مثنى عبيدة
تربينا في عالمنا الثالث مثل كل باقي أوطان الأرض على اختلاف أنظمة الحكم فيها على أنه بعد الله تعالى فإن الوطن وترابه الطاهرة هي منبع الخير والثروات والعطاء وأنه بلدنا وخيمتنا وعنوان الكرامة الشخصية والعامة لجميع أبناءه وأن صيانته والدفاع عنه والعمل بما يُعززُ من مكانته بين الأمم والقيام بواجباتنا تجاهه هي رسالتنا في هذه الحياة بالإضافة إلى القيم الدينية والتربوية والأخلاقية التي تمثل جزءً لا يتجزءا من سلوكنا وقيمنا الإنسانية المشتركة مع الآخرين ،
كل ذلك كان يقابله قيمة كبيرة تشكل توأما لكل ما تقدم تسمى الحقوق الإنسانية الوطنية المشروعة للمواطن في بلده والذي على نظام الحكم فيه توفير كل ما يلزم لمواطنيه من العيش بحياة كريمة تليق بالفرد والمجتمع دون منة ٍ أو فضل ٍ من أحد فهي ليست هبة شخصية من الحاكم للمواطنين أنما هي حق لهم في وطنهم .
في ليلة جميلة ونسمات الخريف الطيبة بدأت تحل في سماء العراق زارني أصدقاء أعزاء ودعوني إلى الخروج معهم في جولة مسائية في بغداد وذلك للترويح عني وفعلاً وصلنا إلى منطقة الكرخ وتحديداً إلى أحدى المقاهي الواقعة على نهر دجلة في منطقة العطيفية وحينما نزلنا الدرج المؤدي لهذه المقهى المطلة على النهر أذا بي أشعر بحرارة في جسدي ونظرت إلى أسفل قدمي فرأيت ُ الدماء تنزف من ساقي اليمنى فتم حملي إلى مستشفى الكرخ الجمهوري على وجه السرعة لتأخذني سيارة الإسعاف إلى مستشفى أبن النفيس للقلب والأوعية الدموية حيث تم إدخالي مباشرة إلى قسم العناية المركزة فأخبرتُ أصدقائي أن يعودوا ويخبروا أمي وأخوتي بما حصل ونمت ليلتي تحت تأثير المسكنات والأدوية ، في الصباح جاء الدكتور صديق الخشاب وأتصل مباشرة بصديقه العميد الدكتور ناجح الاسدي الذي وصل بعد انتهاء عمله في مستشفى الرشيد العسكري وأذكر إن د صديق سأل د ناجح فقال له ( لا أعرف ما الحكمة من أبقاء مثنى في الجيش فهو ليس ضابطاً كبيراً أو خبيراً عسكرياً هو جندي بسيط فماذا يستفيد الجيش من خداماته وهو بهذه الحالة المرضية الصعبة والله بقاءه عيب علينا كأطباء وعلى الجيش العراقي برمته ) أجاب د ناجح بعد أن عرف مني وضعي القانوني واللجان التي دخلتها فقال ( أن المشكلة تكمن بان مثنى قد دخل لجنتين طبيتين وهما المسموح بهما قانوناً لذا لا يملك أي طبيب أو لجنة أخراجه من الجيش حالياً إلا أن يراجع مقر اللجان الطبية وهيئة المعوقين ).
بعد قضاء قرابة ثلاثة أشهر بالمستشفى ومع بداية عام 1988 م باشرت في تقديم أوراقي إلى آمريه اللجان الطبية وبعد أن ساعدني أحد المراتب العاملين فيها جزاه الله خيراً تم إدخالي على رئيسها الذي بادرني بالقول أبني من حقك تدخل لجنة طبية جديدة فقلت له سيدي هذه الكلمة التي انتظرتها طويلة فقال لماذا أنت أصبحت معاق بشكل طبي ورسمي فلماذا هذا التأخير في إعطاءك حقك ، سوف أرسلك بكتاب رسمي إلى اللجنة الطبية لكي يتم الفحص عليك مجدداً وفعلاً دخلت اللجنة الطبية بعد جولة بين المستشفيات والأطباء ويشهد الله تعالى بان اللجنة الطبية حينما دخلت وكنت وقتها أستخدم الكرسي المتحرك ومنذ فترة ليست قليلة أقول بان أعضاء اللجنة تركوا كل شيء بأيديهم وباشروا في فحصي والنظر إلى إصابتي وهم مدهشين مستغربين من صعوبة وضعي الصحي هنا بادرني رئيس اللجنة ( أبني أنت أين كنت طوال هذه المدة وكيف تم إبقاءك بالخدمة ) فقلت له سيدي مع احترامي لكم بقيت بقرار اللجان الطبية العسكرية فماذا عساني أفعل قال أبني سوف يتم إخراجك من الجيش بصفة معوق حرب وبعجز دائمي وبدرجة 60 % والتي أقولها وبكل آسف أنها اقل من استحقاقك فأنت تستحق درجة عجز 100 % ولكن لا أستطيع إعطاءك هذه الدرجة ) فقلت له أشكرك سيدي وجزاكم خير الجزاء .
خرجت من اللجنة وأنا أحمد الله تعالى باني أخيرا نلت حقي الطبيعي وسوف تنتهي رحلة التنقل وانتظار الأوامر حيث أصبحت لا أصلح للخدمة العسكرية نهائياً.
استلمت القرار وبداء أخي سعد رعاه الله بمتابعة الأوراق الرسمية خصوصاً بعد أن دخلت بمشادة كلامية حادة مع احد مراتب اللجان الذي كان يسمعنا الاهانات والكلام البذيء فقلت له كيف تسمح لنفسك بهذا الكلام ونحن من ضحى ودفع دمه من أجل أن تبقى أنت وأمثالك هنا في بغداد ولماذا هذا الكلام ونحن أكبر منك سناً ومكانة فما كان منه إلا أن اصطحبني إلى الضابط المسئول عنه وبداء الأخر يسمعني كلاماً فيه من التهديد والوعيد الكثير ، المهم قال أخي سعد استر علينا الله يخليك ومن ألان أنا أراجع وأنت لا تتدخل بالموضوع وفعلاً باشر بالمراجعة للحصول على ما سمي حينه بمكرمة الرئيس للمعاقين وهي قطعة أرض وسيارة ( ولا أدري لماذا هي مكرمة وليست حقاً مكتسباً للمعاق وقد دفع ثمنها من شبابه وحياته ، ثم أن من يعطي هو العراق وليس الرئيس ولكن جرت أمور البلد بهذه الصيغة كل شيء مكرمة وليست حقاً تستحقه في وطنك وخيراته ) .
في 8 / 8 / 1988 م وضعت الحرب أوزارها وخرجت الجماهير إلى الشوارع تعبر عن فرحتها وبهجتها بانتهاء وأحداً من أبشع فصول التاريخ الحديث حيث استمرت الحرب ثمانية أعوام ٍ عجاف ٍ مدمرة دفع ثمنها الشعب العراقي بكافة طوائفه وقومياته وأديانه حيث أستشهد وأصيب بإعاقات متنوعة وجراح ٍ مختلفة مئات الألوف من خيرة أبناء العراق وترملت النساء وامتلأت المقابر بالشباب الذين خلفوا أيتاماً صغار ، لقد خرج العراق من حربٍ كبدته ديوناً بمليارات الدولارات والتي لم يكن الشعب يعرف بها إلا بعد فترة حيث ذهبت الفرحة وجاءت السكرة ليتم تهيئتنا لمصيبة جديدة سوف نتكلم عنها حينما نأتي إلى عام 1990 م وما رافقها وما تلاها من أحداث ٍ جسام لا يمكن أن تنسى .
نعود إلى يوم جاءني أخي سعد وقال لي سوف يتم إدخالك إلى لجنة تقرر حصولك على ( مكرمة ) الرئيس الخاصة بالسيارة ذات المواصفات الخاصة ( واليوم أضحك من سخافة هذا الأمر كله فهل تستحق السيارة أن تحظى بكل هذا الاهتمام وكأن الحصول عليها هو الذهاب برحلة ترويحية إلى القمر ) دخلت اللجنة وتم الإقرار بحقي لنيل هذا الشرف العظيم وهو مكرمة الرئيس أنها سيارة وأرض وخيرات كثيرة قد لا يستوعبها العقل البشري برمته كيف لا وهي كل أسمها مكرمة .
عدت إلى البيت وبعد فترة سمعنا بصدور مكرمة جديدة تلغي المكرمة السابقة حيث تقرر منح مبلغ ثلاثة آلاف دينار عراقي بدلاً عن السيارة ( التي تبخرت مع الريح وكأن مصانع السيارات في العالم أغلقت قبل تنفيذ المكرمة ) على أن يتم إدخالنا لجنة جديدة تقرر هل تستحق هذه المكرمة آم لا ( وسبحان الله كل مكرمة وراءها مظلمة حيث اللجان والقرارات التفصيلية والمصاريف المادية والتي تؤدي في نهاية المطاف إلى عصر هذه المكرمة التي أمست مثل قطعة الأسفنج التي يُعصر بها حتى أذا وصلتك وصلت يابسة ليس فيها نفع ُ أو منفعة ) .
دخلت اللجنة الخاصة وإذا بالسيد رئيسها وهو عميد طبيب يقول لي ماذا ستفعل بهذه المكرمة فقلت له أني رجل عانيت طوال سنين من الإصابة وقد صرف علي أهلي المال الكثير وأحب أن أعطي أمي وأخوتي هذا المال لكي أرد جزءً من حقهم علي فقد كنتُ أتمنى أن أصرف عليهم لا أن يصرفوا علي كلَ ما ادخروه طوال السنين الماضية ) فقال لكن أنت لا تستحق هذا المكرمة فقلت له ولكني معاق وأحتاج هذا المبلغ فأنا أستحقه قال والله أذا أنت فقير ومحتاج فأنا أيضاً محتاج وفقير ) هنا لم أتمالك نفسي فقلت له ( أذا أنت عميد طبيب وتقول هذا الكلام أذا على الفقراء والمعاقين السلام ) فقال ماذا تقول أخرج أخرج لا تسحق المكرمة لا تستحقها ، وكأنه يطردني من جنة عدن ويحرمني من خيراتها خرجت وأنا أردد حسبي الله ونعم الوكيل ، وهكذا انتهت رحلة مكرمة السيارة بمظلمة لي ولعشرات غيري تم غبن حقهم في خيرات بلدهم أسوة بالعراقيين الذين حرموا من التمتع بحقهم الطبيعي بخيرات العراق يوم تحولت الحقوق إلى مكارم كانت دوماً تنتهي بمظالم .
اما قطعة الأرض والتي أكرم الله العراق بمساحات كبيرة تكفي لأن يكون تعداد العراق بعشرات الملايين من البشر فان المكارم قد حصرتها بمن يُنعمَ عليه بهذه المكرمة وفعلاً باشر أخي سعد بالركض وهو يتكأ على عكازين يحملانه في حله وترحله حيث الرحلات المكوكية بين بغداد ومحافظة بابل وبلدية المحمودية التي اخترناها لكي تكون حصتنا من هذه الكيكة المكرمة أرض بور جرداء لم يسكنها بعد بشر وبعد مراجعات عدة ضاعت الأوراق وضاعت أرض الأحلام وفقدنا المكرمة حيث حلت بعدها المظلمة وبدأنا والعراقيين نتهيأ لتوديع الإخوة والأبناء من جديد فقد قـُرعتُ طبولُ الحرب ِ من جديد وهذه المرة ستكون مع الأخ الشقيق الذي كان يبدو أنه طريقنا نحو التحرير .
( خرجت من العراق ولغاية هذه اللحظة لا أملك متراً واحداً فيه لكنه يبقى أرضنا وبيتنا الكبير ) .
كانت تلك الفترة الفاصلة بين الحربين كافية لكي يطلع الشرفاء من العراقيين على حقيقة وبشاعة الحرب وكيف أن الأمهات والآباء كانوا يفتقدون أبناءهم الشهداء ووقفة أبناءهم المعاقين وصعوبة حياتهم وكيف لاحظ الإخوة الصغار إخوتهم الكبار الذين أعطوا العراق أرواحهم وأجسادهم والتي قطعت وفقدوا أجزاءها فوق تراب العراق لم يكن لهم سوى الذكريات المرة وهو يتجرعونها بكل أسى وحرمان ولم يكن التلفاز يبث سوى حفلات التكريم الجماعية الخاصة بالتكريم بأنواط الشجاعة للذين يستحقونها أو ممن لا يستحقونها ، هذه الأنواط والتي لم يجدوا لها مكاناً على صدور بعضهم فنزلوا إلى الكروش المنتفخة لكي يضعوا عليها أنواط وسيوف ووشاح وما يتبعها من مكارم لا تعد ولا تحصى
( لكنها لم تمنع عن البعض السيوف التي قطعت رؤوسهم نتيجة غضب من كرمهم ) اما أولاد المرأة العراقية من الفقراء والمساكين والذين كانوا وقود الحرب وأبطالها الحقيقيون فما عليهم إلا التمتع بهذا المنظر وهم يتسألون أذا ماذا كنا نفعل نحن في الجبهات ؟ هل كنا نقزز لب وحب عين الشمس ؟ وهل نحن أبطال وفق نظرية المكرمة أم جبناء تحل عليهم المظلمة ؟
( بعد 2003 م رأينا هذه الأنواط تباع كل عشرة منها بدولار ودولارين في أسواق العراق )
للحديث بقية أن كان في العمر بقية بإذن الله تعالى
880 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع