أ.د سعد ناجي جواد
أستاذ العلوم السياسية-جامعة بغداد
التأريخ المشرّف لجيش العراق والأمل المرتجى
في اليوم السادس لشهر كانون الثاني ١٩٢١ صدر قرار بتاسيس جيش عراقي وطني. وبالفعل سارت هذه العملية وتولى تنفيذها ضباط شباب وقادة عسكريون عراقيون كبار كانوا ضمن الجيش العثماني وثاروا عليه، ثم تبنى الملك فيصل الاول هذه العملية ودعمها. ويمكن اعتبار هذا الرعيل الاول من الضباط العراقيين الكفؤين، مثل المرحومين جعفر العسكري ونوري السعيد وياسين الهاشمي وغيرهم كثر، هم حقيقة بناة الجيش العراقي بالأخص الفريق جعفر العسكري الذي عين اول وزيرا للدفاع.
منذ بدايته جسد الجيش العراقي الوحدة الوطنية العراقية ولم يكن في يوم من الأيام حكرا على فئة او شريحة او طيف من اطياف المجتمع العراقي . و اظهر قادته وافراده روحا وطنية واضحة وهمة عالية ساهمت في ان يلعب هذا الجيش دورا متميزا وواضحا في مسيرة العراق بل والامة العربية، حيث انه لم يترك فرصة او مناسبة الا واندفع فيها لحماية ارض العراق او الدفاع عن الأمة العربية. شارك في جميع الحروب التي نشبت بين العرب واسرائيل وأبلى بلاءا حسنا في جميعها. وعندما وافقت الحكومات العربية على الهدنة في فلسطين عام ١٩٤٨ قام بعض افراده وقادته بخلع بدلاتهم العسكرية ولبسوا اللباس العربي المدني التقليدي واعتمروا الكوفية وقاتلوا كفدائيين، وكان على رأسهم المرحوم العقيد رفعت الحاج سري، الذي ومن جراء ما حصل في فلسطين آنذاك قام بتشكيل اول نواة للضباط الأحرار. وقبل ذلك خاض حربا مشرفة ضد القوات البريطانية في العراق في ١٩٤١ وعلى الرغم من عدم التكافؤ بين الجيشين. والمصادر الإسرائيلية قبل العربية والعراقية تحدثت عن الدور المشرف لهذا الجيش في حرب ١٩٤٨ او في حرب ١٩٧٣ على الجبهتين السورية والمصرية. وكانت عقيدته حتى تاريخ احتلال العراق في ٢٠٠٣ واضحة في الدفاع عن حدود العراق الشرقية والشمالية مع اعتبار الكيان الصهيوني العدو الاول للعراق وللأمة العربية. واستطاع ان يلتزم بهذه العقيدة ويخلص لها حتى عام ٢٠٠٣. ناهيك عن العقول العلمية الجبارة التي عملت في محال التصنيع العسكري والتي احدثت طفرة صناعية كانت هي وكل من عمل فيها اول المستهدفين من قبل الاحتلال الامريكي-البريطاني – الصهيوني.
بعد الاحتلال كان اول قرارات الحاكم المدني الامريكي سيء الصيت بول بريمر هو حل الجيش العراقي، الامر الذي طلبته اسرائيل وألحت من اجله. وجرت محاولات كثيرة من اجل تشويه وتلويث صورة هذا الجيش المُشَرف والذي يستحق ان يفخر العراقيون به وبجهوده في حماية البلاد، وتم اغتيال او ملاحقة خيرة منتسبيه و قادته، ولا يزال قسم كبير منهم يقبع في السجون منذ خمس عشرة عاما لا لذنب ارتكبوه سوى انهم دافعوا عن ارض العراق وشعبه. ثم تم تشكيل ما عرف ب (الحرس الوطني) كبديل للجيش والذي لم يكن الا تجميعا من مليشيات جاءت اغلبها من الخارج بعد الاحتلال، و أُغدِقَت عليها وعلى أفرادها الرتب العسكرية العالية والرواتب الفلكية، بينما حُرِم منتسبيه السابقين حتى من رواتبهم التقاعدية. وكانت النتيجة ان تم هروب العدد الكبير من قادة هذه التشكيلات الكارتونية قبل منتسبيها امام مئات من إرهابيي ومجرمي تنظيم داعش، ولم يتم محاسبة او محاكمة اي ممن تسبب في هذه الهزائم. وكانت هذه الكارثة ، بل والكوارث، هي من أعاد بعض الرشد الى بعض العقول الحاكمة في العراق والولايات المتحدة التي اقتنعت بحقيقة انه بدون جيش عراقي حقيقي لا يمكن حماية العراق وتحرير أراضيه المحتلة ومواجهة تنظيم داعش الإرهابي . وحتى في تلك الظروف كانت الفكرة هي اعادة هيكلة الجيش للدفاع عن ما تبقى فقط وليس التحرير الكامل، بدليل ان الولايات المتحدة ظلت تحذر قادة الجيش والحكومة العراقية من الاندفاع او الاستعجال في تحرير الاراضي العراقية المحتلة. ولكن الروح الوطنية لمنتسبي الجيش تغلبت، واستطاع ابناءه المخلصين والكفؤين من اعادة بناء وتنظيم قوات استطاعت ان تحرر ما احتل من أراضي العراق وتهزم تنظيم داعش الإرهابي. ولكن ومع هذه الانتصارات بدأت تظهر محاولات لبعض الاطراف تعمل على أضعاف هذا الجيش مرة ثانية، فقسم يحاول تهميش دوره وفرض أشخاص غير كفوئين او فاسدين على قمة هرمه، وقسم يحاول ان يجعله تشكيلا ثانويا يأتي بعد المليشيات المسلحة، وقسم اخر يحاول ان يحافظ على ما تبقى من إرهابيي داعش ويقوم بتجميعهم و دعمهم كي يستمروا في محاربة هذا الجيش الفتي.
ولكن كل هؤلاء تغيب عن ذهنهم حقيقتين مهمتين تاريخية وعسكرية، تقول الاولى ان اي جيش نظامي اذا ما توفرت له القيادة الجيدة فانه يستطيع ان يكون بودقة تنصهر فيها كل الخلافات المذهبية والعرقية والدينية وحتى الاجتماعية، وان يكون نموذجا للوحدة الوطنية، وان الانضباط العسكري في النهاية يجب ان يولد موسسة متماسكة، اما الحقيقة الثانية فهي ان اي تنظيم مسلح خارج رحم الجيش النظامي المنظم والمنضبط لا يمكن ان يصمد او يتحدى هكذا جيش.
ان العراقيين المحبين لبلدهم يتذكرون في ٦ كانون الثاني / يناير من كل سنة ذكرى تأسيس الجيش العراقي البطل ، ويستذكرون ابيات شاعر العرب المرحوم الجواهري التي قالها فيه وعنه بعد ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ ابياتا شعرية جميلة ومعبرة يقول في بعض منها:
جيش العرق ولم ازل بك مؤمنا
وبأنك الأمل المرجى والمنى
وبان حلمك قد يطول به المدى
لكن عزمك لن يحيق به الونى
جيش العراق إليك الف تحية
تستاف كالزهر الندي وتجتنى
حمل الفرات إليك نخيله
ومشى بدجلة جرفها والمنحنى
فلقد أعدت إليهما صفويهما
من بعد ما غصا بادران الخنا
جيش العراق وفِي العراق خصاصة (حاجة)
ليدٍ وقد كنت الكريم المحسنا
نعم لا تزال في العراق خصاصة يا جيش العراق البطل. ومبروك لابناءك الشرفاء والمحبين للعراق والمضحين من اجله عيدهم .
( ملاحظة: اذا لم تخنّي الذاكرة فان البيت الأخير ورد هكذا في القصيدة عندما ألقيت اول مرة بعد الثورة مباشرة من دار الإذاعة، ولكن الجواهري فيما بعد غيره بقوله: عبد الكريم وفِي العراق خصاصة،….بعد ان لمع اسم المرحوم عبد الكريم قاسم كقائد للثورة)
934 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع