كاظم فنجان الحمامي
ليس بيننا من ينكر علاقة البحرين الوطيدة بالحضارة السومرية, فقد كانت البحرين (دلمون) فردوس السومريين, وصورتها ثابتة في أساطيرهم, وفي ملحمة الطوفان, ولا جدال في صحة هذه الحقائق الموثقة في الكتابات المسمارية, فقد وصل إليها (جلجامش) في رحلته الأسطورية التي بحث فيها عن سر الخلود, لكي يحظى بحياة كحياة الآلهة في خلود دائم, كخلود (زيوسودرا), الذي وهبته الآلهة الخلود في (دلمون) المقدسة, وما أن وصل إليها حتى ربط في قدميه حجراً ثقيلاً ليغوص إلى الأعماق في مياهها بحثاً عن زهرة الخلود.
ثم تأتي (أسطورة إنكي) لتؤكد قدسية أرض دلمون الطهور, التي لا يُفترس فيها الأسد, ولا يَنعب فيها الغراب, ويعيش الإنسان فيها حياة أبدية خالية من الأوجاع والأمراض, وتزعم الأسطورة أن (إنكي) إله الحكمة والمياه العذبة عند السومريين, بارك أرض دلمون بالمياه العذبة الرقراقة, لتكون أرض العيون والينابيع الوفيرة, ومنحها فواكه الدنيا, وليصبح ميناؤها بعد ذلك ميناءً للعالم كله. . .
قال (إنكي) هذا الكلام قبل أكثر من (4500) سنة, ومازالت الينابيع العذبة تتدفق من جوف البحر حول جزر البحرين, يطلقون عليها محليا تسمية (ﭽـواﭽـب) أي كواكب (جمع كوكب), أشهرها عين (أم السوالي), وعين (عذاري), و(الساية), وربما كان الجني (بوكداو) من بقايا العفاريت السومرية التي استقرت في جزيرة (الساية) بالبحرين, وقد اشتق اسم العفريت من (الـﮔدو) الآلة الشعبية لتدخين التبغ, حيث يسمع الناس في حفرة النبع ما يشبه قرقرة الكدو, وهو في الواقع الصوت الناتج عن تفريغ الهواء أثناء ظاهرتي المد والجزر, وقد اعتاد زوار الجزيرة ترك شيء من الطعام لأبو كداو لكي يأمنوا شره. . . .
نحن هنا نصدق ما قاله أجدادنا (إنكيل), و(إنليل), و(حمورابي), ولا نصدق الفضائيات المغرضة, التي اعتادت على التلفيق وقلب الحقائق, فقد تحدث أجدادنا بإسهاب عن علاقاتهم التجارية مع (دلمون) لكنهم لم يتطرقوا إلى الدوحة ولا إلى قطر, فكانت مفاجأة كبيرة لنا عندما أطلت علينا الفضائيات الخليجية, لتشوه الحقائق, وتملي علينا أفكارها المضللة من دون مقدمات تاريخية, ومن دون ثوابت علمية, حين زعمت في أكثر من برنامج: ان حمورابي, ملك بابل وأوروك (العراق) عام 1792 قبل الميلاد, ينحدر من أصول خليجية, فهو في نظرها: أما أن يكون عماني, أو قطري, أو من جزيرة (كيش) الإيرانية, وزعمت أيضا إن السومريين انطلقوا في بداية حياتهم من جزر المحيط الهندي, واستقروا في وادي الرافدين ليؤسسوا حضارتهم هناك, وما إلى ذلك من السفسطة التاريخية, التي تصاعدت وتيرتها على هذا المنوال لطمس تاريخ حضارة وادي الرافدين, وإسباغ بعض الملامح الأكدية والبابلية على المدن البترولية التي ظهرت فوق سطح الأرض بعد دورانها بالاتجاه المعاكس في ظل شيوع المفهوم الفوضوي القائل: (الروس نامت والعصائص قامت). .
رحمك الله يا دكتور (أحمد سوسة), ورحمكم الله يا جهابذة الآثار العراقية ابتداء من الدكتور طه باقر, وهرمز رسام, وسلمى سليم الراضي, وناجي الأصيل, ودوني جورج, وانتهاءً بالدكتور بهنام أبو الصوف, فقد رحلتم عنا وتركتم لنا هذا الإرث العظيم الذي لم نحافظ عليه كما ينبغي, فتطاول عليه السراق, ولم يسلم من عبث المزيفين والمخربين, حتى فقدنا محتويات متحفنا الوطني كلها, وفقدنا كنز النمرود, واختار الغزاة التجحفل في مواقعنا الآثارية من دون أن يحتج عليهم أحد, فدمروا ملامحها التاريخية, ونهبوا ما وقع بأيديهم من تحف وقطع فنية لا تقدر بثمن. .
ثم حملت لنا الفضائيات الخليجية موجة من التحريف المقصود, الذي يراد منه إضفاء نكهة تاريخية مصطنعة على المدن الشاحبة المولودة توا من رحم الألفية الثالثة, فصار حمورابي قطري الجنسية, وربما سيظهر فيما بعد انه تعلم أصول الكتابة المسمارية في مدارس الدوحة, وكتب مسلته التي سن فيها الشرائع الأولى عندما كان طالبا في (السيلية). .
من المؤكد إن أمثال هؤلاء يضحكون على أنفسهم, فقد حكم حمورابي مملكة بابل عام 1792 قبل الميلاد, ومات فيها عام 1750 قبل الميلاد, في الزمن الذي لم يكن فيه الخليج موجوداً في مكانه, على رأي (دي مورغان), وتصوراته الجيمورفولوجية لتاريخ دلتا السهل الرسوبي. .
ولو فرضنا إننا آمنا بنظرية اختراق الحواجز الزمنية, وحذفنا عبارة (قبل الميلاد) من سجل حمورابي, لتصبح عام 1792 بعد الميلاد, فإننا لن نصل إلى القناعة التي وصلت إليها قناة الجزيرة الوثائقية وأخواتها في استنتاجاتها التلفزيونية الركيكة, ففي تلك الفترة كانت سواحل الخليج كلها تابعة لولاية البصرة في زمن الخليفة العثماني السلطان (سليم الثالث). .
نحن هنا لا نعتب على تلك الفضائيات بقدر ما نعتب على مؤسساتنا التاريخية التي يفترض أن تتصدى لهذه العثرات والتجاوزات والانتهاكات. .
والله يستر من الجايات
836 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع