مؤيد كبة
جابر عثرات الكرام
...... كمْ حُزتِ منْ مَكارِمٍ ..... وصُغْتِ من رِجالْ
...... يا قُـشَـلَ الـرَّصـافَـةِ ..... ويا صَـبابـيــغِ الآلْ تمتاز محلتي القشل وصبابيغ الآل بعراقة تاريخهما , حيث جاء في كتاب بغداد مدينة السلام لمؤلفه (ريشارد كوك) ترجمة فؤاد جميل ومصطفى جواد (والأخير هو أحد أعلام هتين المحلتين): أن القشل والهيتاويين وصبابيغ الآل كانت ضمن محلة المأمونية في الزمن العباسي . أما اليوم فتتكون المحلة من الفرع الرئيسي (السويدان) الذي تتفرع منه عدة درابين (جمع دربونة) كدربونة الفتال والنفط والتكمجي والبستان ودربونة الصفافير وغيرها . ويحدهما من الشرق محلة سراج الدين والحاج فتحي ومن الجنوب القاطرخانة ومن الشمال محلة الدهانة ومن الغرب محلة سبع ابكار.وحين قامت أمانة بغداد في العهد الملكي بفتح شارع رئيسي يربط باب المعظم بالباب الشرقي بالتوازي مع شارع الرشيد سمي بشارع الملكة عالية (الجمهورية فيما بعد) , اضافة الى قيامها بفتح شارع يربط جسر الأحرار بشارع غازي سمي بشارع فيصل الثاني (شارع الوثبة) , فإنه نتيجة لذلك تغير شكل الكثير من محلات بغداد الرصافة بضمنها محلتي القشل وصبابيغ الآل ولم تعد بنفس المعالم التي كانت عليها قبل فتح الشارعين .
والسمة البارزة لهتين المحلتين هي اشتغال ابناءها في التجارة والأعمال الحرة اضافة الى اتجاه البعض الآخر منهم الى المدارس الدينية في النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء . وظهر فيهما عدد من التجار وأصحاب المهن اشهرهم الحاج مصطفى كبة والحاج جعفر ابو التمن (الذي استوز لوزارة التجارة عام 1922) الحاج عبد الغني كبة والحاج عبد الرسول علي والحاج عبد الهادي حمرة والحاج عبود القطان والسيد مصطفى البير والحاج جواد الخاصكي وآخرون غيرهم .
وكانت هناك مجموعة متنورة من ابناء هتين المحلتين عملت على تنشئة الشباب تنشئه علمية بالنهل من منابع العلم والمعرفة , فسعت للحصول على الموافقات لتأسيس مدرسة لتدريس الآداب والعلوم واللغات , فكان لها ما أرادت وسميت المدرسة فيما بعد بالمدرسة الجعفرية , وكان لعائلة ابو التمن الدور الرائد في ذلك وأخص بالذكر منهم سلمان أبو التمن وداود أبو التمن اضافة جهود علي البازركان , والذي هو ليس من أبناء المحلتين , في استحصال موافقة الوالي على فتح المدرسة عام 1908.
وقد زار الأمير فيصل (قبل التتويج) المدرسة في تموز 1921 في احتفال زخر بالقصائد والكلمات بهذه المناسبة . ولدى فتح باب التبرعات لتطوير المدرسة نهض احد الشيوخ المدعويين وهو الشيخ أحمد الداود قائلا : ( ان هذا الحفل ضم وفودا من كافة اهل العراق فهل توافقون على البيعة للامير فيصل بن الحسين ؟) فتعالت الاصوات من كل الجهات (نعم .. نوافق) . فنهض الامير والقى خطابا وسجل اسمه ضمن الهيئة التدريسية للمدرسة كمدرس فخري فيها ! . وبعد اسبوع من الزيارة ارسل الامير مبلغا من المال (خمسة آلاف ربية) مساهمة منه في التبرعات .
ومن خصوصية هذه المدرسة ان ابوابها كانت مفتوحة لجميع الملل بما فيهم النصارى الذين شمل فقرائهم الاعفاء من أي رسوم اسوة بالباقين . ومن ابرز اساتذتها محمد رضا الفتال وعبد الستار الشيخلي وصادق جعفر الملائكة (والد الشاعرة نازك الملائكة) والسيد كاظم شكارة ونوري ثابت (حبزبوز) والسيد عزيز البغدادي وآخرين . ومن الطلبة جعفر الخياط وجميل كبة وعبود زلزلة وعبد الصاحب الملائكة وضياء شكارة وعبد الله كبة ومحمد علي راجي كبة وفخري كبة وآخرين .
.وواكبت محلتا القشل وصبابيغ الآل جميع المراحل الاجتماعية والسياسية التي مر بها العراق . وانتمى العديد من ابنائهما الى الاحزاب والجمعيات المناهضة للحكم العثماني آنذاك . و بعد دخول الانكليز بغداد انضموا وساهموا في تشكيل الجمعيات المناهضة للاحتلال , امثال جمعية الشبيبة وجمعية حرس الاستقلال . كما اسهم اهالي المحلتين والمحلات المجاورة لهما في تقديم الدعم لثورة العشرين بمختلف الوسائل المتاحة . وكان في طليعتهم آل ابو التمن وآل كبة والازري وشكارة والبصام والشهربلي وآل حبة وغيرهم .
وبعد تأسيس الدولة العراقية عام 1921 وظهور الاحزاب الوطنية والقومية التي كان لها الاثر في الحياة السياسية والاجتماعية , من بينها حزب النهضة والحزب الوطني , كان لابناء هتين المحلتين من الخيرين الوطنيين دورا بارزا في تأسيسهما , وعلى رأسهم محمد أمين الجرجفجي وعبد الرسول كبة ومحمد حسن كبة (الوزير) وعبد الرزاق الازري ومهدي البير وعبد الغني كبة (الذي استوزر في أول وزارة عراقية برئاسة عبد الرحمن النقيب) وجعفر أبو التمن ومحمد مهدي كبة .
ويتصف أهالي محلتي القشل وصبابيغ الآل شأنهم شأن جميع محلات بغداد بالتآزر الأسري والتعاون فيما بين الاهالي والمشاركة المتبادلة في الافراح والاتراح وفق الاعراف والتقاليد العربية المتوارثة . وكانت لهم مجالس اجتماعية وثقافية وادبية وترفيهية تعقد في عدد من البيوتات . ومن بينها مجلس الحاج ياسين الخضيري ومجلس الحاج جعفر ابو التمن ومجلس الحاج مهدي الخاصكي ومجلس الحاج مصطفى كبة ومجلس السيد عبد الكريم الحيدري وغيرها من المجالس . فضلا عن مجالس الشباب التي كانت تعقد في مناسبات محددة .
.وهناك حكاية تشهد على ما يتصف به ابناء هتين المحلتين والمحلات المجاورة لها من الشهامة وروح التعاون والمساعدة , وهي حين استولى الصهاينة على دور الفلسطينيين وأملاكهم ومزارعهم وشرّدَ الآلاف منهم الى الاقطار العربية إثر تقسيم فلسطين , لجأ الى العراق الآلاف من اللاجئين وعوائلهم , فما كان من أهالي بغداد وفي طليعتهم أهالي القشل وصبابيغ الآل إلا أن قدّموا لهم العون وجمعوا التبرعات النقدية والعينية لإسعافهم آنذاك .
. ومن المآثر الأخرى ما امتاز به الحاج داود أبو التمن من الكرم والمروءة إبان دخول الدولة العثمانية الحرب الاولى 1914 (سفر برلك) , حيث جمع أكياس من التمن لتوزيعها على النساء ليلا من دون ان تعرف العوائل المستفيدة مصدرها دفعا للاحراج , بعد ان سيق رجالهم وشبابهم الى الحرب . وكان يضع اكوام المجيديات أمامه والمجندين من أبناء المحلتين حوله يسألهم عن عدد من يعيلونهم ليدفع لهم نفقات معيشتهم في ذلك الظرف الصعب , وقد لقب نتيجة عمله هذا بـ (جابر عثرات الكرام).
1077 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع