محمد حسين الداغستاني
التحديات الاستراتيجية في مرحلة ما بعد داعش
لا يمكن لأي منصف أن يقلل من حجم الإنجازالمهم الذي حققته الحكومة في بغداد على يد قواتنا المسلحة العراقية والتشكيلات المسلحة المتحالفة معها على صعيد تصفية الكيان الداعشي على أكثر من ثلثي مساحة العراق ، وإستعادة العديد من مصادر الثروة النفطية في ارجاء مختلفة من البلاد من بين براثن هيمنته ، فضلاَ عن بسط نفوذها على مساحات جديدة من الأراضي وممارسة السيادة عليها .
ورغم أن هذه الحصيلة المميزة لم تكن نتيجة لجهد عراقي خالص وإنما هي أيضاً ثمرة دعم ومشاركة وإسناد لحكومات دولية وإقليمية وظفت قدراتها على هذا السبيل بالنظر لتداخل مصالحها في هذه المرحلة مع المصلحة الوطنية العراقية ، إلاّ أن ذلك لم ولن يحول دون تجيير النتائج لصالح المستقبل السياسي للقائمين على شؤون وتيسير دفة البلاد وتحسين صورهم لدى القاعدة الشعبية والإشادة بحكمتهم وصبرهم وقدرتهم على التكيف مع المستجدات في الميدان أولاً بأول .
ولاشك أن السؤال الكبير الذي يشغل أذهان الجميع هو : ماذا بعد مرحلة داعش ؟ وهل يمكن للعراق أن ينجح في مجابهة التحديات المستقبلية ، والسعي الحثيث نحو الإستقرار والتنمية وإعمار المدن المنكوبة ، وإحياء دوره السياسي والقومي على الساحة العربية والدولية ، أم سيعود (لا سمح الله) الى المربع الأول عندما شرع بخطواته العسيرة بعد العام 2003 بسبب التلكأ في توظيف نجاحاته وتفاقم أزماته الداخلية العميقة ؟
ولكن لنحدد إبتداءُ وفق منظورعام .. ماهي التحديات الإستراتيجية الأبرز التي على العراق أن ينجح في تجاوزها وإيجاد الحلول الناجعة لها ؟
من الضروري التأكيد هنا على معضلة سبل تغييروحسم المفاهيم السائدة في كيفية إرساء علاقة وطنية متينة ما بين الحكومة الإتحادية وحكومة إقليم كوردستان ، وقلع جذور الفساد والعنف اللذان يشكلان الغول الذي يبلع القدرات ويهدد الإقتصاد ويمزق النسيج الأهلي دون رحمة ، ومحاربة وحصر تأثير الأفكار المتطرفة بشتى أشكالها الدينية والعنصرية على مساحة واسعة من العقل المجتمعي وفي المقدمة منها على قناعات الجيل الناشيء التي تقع ضمن الأولويات الأكثر إلحاحاً في هذه الفترة بعد أن يتوقف أزيز الرصاص وهدير الدبابات والمدافع والطائرات وتبدء تباشير مرحلة جديدة .
فعلى صعيد العلاقة مع حكومة الإقليم فإن من الخطأ الجسيم إعتماد منطق المنتصر والمهزوم في التعامل المشترك ، كما أن النظر الى الأزمة القائمة بزاوية استعلائية والإحساس بالعظمة أوالإستقواء بالآخرين على ضوء التطورات في المنطقة لن تكون مجدية أو عقلانية مطلقاً ، لأنه سيتمخض عن هذا الأسلوب رد فعلٍ طبيعي بإتجاه الرفض والشعور بالقهر والإستلاب وهدر الكرامة ، وبالتالي فإن الحل الأكيد يكمن في توفير بيئة جدية وصارمة يتم في ظلها تحديد واجبات الحكومة الإتحادية وإلتزاماتها الدستورية تجاه الإقليم وكذلك الحال مع حكومة الإقليم التي عليها التفاعل مع المركز وإداء الواجبات الملقاة على عاتقها بعد أن تنال حقوقها المشروعة لإبعاد مخاطر الصراع الداخلي والتدخلات الخارجية المشبوهة ومنع جهود المتصيدين في الماء العكر وتسميم الأجواء المحتقنة أصلاً
أما فيما يتعلق بإقرار حملة مُحكمة لمحاربة الفساد المستشري في مفاصل الدولة ومؤسساتها فإنها مرهونة بالتحلي بعزيمة صلبة وشجاعة إستثنائية من لدن الحكومة ، فالحرب على الفساد لا يقل بأساً ولا خطورة عن المعارك النوعية الفاصلة ، ذلك لأنه إستطاع خلال السنوات الماضية من خلق قاعدة قوية تأتمر بأمر عرابيه ، وصنع مافيا شريرة ترعب الآخرين بابشع الممارسات التي ترتقي أفعاله الإنتقامية حتى الى القتل بدم بارد وتجريد الشعب من جلَ موارده ، وخلق طبقة شرهة وقاسية وعنيدة من اللصوص والطارئين والمنتفعين ، حولت العراق من بلد غني كان من أقوى إقتصاديات المنطقة الى مجرد كيان ضعيف منهك تعصف به الأزمات وتسير بخطى وئيدة نحو الهاوية الحتمية .
لقد إستغل دهاقنة الفساد بذكاء مفرط التسهيلات الخارجية التي إتيحت له والهادفة الى تمزيق الوطن وإقتصاده ، كما وإستطاع التغلغل الى المفاصل الحاكمة في المجتمع ، وإمتلك السلاح والرجال لحماية مكاسبه وممارسة نشاطاته في وضح النهار دون وازع أو خوف ، بل وفرض النظم والتعليمات والتوجيهات التي تتناسب مع طموحاته وأهدافه المدمرة .
أما على صعيد مكافحة الأفكار المتطرفة فإن على الدولة أيضاً أن تعيد النظر في التعامل مع المواطنين بحيادية وليس وفق سلم الدرجات المتباينة ، وإستلهام مواد وأحكام الدستور في كون المواطنين سواسية أمام القانون ، وإلغاء المناهج التعليمية المشوهة ، ووقف فعاليات المراكز والمؤسسات ووسائل الإعلام التي تروج للمارسات الطائفية والعنصرية والعقائد المتطرفة التي تتناقض مع سماحة وعدالة الفكر الإسلامي المعتدل ، ثم العمل على إشاعة روح التعاضد الوطني والإعتزاز بالهوية الوطنية العراقية .
إن مواجهة تداعيات هذه التحديات الحقيقية والإسراع بوضع الحلول للأزمات هي مسؤولية وطنية ملحة ، وواجب مقدس ، وضمان للتواصل مع تطلعات الشعب ، وفعل يؤدي الى إيقاد شعلة الأمل التي تنير درب السائرين نحو نهاية النفق المغلق .
1396 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع