الذكرى المئوية لميلاد قائد تاريخي في الذكرى المئوية لميلاده...ناصر لم يزل حاضراً !!

                                               

                       بقلم: محمود كعوش

الذكرى المئوية لميلاد قائد تاريخي
في الذكرى المئوية لميلاده...ناصر لم يزل حاضراً !!

إن من الحكمة تبني الناصرية والبناء عليها، بعدما أخفقت جميع التجارب الفكرية والسياسية التي تلت رحيل القائد الكبير.

في الخامس عشر من شهر يناير/كانون الأول من كل عام، يُحيي القوميون العرب، الذين ما زالوا يحتفظون بالجرأة والثبات على المواقف المبدئية والشجاعة والمجاهرة بحبهم واحترامهم ووفائهم للراحل الكبير جمال عبد الناصر وتاريخه المشرف ولثورة 23 يوليو/تموز المجيدة وانبثاق الفكر الناصري، ذكرى رحيله بكثير من الحزن والأسى. ولربما أن الذكرى المئوية لغيابه التي تستحق هذا العام "2018" تشعرنا بحزن وأسى كبيرين يفوقان الأعوام السابقة، لأن الأمة العربية هي اليوم أحوج ما تكون له ولأمثاله من القادة، بسبب الظروف الصعبة والمعقدة التي تمر بها.
وكما هي العادة في كل ذكر، من المؤمل أن يحيي هؤلاء العرب المناسبة بكثير من الحنين لمرحلة كانت الأهم في تاريخ العرب الحديث. فبرغم مرور 100 عام على ميلاده و66 عاماً على قيام الثورة و48 عاماً على غيابه، لم تزل عقول وقلوب المواطنين العرب من المحيط إلى الخليج تنبض بالحب والوفاء للقائد التاريخي وثورته المجيدة والفكر الناصري.
ويدلل على ذلك الإقبال الجماهيري المتنامي على أدبيات الثورة والفكر الناصري والدراسات التي تناولت سيرته كقائد عربي تجاوز بفكره وزعامته ونفوذه الوطن العربي والمحيطين العربي والإقليمي.
كما ويدلل على ذلك تصدر شعارات ثورة 23 يوليو/تموز وصور قائدها جميع المظاهرات والتجمعات الشعبية التي عادة ما تشهدها الأقطار العربية من وقت لآخر، تعبيرا عن رفض الجماهير لحالة الخنوع الرسمي العربي والاستسلام للإملاءات الأميركية - "الإسرائيلية"، ورفض السياسات الاستعمارية - الاستيطانية التي تستهدف الأمة العربية، والتي بدأت تعبر عن نفسها بشكل مدمر وخطير، بعد تفجر ما سمي زوراً وبهتاناً "الربيع العربي" في عدد من الأقطار العربية مع مطلع عام 2011 واستمراره حتى اللحظة الراهنة.
ترى لِمَّ كل هذا الحب والوفاء لعبد الناصر وثورته المجيدة والناصرية، برغم كل ما تعرضت له الأمة من مؤامرات ودسائس ومحاولات تشويه متعمدة من قبل القوى العربية المضادة في الداخل والقوى الأجنبية الاستعمارية - الاستيطانية في الخارج، وبرغم مضي كل هذا الوقت الطويل على تاريخ ميلاده وميلاد الثورة ورحيله؟
وترى لماذا تسمرت جميع التجارب العربية الفكرية والسياسية عند أقدام أصحابها وانتهت مع غيابهم، في حين بدل أن تنتهي تجربة يوليو/تموز الناصرية مع غياب صاحبها اتسعت رقعة مناصريها وتضاعف الزخم الجماهيري الذي يؤازرها ويشد أزرها ليشمل جميع الأقطار العربية بلا استثناء؟
يوم قامت الثورة العظيمة، أظهر عبد الناصر قدرة وتفوقاً في فن محاكاة عواطف وأحلام الجماهير العربية في الإطار العام والمصرية في الإطار الخاص، وذلك من خلال عرضه للشعارات الرنانة التي رفعتها، تماما مثلما أظهر إتقانا مميزا لفن محاكاة حاجات هذه الجماهير على الصعيدين القومي والوطني، وذلك من خلال عرض الأهداف التي حددتها الثورة. فقد كان عبد الناصر ابن تلك الجماهير والمعبر عن آلامها وآمالها، مثلما كانت الثورة حلماً لطالما راود أفكار تلك الجماهير ودغدغ عواطفها.
فشعارات وأهداف الثورة، التي تراوحت بين القضاء على الاستعمار والاقطاع والاحتكار وهيمنة رأس المال وإرساء العدالة الاجتماعية والحياة الديمقراطية ورفع مستوى المعيشة وزيادة الإنتاج وإقامة جيش وطني قوي يتولى الدفاع عن مصر والأمة العربية، جاءت بمجملها متناغمة مع أحلام وتطلعات وحاجات المواطنين العرب من المحيط إلى الخليج، خاصة وأنهم كانوا لا يزالون تحت وطأة الهزيمة العربية الكبرى التي تمثلت بنكبة فلسطين والإفرازات التي نجمت عنها.
بالرغم من بعض سلبيات الثورة، التي من الواجب الاعتراف بها، إلا أنه كان لها الفضل الكبير في التحولات الوطنية والقومية. وإن لم يقيض لها أن تنجز جميع المهام التي أوكلت إليها ولم تستطع تحقيق جميع الشعارات والأهداف التي رفعتها وحددتها وبالأخص في مجال ديمقراطية الفرد والمؤسسات، لاعتبارات كانت خارج إرادتها وإرادة قائدها، كقصر عمريهما وتكالب القوى العربية المضادة والأجنبية الاستعمارية - الاستيطانية عليهما، إلا أنه كان لكليهما الفضل الكبير في التحولات القومية والوطنية التي شهدها الوطن العربي عامة ومصر خاصة على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والروحية، خاصة في عقدي الخمسينات والستينات من القرن العشرين الماضي، حيث عرف المد القومي أوج مجده.
ولعل من الإنصاف أن نسجل لثورة يوليو/تموز وقائدها نجاحهما في إعلان الجمهورية وإعادة سلطة الحكم لأصحابها الحقيقيين وتحقيق الجلاء وإرساء دعائم الاستقلال وتطبيق الإصلاح الزراعي وتقوية الجيش وتسليحه وإقامة الصناعة الحربية وتأميم قناة السويس وتحقيق الوحدة بين مصر وسوريا وبناء السد العالي وإدخال مصر معركة التصنيع وتوفير التعليم المجاني وضمان حقوق العمال والضمانات الصحية والنهضة العمرانية. ولاشك أن هذه منجزات كبيرة جدا، إذا ما قيست بالمسافة الزمنية العمرية القصيرة للثورة وقائدها وحجم المؤامرات التي تعرضا لها.
فالتجربة الناصرية الثورية لم تكن قد بلغت الثامنة عشرة من عمرها يوم اختطف الموت قائدها وهو يؤدي دوره القومي دفاعا عن الشعب الفلسطيني وقضيته وثورته. إلا أنها وبرغم ذلك، إستطاعت أن تفرض ذاتها على الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج من خلال طرحها مشروعا نهضويا قوميا عربيا حقيقيا، لطالما حلمت به وأحست بحاجتها الماسة إليه، ومن خلال حمل قائدها أعباء قضايا الأمة والتعبير عن آمالها وشجونها حتى لحظات حياته الأخيرة.
شكلت ثورة 23 يوليو/تموز نتاج مرحلة تاريخية بالغة التعقيد، عصفت بمتغيرات إقليمية ودولية فرضتها نتائج الحرب الكونية الثانية مثل بروز الولايات المتحدة وروسيا - الاتحاد السوفيتي في حينه - كقوتين عظميين وحدوث نكبة فلسطين والولادة القيصرية لكيان "إسرائيل" العنصري في قلب الوطن العربي.
لذا كان بديهيا أن تتشكل مع تلك المرحلة حالة نهضوية قومية وحدوية تكون بديلاً للواقع العربي القطري المفكك والمشرذم. وكان بديهيا أن تتشكل معها حالة ثورية وطنية تقدمية تكون بديلاً لحالة التخلف والإقطاع والاستبداد والرأسمالية الغربية والشيوعية الشرقية، وذلك من خلال بروز عبد الناصر كأحد الأقطاب العالميين الثلاثة الذين أسهموا في ولادة معسكر الحياد الإيجابي الذي تمثل بمجموعة دول عدم الإنحياز.
فعلى امتداد 48 عاما أعقبت رحيل عبد الناصر، منيت جميع التجارب الفكرية والسياسية العربية بالفشل الذريع، لأنها لم تستطع تشكيل البديل الذي يحظى بثقة الجماهير العربية وتأييدها، بل على العكس من ذلك فقد قادت الأمة من خيبة إلى خيبة، ومن تراجع إلى تراجع، ومن ضعف إلى ضعف.
وقد أُخذ على تلك التجارب منفردة ومجتمعة أنها بدل أن تتناول التجربة الناصرية بوضعيتها الثورية وشخص قائدها بالتقييم المنطقي المجرد وبالنقد الموضوعي البناء على ضوء نجاحاتها وإخفاقاتها والظروف الداخلية والإقليمية والدولية التي أحاطت بها لغرض تصحيحها والبناء عليها، أدارت لها ظهرها واختارت مواجهة الجماهير بمفاهيم جديدة إتسمت بروحية إنقلابية تصادمية وتغيرية عشوائية، الأمر الذي أدى إلى رفض الجماهير لها والعمل على إسقاطها والحفاظ على وفائها للثورة وتجربتها وقائدها.
ترى بعد كل ما ألم بالوطن العربي في ظل التجارب الفكرية والسياسية التي تلت رحيل جمال عبد الناصر في عام 1970، ألم يحن الوقت للاعتراف بحالة التميز التي شكلتها تجربته الناصرية، بحيث يصار إلى تقييمها ونقدها بشكل بناء وموضوعي لأخذ العبر من نجاحاتها والعمل على تصحيح إخفاقاتها ووضعها موضع التطبيق العملي والبناء عليها، لإخراج الأمة مما هي عليه من حالة تفكك ووهن وضعف واستكانة؟ أليس من الحكمة أن يصار إلى ذلك قبل فوات الأوان؟ أظن أن ذلك عين الحكمة.

15 كانون الأول/يناير 2017

محمود كعوش
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

992 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع