مثنى عبيدة
في حياتنا القصيرة أحلام ٌ كثيرة وكبيرة منها ما يستوعبه العقل وترتضيه الروح وتطيب به النفس ومنها أحلام ٌ غير قابلة للتحقيق لا تترك خلفها إلا انزعاجا وكدراً يؤثران على نفسية المرء ومن حوله ، فأما الأحلام التي تقبل التحقيق على أرض الواقع فهي تلك التي نستطيع بالعمل والسعي والجد والاجتهاد تحقيقها فهي أذاً أحلام إنسانية مشروعة ولكنها ممكن أن تصطدم بطارئ خارجي ينسفها ويجعلها تتبخر في الهواء تاركة خلفها الألم على ضياع حلم لم يتحقق كاد أن يغير مسيرة حياتنا .
مع بداية عام 1989 م تعرضت لمشكلة صحية جديدة تمثلت في إلالام قوية في منطقة البطن وقد شخصها الأطباء على أنها التصاق في الأمعاء نتيجة لكثرة العمليات الجراحية ، لذا وخلال هذه الفترة لم أستطع تناول الطعام مما أوجب تغذيتي عن طريق الوريد وكانت حقيقة فترة مؤلمة جداً في حياتي خصوصاً وأنا أرى أمي رعاها الله تحمل لي ما لذ وطاب وتجلس عند سريري وتبكي وهي تراني لا أستطيع تذوق لقمة واحدة من هذا الطعام وكان كادر مستشفى ابن النفيس للقلب والأوعية الدموية يتأثر جداً وقد أصبحت صديقاً لهم جميعاً نتيجة ترددي ومكوثي لفترات طويلة في مستشفاهم ، طبعاً كان ملعب الشعب الدولي قريبٌ جداً من المستشفى ولا يفصلنا سوى جسر يربط بين ساحة الأندلس والملعب ونظراً لحبي لكرة القدم فقد كنت أستغل الفرصة وأطلب من احد المرضى مرافقتي لحضور المباريات وأذكر أني وفي أحدى المباريات المهمة كنت جالساً وإذا بي أسمع صوت يناديني فكأن جارنا طارق يقول لي مثنى أنت هنا وأمك تبكي بالبيت قلت له الحمد لله أنا بخير وجئت أحضر المباراة وعند عودتي للمستشفى قال لي من كان يدفع الكرسي المتحرك الذي أستخدمه في تنقلاتي قال ماذا لو شاهدنا د صديق فانا مصاب بانسداد الصمام في القلب وأنت على هذه الحالة فضحكنا سوية وقلنا سوف يخرجنا من المستشفى حالاً .
خلال هذه الفترة وما قبلها كان هناك جرح غائر في ساقي اليمنى يتطلب العلاج اليومي وبعد أن عجز الأطباء عن معالجته بالأدوية والمضادات الحيوية قالوا لنجرب طب العرب وهو العسل وفعلاً كانوا يضعون لي العسل على الجرح وبالمناسبة العسل مفيد جداً وقاتل للبكتريا وكان يستخدم على مر التاريخ لهذا الغرض ولغيره . كان الدكتور عماد أحمد جمال ألنعيمي يضحك معي ويقول مثنى المرة القادمة أجلب لنا ( كاهي حتى نأكله مع العسل ) المهم انتهت هذه السنة وأنا على هذه الحالة السيئة جداً .
في عام 1990 زارني جارٌ لنا مع زوج أبنته والذي يعمل في ديوان الرئاسة فقال لي أخي لماذا لا تقدم إلى الديوان وتشرح قضيتك وسوف أتولى متابعة طلبك وفعلاً اوفىء الرجل بوعده وتم إحالتي إلى مستشفى أبن البيطار والتي كان يديرها أطباء
انكليز وكادرها أيضاً منهم ويوم دخلت هذه المستشفى التي كانت محصورة على الموافقات الخاصة أو أن تدفع من جيبك الخاص حين دخلت أنتبه كبير الجراحين وكان أسمة مكملان إلى حالتي الصحية وقام بإجراءات طبية متعددة وكان يوصي الأطباء الزائرين من انكلترا بمشاهدة حالتي المرضية وبعد فترة رقود بالمستشفى قاربت الشهرين قال لي أنه يأسف لعدم تمكنه من أيجاد حل لوضعي الصحي وبالتالي هو ينصح بان أسافر خارج العراق لتلقي العلاج .
كان السفر للعلاج حلم من أحلامي التي راودتني طوال الفترة الماضية لما سمعته من الأطباء عن سوء وضعي الصحي وعدم تمكنهم من معالجتي ، في تلك الإثناء كان لي صديق أسمه فؤاد حسن توفيق وهو ألان في السويد حسب ما أعلم وكان هذا الصديق يصطحبني في دراجته البخارية ( الدوبا ) إلى أماكن متفرقة من بغداد لكي نتأول الغذاء في احد المطاعم أو عصير أو زيارة شارع المتنبي وغيرها من أماكن بغداد الجميلة والشعبية .
كنت ُ في هذه الفترة أحضر بعض المناسبات الاجتماعية للأصدقاء وأبناء المحلة والكل فرح وسعيد بوجودي بينهم رغم حالة الألم المرتسمة على بعض الوجوه نتيجة معرفتهم بالحقيقة ولكن على العموم كانت الأحلام الوردية الجميلة تسود البلد كله فقد خرجنا من حرب الثماني سنوات وما خلفته من آثار وها نحن مقبلون على خير كثير ومستقبل زاهر وبدأت بغداد والمحافظات تشهد حفلات زواج كثيرة جداً وبدأت قصص العشاق والمحبين الذين حالت الحرب دون اكتمالها تنتهي هذه القصص بالزواج والوعود والأمنيات بالغد المشرق .
في ذلك الوقت أيضاً كانت تقام مجالس العزاء للشهداء المفقودين الذين يتم العثور على رفاتهم رحمهم الله تعالى بواسع رحمته.
المهم كانت مشاعر وأحلام وأمنيات كبيرة بوسع الفضاء الجميل ومنها حلمي الشخصي بالشفاء وانتهاء معاناتي الشخصية وأيضاً حلم أمي بان تراني عريس ومتزوج خصواً بعد أن بدأت أخواتي يتزوجن وكذلك أخي الكبير احمد سلمهم الله جميعاً ، في هذه الأجواء الجميلة بدأت نذر الحرب تقترب من خلال ما نسمعه من تهديدات كبيرة وخطيرة تصدر من العراق إلى بعض الدول العربية الخليجية وتحديداً من الكويت حيث سمعنا للمرة الأولى عن ديون ومشاكل اقتصادية وان هناك مشاكل تحتاج إلى حلول وبدأت تتوافد إلى بغداد الوفود العربية الرسمية تحمل في جعبتها الأمل بعد وصول الأمور إلى الاقتتال والحرب وفعلاً نجحت بعض هذه الوفود من تخرج من بغداد بوعد عدم خوض الحرب ضد الكويت وهنا على الصعيد الشخصي كان لدي أخوين أثنين يخدمان في الجيش ولم يبقى معنا بالبيت غير أخي الصغير ذو العشرة أعوام وقتها وكان يقوم بواجبات الخدمة والضيافة إلى ضيوفي وضيوف سعد أخي واعتمدنا عليه في أمورنا تقريباً .
مع اقتراب شهر تموز على نهايته جاءني اتصال هاتفي يقول محدثي أنه من ديوان الرئاسة ويحمل تحيات الرئيس وتمنياته لك بالصحة والسلامة وأنه أوعز بان تسافر إلى فرنسا لغرض العلاج مع مرافق كدت أطير من الفرح والسعادة أخيراً سوف أسافر أخيراً تحقق الحلم سوف أتخلص من معاناتي الكبيرة سوف أعود إلى الحياة الطبيعية التي أعشقها أسوة بكل الشباب في عمري حيث كنتُ وقتها في عمر سبعة وعشرون عاماً وكنت أحلم بالزواج في هذا العمر وأقل منه بقليل لكي أكون أسرة وأطفال وأحيى أيامي بالكد والعمل والاجتهاد لأحقق ما أصبو أليه كل تلك الأحلام بدأت تتراقص أمامي وأنا اقضي بعض أيام قادمات .
في وقتها كان شهر محرم الحرام وأيام عاشورا وهي أيام يعرفها أهل العراق جيداً حيث يتم أعداد الطبخ فيها ليتم توزيعه على أبناء المنطقة والجيران ومن كل الأديان الذين يأكلون ( الهريسة والقيمة والرز ) وكل يتشارك في حمل الإطباق والقدور للذهاب إلى حيث مكان الطبخ وترى أواني تحمل الكعك بأنواعه توزع على الجيران ، وقتها جاءني صديقي فؤاد وقال لي تعال معي إلى بيتنا لان اليوم سوف نطبخ وسوف يستمر الأمر إلى الصباح الباكر فقلت له ولكن حينما أتعب تعود بي إلى البيت فقال اتفقنا وفعلاً وجدت أصدقاء عديدين ومن مختلف المناطق موجودين في بيتهم هنا أنفتح موضوع الساعة وهو الصراع وطبول الحرب والتهديدات الأمريكية والغربية وزيارات الوفود العربية لحل المشكلة هنا قال احد الحاضرين وماذا تستطيع أمريكا أن تفعل لنا ونحن من نحن فقلت له والله يا سيدي لا نرجو أبدا أن تكون هناك حروب جديدة يدفع ثمنها العراقيون بكل فئاتهم وخصوصاً الشباب الحالم بالدراسة والسفر والزواج وكل ما يبهج الروح والنفس وهو حقها الطبيعي في الحياة ويبدو أن جوابي أستفزه فقال لنرى ماذا تفعل أمريكا قلت له يا سيدي بدلاً أن نفكر بماذا تفعل أمريكا لنفكر كيف نتصرف نحن بهذه المصيبة وكيف نخرج منها ثم قلت له أنت تسال ماذا تفعل أمريكا وهنا التفتُ ناحية القدر الكبير الذي كان يطبخ ُ فيه الرز فقلت له ماذا في هذا القدر قال رز فقلت هل تعلم من أين أتى هذا الرز أنه رز أمريكي و به ستحاربك أمريكا ( طبعاً الله شاهد على هذا الكلام وانأ لا أعرف أن هناك حصار سيأتي تفتقد فيه البيوت العراقية الرز وبقية أنواع الطعام )
طبعاً مع الفجر كان صديقي فؤاد يعيدني إلى البيت لكي أنام وفعلاً نمت إلى أن سمعت صوت أمي يقول لا توقظوه دعوه لا تقول له فجلست فقلت ماذا هناك قالوا لقد حدث انقلاب في الكويت فقلت ثم قالوا وقد دخل الجيش العراقي الكويت هنا كأن عقلي توقف وقلبي يكاد ينفطر كيف ولماذا قلت أعطوني المذياع وكان لدي جهاز مذياع حديث جداً واستطعت من خلاله التقاط المحطات العالمية وكلها غير مصدق العراق يحتل الكويت العراق يغزو الكويت أما التلفاز العراقي فقد بد يبث الأناشيد الحماسية والأغاني الوطنية وبدأت القرارات تصدر غلق الحدود إلغاء السفر دعوة الرجال لخدمة الجيش ودعوات الاحتياط وبدأت تهل الإدانات الدولية والتهديدات
وبدأت نذر حربٍ لا تبقي ولا تذر وبدأت أمي بالبكاء أسوة بكل عراقية لديها أولاد في الجبهة الجديدة التي وبقدرة قادر فـُتحت ولتكون أسوء خلف لأسوء سلف وفجات تبدأ الخطب النارية تملأ الإسماع وهنا جاءت أولى الصدمات وأكبرها على الإطلاق خطاب رئاسي يعلن أننا وإيران جارتان مسلمتان وأننا سوف نعود أخوة وأحباب وأن شط العرب يستوعبنا جميعاً وووو والناس غير مصدق ومذهولا والسكين تحز الرقاب وتسرق الأيام وتغتال أرواح الشهداء الذين قضوا في حرب الثماني سنوات والمعاقون لا يعرفون إلى أين يتجهون والشعب بين مصدق ما يجري على أنه حرب التحرير القادمة وبين مصدوم لا يستطيع حمل قدميه هل حقاً إننا لبينا النداء ؟ وهل كان هناك نداءُ أصلاً ؟ ولماذا نلبي نداء من نادي هذا أذا كان هناك من نادى لماذا لا نلبي نداء العقل والضمير والروح لماذا لا نلبي نداء الأمهات المكلومات ونداء الزوجات المحرومات ولماذا لا نلبي نداء الأيتام والفقراء والمساكين وعموم أبناءنا الذين هم أولوا بان نسمع لندائهم وصراخهم وصمتهم لماذا نجري نحو المصاعب لماذا لا نتجنبها بالحكمة والروية والعقل لماذا لا نأخذ حقنا إلا بالسيف لماذا لماذا يضحك علينا الآخرون ويتلذذون بدمائنا وأرواحنا وهي تسفك من جديد لماذا لماذا لماذا ؟؟؟
أسئلة كثيرة وكبيرة لن تجد لها جواب إلا أني وأنا مصدوم مندهش من هذه المغامرة الجيدة قد تركت حلمي في السفر والعلاج لكي التفت إلى صوت أمي وهي تقول ( يمه كانت العرب تغزو في البادية والصحراء والله شكد عيب اليوم يقولون العراق يغزو الكويت ) يعني أمي كانت تستقبح الكلمة نفسها فما بالك بالفعل ؟
أما أنا وسعد فقد كان المذياع هو الوسيلة الوحيدة للتأكد من خطورة الأمر وضخامته وكنا والله يشهد تتقطع قلوبنا وضمائرنا ونحن نسمع العائلات الكويتية والعربية المتواجدة على أرض الكويت تستصرخ إسرائيل والعالم أن ينجدها من الأخ الشقيق الذي غدر بها في 2 آب وشردها في بقاع الأرض وأرجو ممن يقرءا هذه الكلمات يتصور نفسه بدلاً عن أي عائلة كويتية تفرقت في البلاد في ليلة كانت طبيعية حتى أمست ليلة ليلاء غاب فيها العقل وحضر السيف ؟
نعم نقولها ولا نخجل منها كنا نبكي في البيت ونحن نسمع الآهات والصرخات والمصائب تتنزل على رؤوسنا ورؤوس أناس أبرياء .
أنا بعد هذه السنين أحتفظ برأي الخاص بما جرى ولكن أكتب هنا عن معاناة اجتماعية لأناس أبرياء وثقوا بنا ووثقنا بهم فكانت النتيجة يوم ولا كل الأيام أنه اليوم الذي تبخرت وطارت فيه الأحلام ولتبدءا بعده السنين العجاف.
فيا عجباً له من يوم ٍ سمي بيوم النداء ويا له من نداء لم يحقق لنا الأحلام.
وللحديث بقية أن كان في العمر بقية بإذن الله تعالى
577 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع