنه كان يتحدث العربية بطلاقة.
د. گوران: اريد ان اقوم بفحوصات معمقة يا احمد فحالتك تبدوا غريبة.
- نعم دكتور انا مستعد لكل ما تقول عليه فان لي ثقة عمياء باطباءنا.
د. گوران: اولاً اود ارسالك الى جهاز المسح سي تي سكان CT-SCANNER، ثم اريد ان اعمل لك اشعة اضافية على مناطق من صدرك.
- كما تشاء دكتور.
د. گوران: سيأخذونك بعد ضهر اليوم الى جهاز الماسحة، كن مستعداً بعد الساعة الثانية ظهراً.
قال ذلك وحياني بادب ثم خرج. شعرت بتحسن غريب لانه اعطاني دعم نفسي شديد فهو مني ويريد ان يبذل قصارى جهده كي يحل ازمتي الصحية. في تمام الساعة الثانية بعد الضهر جاء احد الموصلين واخذني بسريري الى مكان خاص بالمشفى حيث توجد الماسحة سي تي سكان. وهي عبارة عن سرير معدني يستلقي عليه المريض ويدخل في قرص دائري كما هو مبين في الصورة. وعندما يكون المريض بهذه الحالة يطلب منه رفع يديه الى فوق رأسه وكانه لاعب كرة قدم وهو يرمي الكرة رمية تماس من خارج الملعب، تخرج الممرضات خارج الغرفة ويبدأون بالتحدث معي من خلال سماعات مثبته على القرص الدائري للماسحة. فتطلب مني ان اتوقف عن التنفس لبضع ثوان وبعد ذلك تطلب معاودة التنفس الطبيعي. ثم تطلب مني تكرار العملية مرة اخرى. وبعد مرور 10 او 15 دقيقة ينتهي الفحص تماماً.
CT Scanner
ارجعوني الى غرفتي بعد ان تمت عملية الاختبار. وفي اليوم التالي جائني د. گوران ثانية وقال بانه يريد ان يقوم باخذ عينة من الغدد اللمفاوية Biopsy هنا دق ناقوس الخطر عندي. فالعينة عادة ما تؤخذ بحالات السرطان وبما انهم سبق وان قاموا بمسح صدري بالماسحة الاولى ويخططون الآن لاخذ عينة فان الامر فيه إنَّ. نظرت الى د. گوران ووجهت له سؤال صريح إذ قلت:
- هل تعتقد ان الاورام التي عندي هي اورام سرطانية؟
د. گوران : لا اعلم ذلك. سوف لن استطيع ان اجزم الا بعد ان انهي جميع الفحوصات. ما استطيع الجزم فيه هو ان هناك ورم، وهذا الورم غير معروف سببه لحد الآن. لذا ارجو ان لا نستعجل في اصدار حكم مبكر قبل ان نتأكد منه تماماً.
- لو فرضنا انه ورم سرطاني، فهل هناك امكانية الشفاء منه؟
د. گوران : بالتأكيد ولكن يجب ان لا نستعجل الامور قبل اتمام كل الفحوصات. اعتقد باننا سوف لن نتمكن من اجراء عملية اخذ العينة الا بعد ان تتماثل للشفاء من الالتهاب الذي تعاني منه الآن.
- حسناً دكتور. انا شاكر لوقوفك الى جانبي.
حياني الدكتور وغادر غرفتي.
بقي العلاج مستمراً والمتمثل بمضاد حيوي سائل يوضع لي بالدم مباشرة اربع مرات باليوم. ناهيك عن فحص الدم اليومي الذي يؤخذ من يدي والذي أطلق عليه اسم (التعذيب اليومي) والسبب في ذلك هو ان الممرضة المختصة تمسك بذراعي وتبدأ بالبحث عن الاوعية الدموية فتغرس ابرتها مرة واثنتان وثلاث لكنها لا تعثر على الوعاء الدموي لان الاوعية الدموية عندي عميقة جداً فتضطر لغرس ابرة ثانية وثالثة حتى تصل الى ضالتها. وبهذه الاثناء اشعر وان فريقاً كاملاً من النحل يهاجم ذراعي. ومع ذلك فهي بنهاية المطاف لمصلحتي لذا فانا احرص على ان لا ابدي اي تذمر او احساس بالالم او تعبير بالاستياء على وجهي.
بقيت على هذه الحالة اكثر من اسبوع ونصف حتى جائني د. گوران الى غرفتي واخبرني بان الالتهاب قد زال تماماً من صدري وان بامكاني مغادرة المشفى باليوم التالي. وكذلك اخبرني بان سكرتيرة القسم سترسل لي موعداً لاجراء عملية اخذ العينة وكذلك ستقوم بارسال موعد لماسحة جديدة تسمى پت سكان PET SCAN وبالعربية هو(التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني). وهو نوع معمق من المسح الاولي وهو فقط يجرى على من يشك به الاطباء لحيازه على اورام سرطانية. وعندما ذكر ذلك شعرت وكأن ماء بارداً قد هبط على جسمي من اعلى رأسي الى اسفل قدمي. لم اشأ ان يعتقد باني جبان لذلك لم ابدي اي تعبير على وجهي سوى كلمة حاضر دكتور.
خرجت من المشفى باليوم التالي ورجعت الى شقتي. دخلت الشقة فوجدت ان كل شيء بقي على حاله كما تركته قبل اكثر من اسبوع. قمت بتنظيف الشقة قليلاً وجلست اتناول قدحاً من الشاي وانا اشعر ان هناك افكار متضاربة تحوم حول رأسي. باليوم التالي اتصلَت بي سكرتيرة قسم الامراض الصدرية واعلمتني بأن موعد اجراء اخذ العينة سيكون بعد 5 ايام، وبنفس اليوم اتصل بي ابني يحيى كي يستفسر عن صحتي، فاخبرته بعملية أخذ العينة، فقال بانه يريد ان يحضر معي في المشفى يوم اجراء العملية فشعرت بارتياح كبير وشكرته وقلت لنفسي سيكون ذلك احساساً مريحاً كي اموت بين احضان ولدي إن كانت هذه مشيئة الله، فما اسوأ ان يموت الانسان في مشفى بين طاقم تمريض غريب عنه؟
بدأ العد التنازلي للايام الخمسة وانا انتظر العملية. الا ان مرض الربو عاد بشدة وبدأ يقلقني كثيراً إذ اصبح تنفسي صعباً جداً بحيث اني لو مشيت 3 امتار بداخل بيتي يكاد يغمى علي وكأنني هرولت 3 كلم، ومما زاد بالطين بلة هي اني شعرت بالم شديد في الجهة اليمنى من بطني وكأنه موضع الزائدة الدودية، وكلما سحبت شهيقاً شعرت وكأن هناك خنجر يغرس بخاصرتي. لم اتحمل الانتظار حتى موعد العملية، فاتصلت باحد الاصدقاء وطلبت منه ان يأتي لنقلي الى المشفى لانني لا استطيع قيادة سيارتي. حضر صاحبي على جناح السرعة ونقلني الى المشفى، وهناك بالمشفى صار الجميع يرحب بي لانهم يعرفونني جيداً (زبون قديم) لاني ما ان غادرت المشفى قبل يومين او ثلاثة بصحة جيدة الا وعدت لهم وانا بحالة يرثى لها.
كالعادة ابتدأت خلية النحل بالعمل الدؤوب، إذ ادخلوني الى غرفة بالمشفى وهذه المرة كان زميلي بالغرفة شاب افغاني لاجئ عمره 17 عاماً اسمه خان، جيئ به للمشفى اثر مشاكل برأسه فهو يعاني من صداع شديد وعياء كبير. هذا الشاب كان يتسم بالاخلاق الراقية وقد ادهشني من كثرة كرمه واسلوب تعامله. فحالما ادخلت الى الغرفة جاء بقربي واراد ان يستفسر عن حالتي الا انه لا يجيد اي لغة يمكنني التفاهم بها معه. فاكتفينا ببعض الكلمات التي اعرفها باللغة الفارسية. حمل كمية من الفواكه من طاولته وجاء بها الى عندي، حاولت ان اشكره وان ارفضها لكنه اصر بشدة وصار يعينني بكل شيء. حتى ان سلك الشاحنة لهاتفي الخلوي سقط على الارض، فوجدته يقفز من سريره ويلتقطه لي من الارض ويمده لي وهو يبتسم.
ابتدأ العلاج ثانية بالمضادات الحيوية لكنهم هذه المرة استعملوا نوعاً مختلفاً كي يحاولوا السيطرة على الالتهاب الجديد الذي هاجمني. باليوم التالي جائني د. گوران ورحب بي، وبعد نقاش طويل اخبرني انني ساخضع لعملية اخذ العينة حالما تتحسن حالتي ويزول عني الالتهاب الجديد.
بعد 3 ايام حددوا اليوم الرابع كي يكون يوم اخذ العينة واخبروني ان اكون جاهزاً من الساعة 8 صباحاً فما فوق. وعندما هاتفني ابني يحيى كي يطمئن على حالتي قال بانه سيأتي تمام الساعة الثامنة كي يكون بقربي في الغد. وباليوم الموعود، حضر يحيى ومعه كتبه وجهاز حاسوبه المتنقل وجلس بجانبي وبينما نحن ننتضر موعد العملية كان يطالع كتبه ويراجع دروسه بجانبي. ولم يأتوا الى عندي الا الساعة الثانية ضهراً. اخذني احد الموصلين وهو يدفع بسريري الى الاسفل ومعي ابني يحيى. وعندما وصلنا غرفة العمليات. قبّلت يحيى وودعته وكأني اودعه الوداع الاخير الا انه كان يبتسم وقال: لا عليك يا ابي انها عملية بسيطة. بقي يحيى بالخارج ودخلت وحدي وانا مشدوهاً يلتبسني الخوف والحيرة. غرفة العمليات كانت مظلمة ما عدى انوار تأتي من اجهزة هنا وهناك ومن شاشات متناثرة حول المكان. شاهدت طبيبي د. گوران وقد تغير شكله تماماً. فاليوم يلبس صدرية طويلة وخمار وعلى رأسه قبعة زادت من شعوري بالرعب الشديد. الا انه اخبرني باني سوف لن اشعر باي شيء لاني ساكون تحت تأثير المخدر الذي ستعطيه لي الممرضة. اشرت لها بيدي كي تتوقف قليلاً، فرفعت اصبعي الى الاعلى وتشاهدت الشهادتين ثم اومأت لها كي تواصل. فاعطتني حقنة بعثتني بها الى عالم الاحلام.
استيقظت بعد ان زال عني تأثير المخدر فنظرت الى ابني يحيى وهو يبتسم بجانبي وقال لي بان كل شيء سار على ما يرام. ثم جائني د. گوران وقال لقد ادخلت ناظوراً من انفك الى رئتيك واخذت عينة من الورم الذي ظهر لدينا في الصورة. وسوف ابعث العينة الى المختبر كي يحللوها ثم سوف نبعث لك موعد كي تخضع للـ PET SCAN الذي سبق وان تحدثنا عنه، وبعد ان يصلنا التقاريران سوف نعلمك بها، فشكرته وودعته. باليوم التالي سمح لي بالخروج من المشفى الى البيت وانا اعلم اني قد اجتزت اول اختبار ولم يبقى لي سوى الاختبار الاخير وبعدها اعلم الخبر اليقين (يعني لو هرا لو ورا).
باليوم التالي جائني اتصال هاتفي من سكرتيرة القسم واخبرتني ان مسح ال PET SCAN سيكون يوم الجمعة المصادف 6 تشرين اول على الساعة الثامنة صباحاً في مشفى بعيد عن بيتي لانه يمتلك المعدات الخاصة لمثل هذا المسح وعلي ان اكون صائماً عن الطعام تماماً 16 ساعة قبل موعد المسح.
في يوم 6 وصلت المشفى نصف ساعة قبل الموعد وبقيت انتظر خارج الغرفة حتى خرجت احدى الممرضات ونادت اسمي وقالت باني ساتأخر نصف ساعة عن الموعد. بعد ذلك جائتني واخذتني الى غرفة صغيرة جداً وطلبت مني ان استلقي على سرير ثم غرست ابرة في يدي ثم حقنت بها بحقنة قالت انها ستشعرني بالارتياح، اغلقت علي الانوار وطلبت مني ان استرخي لمدة نصف ساعة. وبعد ذلك جائت واوصلت انبوباً الى الابرة المثبتة بيدي ومن الناحية الثانية اوصلتها بجهاز يشبه حاسوبي بالدار. واتضح لي ان هذه الابرة من نوع آخر وهي تضخ مواد مشعة بجسمي لان الممرضة خرجت قبل ان تشغل هذا الجهاز. وبعد ان تمت عملية الحقن دخلت وطلبت مني ان استرخي لنصف ساعة اضافية. ثم بعد مرور نصف ساعة طلبت مني ان اتبعها، واجلستني في صالة واعطتني ابريق يحتوي على سائل اصفر بسعة لتر كامل وطلبت مني ان اشربه كله. سألتها ان كان هذا العصير يحتوي على مادة الباريوم فقالت نعم. توقعت ان يكون طعمه مقززاً الا اني كنت مخطئاً، فقد كان يشبه طعم عصير البرتقال. وبعد ان اتممت شرب الإبريق برمته جائت وتفحصته فوَجَدَته فارغاً. قلت لها وأنا امازحها، هل لي بابريق ثاني فقد أعجبني طعمه. ضحكت وقالت لي باني يجب ان انتظر نصف ساعة اخرى ثم أذهب لافراغ مثانتي، ثم يبدأ الفحص. بعد ان افرغت مثانتي، ادخلتني الى غرفة كبيرة هذه المرة، لكن الجهاز شبيه بالماسحة الاولى والتي مُسِحت بها في المشفى الاول. الا انها وضحت لي ان المسح سيدوم 45 دقيقة هذه المرة وعلي ان ابقى بنفس الوضع اي اكون رافعاً يدي فوق رأسي دون حراك. خرجت الممرضة من الغرفة وابتدأ الجهاز بالعمل. وبعد قليل قالت لي عبر السماعة ستشعر بحرارة بجسمك. هل شعرت بها فعلاً؟ فاجبتها بنعم. وبعد ذلك صار الجهاز يأن ويون ويذهب الى الامام ثم يرجع الى الخلف وانا احاول جاهداً ان ابقي يدي بنفس الوضع دون حراك، شعرت وقتها بالم في عضلة الزند الا اني ابيت ان احرك يدي فاخرب ما فعلناه طوال اليوم. تحملت الم التشنج حتى مرت الفترة بسلام وقالت لي ان المسح قد تم بنجاح. وقالت ان نتائج المسح سترسل الى طبيبي بالمشفى الاولى والذي سيقوم باعلامي بالنتائج فيما بعد.
هنا لم يبقى عندي اي شيء سوى اصدار الحكم. مذنب ام بريء ؟ الموعد هو يوم 12 من هذا الشهر الحالي اكتوبر. اي ان عندي 6 ايام انتظار. من الجمعة وحتى الخميس الموالي. يا الهي كيف ستمر هذه الايام الستة. حاولت ان الهي نفسي وانا في طريقي الى السيارة. توقفت عند كفتيريا المشفى واشتريت شطيرة تناولتها مع قدح من الشاي لاني كنت صائماً قبل المسح. الا اني لا اعتقد باني تذوقت طعم ما اكلت أو ما شربت فهناك كلمة واحدة تتكرر بذهني سرطان سرطان سرطان وكلما حاولت ان افكر بشيء آخر واغير مسار تفكيري تظل الكلمات تتكرر بدماغي سرطان سرطان سرطان. ما هذا؟ لماذا لا استطيع ان اتغلب على حالتي النفسية؟ الست مؤمناً بالله؟ الست مؤمناً بالقدر؟ فلماذا كل هذا التفكير؟ حتى لو شاء الله ومت، فماذا سيجري؟ الست انساناً وكل انسان معرض للموت إن عاجلاً ام آجلاً؟ الم اقل مراراً وتكراراً اني مللت الحياة عندما اشعر بالوحدة؟ الم اتناقش بحدة مع اصدقائي الملحدين عن ان المؤمنين لا يهابون الموت؟ كنت ادرك تماماً باني غير خائف من الموت بحد ذاته. لكني كنت اخاف من تبعات هذا المرض وما سيسطحبه من علاجات كيماوية واشعاعية وفقدان لشعر الرأس واعياء وتقيؤ ووو. اقول لكم بكل صراحة لا اعرف كيف قدت سيارتي ولا كيف وصلت الى بيتي. فبالرغم من ان المسافة كانت تستغرق 50 دقيقة الا اني لم اكن بوعي طوال فترة الرحلة. وعندما وصلت البيت دخلت وكأن بيتي اسود داكن مظلم مخيف. هل ساغادر الحياة قريباً؟ هل ساترك كل هذه الاشياء التي من حولي؟ وهل سيأخذها اولادي ام انهم سيتركوها ترمى في النفايات؟ وماذا عن حاسوبي؟ فهو عزيز علي لاني صنعته بيدي وباعلى المواصفات وبه مخازن كبيرة للمعلومات. فهل سيرمى بالقمامة هو الآخر؟ وماذا عن ارشيف الصور بداخله. فانا املك ما يقرب من 16 الف صورة. البعض منها قديم ويرجع الى ما قبل ولادتي اي عندما كان والدي رحمه الله شاباً. وماذا عن مخطوطات كتبي الثلاث التي سهرت عليها سنين طويلة وانا اكتب وانقح واكتب وانقح.
وماذا عن الكتب التي انزلتها من الشبكة العنكبوتية؟ فالبعض منها قيم جداً وسوف لن يستطيع احد العثور عليها ثانية. اهذا انذار لي بالموت ام انه انذار لبياناتي بالاندثار؟
غمرتني الكآبة فاردت ان انفه عن نفسي. قمت بتشغيل جميع المصابيح الكهربائية في شقتي بالرغم من ان الوقت ما زال نهاراً الا اني كنت اشعر بضيق في حالتي النفسية. لكن الانسان بمثل هذه الحالات يحتاج الى شخص يكون معه، يحدثه يستمع اليه يهون عنه اثر الصدمة الا اني كنت وحيداً. ولا اجرؤ ان اتصل باحد خوفاً من ان يتهموني باستجداء العطف والشفقة. وبتلك الاثناء اتصلت بي كنتي (زوجة ابني يحيى) كي تستفسر عن صحتي فاخبرتها بما جرى بالمشفى فقالت، ساحضر معك الى المشفى يوم الخميس القادم عندما يخبرونك بنتيجة التحاليل النهائية. كان ذلك بمثابة جائزة كبيرة حزت عليها فكنتي لها معزة خاصة في قلبي وهي مستعدة لان تترك كل شيء كي تكون بجانبي.
بعد ان وضعت سماعة الهاتف اتصل بي صديقي الدائمي جلال چرمگا كي يطمئن على حالتي. ثم صار هاتفي يرن كل 10 دقائق، يتصلون بي كي يعرفوا ماذا حل بي اليوم.
بعد ان هدأت عاصفة الاتصالات الهاتفية رجعت الى احضان نفسي ولافكاري وعادت الكلمات تنهال علي ثانية. سرطان سرطان سرطان، يا الهي كيف لي ان اتخلص من هذه الكلمة التي ترن برأسي كالناقوس؟ فتحت التلفاز واردت ان اسمع الاخبار لكني لم اكن اسمع سوى رنين الاجراس التي برأسي. وكنت اتسائل، كيف استطيع ان اتغلب على هذه الحالة؟ لم تنفعني كل الكتب بعلم النفس التي قرأتها بحياتي. فماذا اعمل؟ كم اتوق لان يكون بقربي شخص اميل اليه فاخبره بحالي واشتكي له حزني وتوتري. ومن الذي سيكون سنداً لي بمثل هذه الحالات؟ شخص يكون حكيماً ملماً بهذا المرض ويعلم بهذه الحالة وكيف يستطيع المرئ ان يتمالك نفسه. هنا تذكرت المسلسل الذي لم اتتبعه في رمضان. يا ترى كيف استطاعت امينة بطلة المسلسل ان تمر بنفس المراحل التي ممرت بها. وماذا عملت؟ وكيف تعاملت مع تلك الامور التي تقلقني الآن.
هنا خطرت لي فكرة تتبع مسلسل (حلاوة الدنيا) من البداية، علني اجد فيه مهرباً وملاذاً لحالتي او شيئاً يلهيني ويكون لي عزاءاً وسنداً في محنتي. فتحت تلفازي وبحثت عن المسلسل ثم بدأت اتتبعه منذ البداية. هذه المرة نظرت الى احداث القصة بعين مختلفة. صرت اتفاعل مع احداث القصة بشكل كبير جداً. غرقت تماماً بتفاصيل القصة، خصوصاً في اللقطات التي تشعر بها البطلة بقلة الحيلة والضعف والمفاجئات المحزنة والسعيدة. لقد كان المنظر مؤثراً عندما كان افراد عائلتها يتأثرون بالخبر وكانه طنٌ من الفولاذ قد نزل على رؤوسهم فكانوا يلجأون الى البكاء والعويل مما كان يزيد في الم امينة. كانت هذه المسلسلة بحلقاتها ال 30 افضل حوض أغرِق فيه احزاني لاني وبكل صدق بدأت اتناسى مشكلتي شيئاً فشيئاً واحاول ان اكون اقوى من الحِمل الذي نزل فوق رأسي. وبنفس الوقت وجدت نفسي اتقرب الى الله كثيراً في صلاتي وقراءة القرآن وسماع القرآن حينما اقود سيارتي. كانت هذه فرصة ذهبية لاعيد حساباتي مع خالقي لاني قد اكون ملاقيه قريباً جداً. يجب علي ان لا اذهب للآخرة خاوي الوفاض، حتى ولو كنت مصلي ومتدين ولكن هذه المحنة اعطتني دفعة كبيرة وعزماً جباراً عززت فيه ايماني وخلتني اتقرب الى خالقي اكثر فاكثر. صرت اشعر بحالة غريبة جداً فقد كنت اشعر بالضعف والقوة بآن واحد. كيف ذلك؟ كنت اشعر بضعف في الدنيا وقوة بالآخرة مكنني من تحمل تلك الفترة العصيبة التي لا يمكن ان يمر بها الفرد وحيداً، لكني مررت بها وانا من دون حيلة. صارت مسألة تتبع تلك المسلسلة مهمة اساسية بحياتي استشف منها العبر واحاول ان اراجع حساباتي حول تصرفاتي ازاء كثير من الامور.
استمريت بمحاولة تناسي همومي وافكاري البشعة التي عشعشت برأسي. ومع ذلك فان الوقت كان يمر ببطئ شديد جداً. تذكرت وقتها الافلام التي تتبعتها في السابق عن المجرمين المحكوم عليهم بالاعدام. وكيف كانوا ينتظرون تنفيذ الحكم فيهم وهم يرتدون الملابس البرتقالية او الحمراء وكيف كانوا يمرون بنفس الدوامات النفسية التي كنت امر بها.
مرت الايام الستة ببطئ شديد. فكلما كان يمر يوم افرح واقول لنفسي ها قد مر يوم وانتهى وبقي كذا يوم لموعد الحكم. ولما جاء يوم الخميس لم اتمكن من النوم ولا ثانية واحدة. بقيت مستيقظاً طوال الليل افكر وافكر واعيد التفكير بكل شيء. ولما صارت الساعة تشير الى السابعة صباحاً نهضت من الفراش وقلت لنفسي كفى. دعني ابدأ بالاستعدادات كي اذهب للمشفى واقابل الطبيب واعرف منه ماذا سيكون مصيري.
وصلت المشفى الساعة العاشرة فتحدثت مع سكرتيرة القسم فاخبرتني باني قد وصلت مبكراً لان موعدي هو الساعة العاشرة واربعين دقيقة. جلست انتضر في قاعة الانتضار، وبعد 10 دقائق وصَلَت كنتي وجلست بجانبي وهي مبتسمة وتقول بانها متفائلة وان كل شيء سيكون على ما يرام. وبعد بضع دقائق مر د. گوران وتوجه نحوي. وقفت ونظرت اليه وقلت، طمني دكتور. ماذا هناك؟ هل عرفتم النتيجة؟
قال، ابشرك يا احمد، نتائجك كلها سلبية. ولم يجدوا عندك اي شيء يدعو للقلق. جسمك خالي من الاورام السرطانية.
صرت اقبله بلا شعور والدموع تنهال من عيني. لكنه قال بان رئيس الاطباء يريد ان يقابلك ويخبرك بالنتيجة بنفسه لذا ارجو ان لا تخبره بانني اخبرتك بالنتيجة. شكرته كثيراً واكدت له اني سوف اتظاهر باني ساخذ الخبر من رئيس الاطباء بالشكل الذي يتلقى الخبر اول مرة. رجعت انا وكنتي وجلسنا قليلاً حتى جائت ممرضة وقالت بامكانك ان تأتي معي لمقابلة رئيس الاطباء. سألتها ان كان بامكان كنتي المجيء معي فقالت لاضير من ذلك. دخلنا على رئيس الاطباء وكانت قد جلست احدى الطبيبات المتدربات بجانبه. نظرت الى عينيه وسألته بطريقة درامية كبيرة، طمني يا دكتور ما هي نتائجي؟ فقال اطمئن، ان جميع فحوصاتك سلبية وان صدرك خالي من السرطان. فابتسمت ابتسامة عريضة وتحدثت مع كنتي ثم شكرته وقلت انا جداً سعيد. فهذا بجهودكم سيدي. ودعناه وخرجنا من مكتبه ونحن نشعر بسعادة ما بعدها سعادة.
ودعت كنتي ورجعت الى بيتي وانهالت علي المكالمات التلفونية من كل بقاع العالم من الاقارب والاصدقاء وصرت اطمئنهم الواحد تلو الآخر حتى هدأت العاصفة وسكنت الى نفسي اراجع حساباتي واقف على تلك التجربة المريرة وكيف تخطيتها وما هي نقاط الضعف والقوة عندي وكيف بالامكان ان اجابه هزات مثلها بالمستقبل. فانا حقاً تعلمت الكثير من هذه التجربة وان كثيراً من الاموراً اتضحت لي ماكنت لتخطر ببالي لولا مروري بتلك التجربة.
قررت ان اصلي ركعتين لوجه الله كي اشكر الله على منحي فرصة ثانية للحياة. واول سورة وردت على لساني وانا اصلي هي (الم نشرح لك صدرك) يا الاهي، ان الله يكلمني. لقد شرح لي صدري حقاً فازمتي كانت بصدري وازالها الله بقدرته. بكيت وانا اصلي. هطلت دموعي وانا اكرر الآية عدة مرات (الم نشرح لك صدرك) (الم نشرح لك صدرك) يا الله، شكراً لك على هذه التجربة فقد قربتني منك وزدتني ايماناً.
بعد هذه الازمة، عندما استيقض في الصباح، اجد نفسي بلا شعوري احمد الله واستغفره واسبح له، لاني عرفت وقتها حلاوة الدنيا.
1369 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع