علي الوردي وعنصريته ضد المجتمع العراقي!

                        

     علي الوردي وعنصريته ضد المجتمع العراقي!
                               سليم مطر ـ جنيف
                                 آذار 2013

((اننا لا نريد من دراسة الثقافة البدوية ان نتسلى باحاديثها واقاصيصها ، بل نريد ان نفهم انفسنا))
علي الوردي

               

            

المؤرخ العراقي المعروف (علي الوردي ) ترك رصيدا مهما من الكتابات التاريخية والاجتماعية التي لا زالت تمارس تأثيرا كبيرا على الفكر العراقي . انه يعتبر من اكثر المثقفين العراقيين زخما في الانتاج  ووضوحا في موقفه وتفكيره (الحداثي) ، اذ ألف العديد من الكتب المعروفة التي سجل فيها بكل صراحة واسهاب آرائه في التاريخ والفكر والسياسة والمجتمع . انه يتميز بقدرته الكبيرة على التعبير الممتع واتقان الاسلوب السلس وسرد الحكايات والامثلة التاريخية ، لهذا فأن تأثير هذا المثقف الرائد بلغ حتى المستويات الشعبية وشبه المتعلمة والفئات المحافظة والدينية والحكومية . بل يمكن القول انه في السنوات الأخيرة ، مع بداية عودة العراقيين الى الذات ومحاولة ترميم الهوية الوطنية ، بدأت ايضا عودة وإعادة اكتشاف لكتابات هذا المثقف الكبير .
علي الوردي له كتب في مختلف المجالات الثقافية ، لكن هنالك مجالين بارزين تخصص فيهما : التاريخ وعلم الاجتماع . ويبقى التاريخ هو المجال الأول والاكبر الذي ابدع به ، وخصوصا من خلال عمله الكبير:( لمحات عن تاريخ العراق الحديث) المكون من ثمان اجزاء ، سجل فيها تاريخ العراق طيلة الحقبة العثمانية وما بعدها.  
اما بخصوص آراء الوردي في المجتمع العراقي فأننا نجدها منتثرة في كل كتبه ، لكن كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) هو اكثر الكتب التي خصصها بصورة مباشرة لطرح آراه في المجتمع العراقي . لهذا فأننا اعتمدنا هذا الكتاب كمرجع اساسي لتوضيح آراء ونظرياته الخاصة بمجتمعنا .  
بصورة عامة يمكن تحديد المميزات التالية لفكر علي الوردي :
1ـ انه يدعو بصراحة الى النظام الديمقراطي ، وله كلام اقرب الى التنبوء قاله في كتابه هذا ، أي في عام 1965 :(( ان هذه فرصة يجب علينا انتهازها، فالعراق الآن يقف على مفترق الطريق، وهذا هو أوان البدء بتحقيق النظام الديمقراطي فيه، فلو فلتت هذه الفرصة من ايدينا لضاعت منا امدا طويلا)).ص382
2ـ تأكيده على الخصوصية الوطنية العراقية ورفضه العموميات القومية العروبية. تراه يرد على اولئك العروبيين الذين بلغت بهم السذاجة القومية الى حد نكران أي واقع وطني وإدانتهم له باعتباره " ميل قطري" خطر! يقول الوردي ردا على انتقادهم له لأنه كتب عن العراق وليس عن الوطن العربي:(( اني اخالفهم في هذا الرأي مخالفة كبيرة. اود ان اسألهم هنا : كيف يمكن دراسة المجتمع الكبير من غير دراسة الأجزاء الصغيرة منه..)). ص8
3ـ من خلال مجمل كتاباته ، يمكن القول ان الوردي مثقف حداثي لكنه غير يساري ، بل هو اقرب الى التيار الليبرالي بمعناه الامريكي تقريبا، بحكم دراسته لعلم الاجتماع في امريكا . وهو يدعو بصراحة الى التمثل بالنموذج الحضاري والاجتماعي الغربي من ناحية الايمان بالعقلانية العلمية وتقديس التطور العصري والتحديث . لقد بين الوردي بوضوح في كتابه( مهزلة العقل البشري)  انه من الناحية الفكرية الفلسفية اقرب الى المدرسة المتشككة المنفتحة التي ترفض الجزم واليقين المطلق على الطريقتين الدينية والمادية الماركسية .
4ـ صحيح انه يدعوالى الثورة في الثقافة والفكر كما عبر بصراحة في كتابيه (وعاظ السلاطين ومهزلة العقل البشري) ، الا انه يرفض بشدة كل الميول الثورية في السياسة، خصوصا فيما يتعلق بالشعب العراقي . انه يعتبر كل الانتفاضات والثورات العراقية (مثل ثورة العشرين) ردود فعل قبائلية وامزجة فردية! ان مشكلة الوردي انه لا يعترض فقط على اساليب العنف الثورية المتبعة ، وهذه مسألة يمكننا ان نتفق بها معه ، بل المشكلة انه يعترض اساسا على امكانية وجود اسباب واقعية وانسانية تدفع العراقيين الى التمرد والثورة ! انه بكل صراحة يحكم على العراقيين بفقدانهم لأبسط النزعات الطبيعية الموجود في كل المجتمعات البشرية ، اي (حب الحرية والاستقلال) ، تراه يقول :(( الواقع ان القبائل العراقية بوجه خاص ، واهل العراق بوجه عام ، لم يكونوا يعرفون هذه النزعة ـ الحرية والاستقلال ـ او يدركون لها معنى . فهي نزعة حديثة لم تظهر في العراق الا في عهد متأخر جدا ، وذلك بعد اتصال العراق بالحضارة الحديثة واقتباس بعض مفاهيمها ومصطلحاتها ))!! ص172.
الحقيقة ان موقف الوردي هذا ليس نابعا من موقف اساسي ضد الثورة ، بقدرما هو نابع من موقفه بالذات من المجتمع العراقي ، حيث اعتبر كل سلوك وعقلية هذا المجتمع متأتية من روح البداوة المتأصلة فيه . وهذه هي بالضبط الاشكالية الكبرى التي سنعالجها في دراستنا هذه .
 فكر الحداثة والآيدلوجية الاستشراقية
 رغم التناقضات والصراعات بين التيارات السياسيةـ الثقافية العراقية المعروفة: الليبرالية والماركسية والقومية، الا ان جميع هذه التيارات تجتمع على قاسم مشترك واحد اسمه (الحداثة)! بمعنى النقد الشديد للميراث الديني والشعبي باعتباره (ظلاميا وعثمانيا ومتخلفا ) وتقديس الثورة العلمية والتكنلوجية وعموم الثقافة الاوربية بتياراتها وتنوعاتها المختلفة ، مع الاختلاف في التفاصيل والمسميات والاساليب ودرجة النقد والرفض . لقد شكلت هذه التيارات الثلاثة : (الليبرالية والماركسية والقومية) بمجموعها ( ثقافة الحداثة)، التي قادت الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية في العراق المعاصر منذ اكثر من قرن وحتى والآن .
لهذا فأن دراستنا لفكر علي الوردي ماهي الا محاولة لدراسة احد رموز فكر الحداثة ، من اجل معرفة دور هذا الفكر في تكوين (العقلية العراقية ) المعاصرة وفي صناعة التاريخ الوطني الحديث بمشاريعه وتطوراته المأساوية الكوراثية.
ان الخاصية الأساسية الجامعة لكل تنوعات وتيارات فكر الحداثة ، هي ((الرؤية الاستشراقية)) المستنسخة والمترجمة حرفيا من ((الرؤية الغربية)) عن الشرق العربي: البدوي المتخلف المتعصب دينيا الذي يميل الى الروحانيات بحكم طبعه السامي البدوي الصحراوي !!
ان تأثير هذه الرؤية وتغلغلها في تلافيف الفكر من القوة بحيث ان المثقف يمارسها من دون ان ينتبه لوجودها ولا يشعر بتناقضها مع مبادئه(الوطنية الليبرالية اوالقومية او الاممية) المعلنة . من الطريف مثلا ، ان ترى علي الوردي يأسف لأن المجتمع العراقي لا يبتدع ثقافته بل يستوردها من الخارج : (( انه الآن لا يبتدع المذاهب المستحدثة كما كان يفعل اسلافه، بل هو يستوردها من الخارج ويتنازع عليها. والظاهر ان رقي الحضارة الحديثة التي جاءت اليه جعلت منه "مصبا" للمذاهب ، لا "منبعا" لها )). ص368 لكن ادراك هذه الحقيقة لم يمنع الوردي نفسه من ارتكاب نفس الخطيئة بتبني الرؤية الغربية الاستشراقية في دراسة المجتمع العراقي ، كما سنرى !
ان حجر الزاوية والاساس الذي تستند عليه هذه الرؤية الاستشراقية الغربية في دراسة وتقييم المجتمعات العربية ، هي الفكرة ( العرقية القبائلية) القائلة بأن هذه المجتمعات هي سليلة اصيلة للقبائل العربية البدوية . أي خلق القطيعة التامة بين هذه المجتمعات ووجودها الجغرافي الارضي الوطني وربطها بحقيقة عرقية ازلية لا تؤثر فيها كل تطورات التاريخ ومتغيرات الجغرافيا . بالاعتماد على اساس (البداوة) هذا تم تفسير وشرح كل مكونات الفكر والعادات والسلوك والابداع وكل الميراث الحضاري والعقلي ! ان الخطوة الكبرى التي تم انجازها في اوائل هذا القرن من اجل تعزيز هذه الرؤية ، تمثلت باعادة كتابة تاريخ الحضارة العربية الاسلامية على اساس عرقي قومي طائفي اعتبر ان المصدر ((العربي)) الوحيد لهذه الحضارة هوالقرآن والميراث البدوي الجاهلي، اما المصادر الاساسية لهذه الحضارة فهي يونانية وفارسية وهندية، وليس بالصدفة ان هذه المصادر كلها (هندواوربية) ! باعتبار العقل الشرقي(السامي ـالحامي) بدوي روحاني بطبعه غير قادر على تقبل المنطق العلمي والفلسفي ! وهذه الفكرة نجدها مكررة في الاغلبية الساحقة من الكتب المؤلفة من قبل المستشرقين او العرب انفسهم .( يمكن مطالعة أي كتاب تاريخي عن الحضارة العربية الاسلامية )!
 بناء على هذه الرؤية القومية العرقية تم الالغاء التام لكل الميراث الحضاري للمجتمعات الاصلية في العراق والشام ومصر وشمال افريقيا ، باعتبار هذه المجتمعات عربية قحة ، وبالتالي هي منقطعة بدنيا وحضاريا ، أي عرقيا وقبائليا ، عن كل ميراثاتها السابقة للأسلام ولا تحمل غير الميراث البدوي ! لقد نجح المستشرقون الغربيون ومؤسساتهم التبشيرية والجامعية ، ولغايات تاريخية ودينية واستعمارية ، بفرض هذه الرؤية الاستشراقية التوراتية العنصرية على النخب المثقفة العربية (والعراقية طبعا) ، بحيث اتفقت عليها جميع التيارات، كل حسب طريقته وآيدلوجيته . الليبراليون والماركسيون اعتبروا البدواة سبب تعصبنا وتخلفنا وموقفنا المعادي للتنظيم وللانفتاح على الحضارة الغربية بنوعيها الرأسمالي او الاشتراكي . بل ان الماركسيون ابتدعوا تبريرا تاريخيا لهذه العنصرية من خلال مفهوم (الاستبداد الآسيوي ) بأعتبار النظام الاستبدادي خاصية آسيوية بينما الديمقراطية خاصية اوربية ( يونانية رومانية ) ! اما العروبيون فأنهم اعتبروا البداوة دليلا ساطعا على اصالتنا القومية ونقاوة دمائنا العربية ، وان الابتعاد عنها هو ابتعاد عن العروبة الحقة ، على حد تعبير احد كبار مفكري العروبة (زكي الارزوسي)  . لكن مع هذا التقديس للبداوة من قبل العروبيين فأن تقديسهم للحداثة الغربية جعلهم في النهاية يتفقون مع التيارين الليبرالي والماركسي بأعتبار البداوة سبب تخلفنا .
بأسم رفض ميراث البداوة والعشائرية والتخلف ، وتقديس ثقافة العلم والتحديث (بشكليه الرأسمالي او الاشتراكي) ، اتفقت تيارات الحداثة بمختلف مسمياتها وميولها، على احتقار ثقافة المجتمع والسخرية من تقاليده ومحاربة اسسه الروحية والدينية وتراثه الوطني والمحلي . ان أي دارس لفكر الحداثة في بلداننا يتوصل الى نتيجة مفادها ان هذا الفكر تمكن من اختصار كل تاريخ مجتمعاتنا وتطوراتها واشكالياتها بثنائية واحدة وحيدة : ( صراع الحضارة والبداوة ، أو التقدم والتخلف) ، مع اختلافات سياسية بين هذه التيارات حول الاشتراكية والرأسمالية والثورة الصناعية والعلمية وعن السوريالية والبنوية والدادئية، الى آخره من التفاصيل والمسميات، مع الاتفاق التام حول المشروع التحديثي الغربي والرؤية الاستشراقية لمجتمعاتنا .   
الوردي مؤرخ كبير وعالم اجتماع سيء
قبل كل شيء ، ولكي نتجنب ظلم هذا المثقف العراقي الكبير ، يتوجب التأكيد على مقدرته الفائقة كمؤرخ وموثق كبير انتج اوسع المؤلفات عن تاريخ العراقي العثماني ، وهو ايضا باحث جريء  طرق مواضيعا اجتماعية (تاريخية وشعبية) طالما ترفع المثقفون عن التطرق اليها . ثم انه حكواتي مبدع يمتلك اسلوبا ممتعا وجذابا بقدر ما هو غني وعميق لم يجاريه به أي مثقف آخر. ثم ان الوردي من الناحية الفكرية الفلسفية له طروحاته التي ترفض الانحياز الاعمى لمنهج معين وتدعوا للإنفتاح على كل الافكار والفلسفات والتمسك ببعض الشك ازاء كل منها تجنبا للتعصب والمغالات. اننا حاليا احوج ما نكون الى مثل هذا المنهج الفكري المتنوع والديناميكي.
لكن مع الأعتراف بكل هذه الأيجابيات الكبيرة والكثيرة لدى الوردي ، الا اننا نضطر للاعتراف ايضا بالجانب الآخر النقيض ، أي منهجه الاجتماعي المعتمد كليا على نظرية ( صراع البداوة والحضارة ) بتفسيرها الاستشراقي ، والتي لعبت ولا زالت تلعب دورا سلبيا كبيرا في تكوين العقل العراقي ، وزيادة التعتيم على حقيقة الشخصية الوطنية بمستويها الاجتماعي والتاريخي.  
يعتبر مفهوم ( صراع البداوة والحضارة) المأخوذ عن العلامة المغاربي (ابن خلدون) الاساس الاول والمنطلق الذي اعتمده باحثنا في تحليله لطبيعة المجتمع العراقي وتاريخه خلال القرون الاخير. والمشكلة لا تكمن في نظرية ابن خلدون المعروفة هذه ، بل في اضطرار باحثنا الوردي ، الى تشويه هذه النظرية من اجل مراعاة الرؤية الاستشراقية الغربية التي كانت ولا زالت مسيطرة على فكر الحداثة بكل خطوطه وتنوعاته . لقد بين الوردي صراحة في جميع كتبه التاريخية والاجتماعية والفكرية عن تبنيه لهذا المفهوم . يعتبر بحثه هذا المعنون (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) اكثر الكتب اعتمادا على مفهوم (صراع البداوة والحضارة ) ، إذ تراه منذ الصفحات الاولى قد لخص بصورة واضحة منهجه التحليلي ، قائلا :
(( لقد اجمع علماء الآثار ان العراق كان مهبط حضارة تعد من اقدم الحضارات في العالم ... وظلت الحضارة تراود العراق حينا بعد حين ... ونجد العراق من الناحية الاخرى واقعا على حافة منبع فياض من منابع البداوة ، هو منبع الجزيرة العربية . فكان العراق منذ بداية تاريخه حتى يومنا هذا يتلقى الموجات البدوية واحدة بعد الاخرى ... هنا نجد الشعب العراقي واقعا بين نظامين متناقضين من القيم الاجتماعية : قيم البداوة الآتية اليه من الصحراء المجاورة ، وقيم الحضارة المنبعثة من تراثه الحضاري القديم ... قد يجوز ان نصف الشعب العراقي بأنه شعب حائر ، فقد انفتح امامه طريقان متعاكسان وهو مضطر ان يسير فيهما في آن واحد . فهو يمشي في هذا الطريق حينا ثم يعود ليمشي في الطريق الآخر حينا آخر ...))ص11ـ12
على اساس هذه الرؤية شرع باحثنا بدراسة المجتمع العراقي وتاريخه في القرون الاخيرة من اجل اثبات بأن اخلاق البداوة هذه ظلت ولا زالت تعيش بالتنافس مع اخلاق الحضارة . بناء على هذا التناقض بين عقلية الحضارة وعقلية البداوة فأن الانسان العراقي يعاني من ازدواجية في الشخصية: ((ان الكثيرين منهم هم متحضرون في الظاهر ، ولكنهم بدويون في الباطن . وهذا الذي جعل بعض معالم الشخصية المزدوجة واسعة الانتشار بينهم ))..ص81 . لقد اطلق ايضا على نظريته تسمية:  ((التناشز الاجتماعي )) ، أي تصادم القيم البدوية مع الظروف الواقعية في الريف . ص214  
يحدد الباحث للأخلاق البدوية ثلاثة خصائص : اولا، روح العصبية ، أي التعصب للقبيلة والمشيخة والثأر والفخر بالنسب وحفظ العرض ..الخ . ثانيا، روح الغزو، أي الافتخار بالقوة والقتال والغنيمة والعزة والصراحة والاباء واحتقار المهن المختلفة ..الخ . ثالثا، روح المروءة ، أي الافتخار بالضيافة والكرم وحماية الدخيل والجار والرفيق والحليف وكل ضعيف ...ص115.ان:((الفرد البدوي يريد ان يغلب بقوة قبيلته اولا، وبقوته الشخصية ثانيا، وبمروءته أي بتفضله على الغير ثالثا)).ص38
وهو يؤكد على ان الميزة الاساسية لدى البدو هي روح القتال والغزو أي ما يسميه بروح الغلبة :(( اذا رأينا البدو يتركون الغزو والقتال ، فمعنى ذلك انهم سائرون في سبيل التخلص من ثقافتهم البدوية ، والدخول في عالم الحضارة )).ص79
ان التمايز بين الحضارة والبداوة يتمثل باختلاف الميول بين الاثنين:
ـ البدوي ميال للغزو والنهب ولكنه يحب المرؤة والكرم ، فمثلا ان عجيل الياور اصبح زعيم قبيلة شمر لأنه (( كان يغزو وينجح في غزواته ، ثم يوزع ما يغنمه في بيوت شمر)) ص83
ـ البدوي لا يميل الى الادخار والتوفير ، بينما الحضري يؤمن بالمبدأ القائل ((القرش الابيض ينفع في اليوم الأسود)) ص 84
ـ البدوي يميل للوفاء ورد الفضل ولكنه لا يحب ان يرى احدا قد تفضل عليه ، وهو قد يبغض من يتفضل عليه ويحمل في نفسه الحسد او الحقد عليه . ص86
ـ ان البدوي ، اكثر بكثير من الحضري ، يميل الى الحسد لأنه يجهل التمايزات الطبقية ولا يتقن تقاليد المجاملة والنفاق الاجتماعي ، ويعيش منغلقا مع افراد قبيلته حيث يكثر التحاسد والمنافسة.ص87
البداوة والتفسير القسري
لو تمعنا جيدا بالخواص اعلاه التي ينسبها الوردي للبدو، لوجدنا ان المشكلة ليس في صحة او عدم صحة هذه النسبة، بل في قناعة الوردي المطلقة بأن هذه الخواص لا يمكن ان توجد الا في المجتمع البدوي واستحالة وجودها في المجتمع الحضري ، وإن وجدت فأنها ، لامحال متأتية من البداوة!؟ ولهذا تراه في كل كتابه يفتش عن الامثلة مهما كانت لها صلة بهذه الصفات لكي يبرهن على الاصول البدوية للشخصية العراقية .هنا نسجل بعض التساؤلات الاولية عن مدى صحة تلك الصفات البدوية المفترضة :
ـ اذا كانت روح الغزو خاصة بالبدو ، فكيف يمكن تفسير كل هذا العدد الذي لا يحصى من الغزوات والحروب التي خاضتها البشرية منذ وجودها وحتى الآن . هل يمكن ارجاع الفتوحات الاستعمارية الاوربية الى (روح البداوة!) . وهل هتلر مثلا ، عندما (غزى) اوربا قد تأثر بالبداوة؟ اذا صدقنا مثلا ان صدام عندما غزى الكويت قد تأثر بروح البداوة العراقية، فكيف نفسر إذن غزو امريكا للمنطقة ، بل هنالك سيادة(لروح الغزو) والاستحواذ لدى الانظمة الغربية على كل الاصعدة الاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية ؟
ـ هل صحيح حقا بأن البدوي لا يميل الى الادخار والتوفير ؟ ان هذه الفرضية قد يصح جزءا منها ، لأن البدوي مثل كل الجماعات المتنقلة التي تعيش في مناطق شبه قاحلة ، من الصعب عليه جمع الممتلكات والثروات . لكن هذا لا يمنعه من جمع المواشي التي يعيش عليها مباشرة . ثم ان البدو ، وخصوصا نسائهم ، يميلون اكثر من الحضر لجمع المصاغات الذهبية والافتخار بامتلاكها والتزين بها في المناسبات . اذا رأينا كل هذا فأن (روح الزهد والتبذير) المفترضة تغدو نسبية جدا .
ـ اذا كان صحيحا ان البدوي يميل الى الحسد وعدم الوفاء لمن يتفضل عليه ، هل يعني هذا ان الحضري اقل حسدا ؟ الا يمكن ان نعكس الفرضية بالقول ان الحضري ، وخصوصا في مجتمع المدينة ، بحكم تعقيدات الحضارة وكثرة وسائل الاثارة والتنافس فأنه عرضة اكثر لدوافع الغيرة والحسد.
ان نقطة الضعف الاساسية في نظريةالوردي ، ليس لأنها خاطئة تماما ، بل لأنه تم اعتبارها هي الطريقة الوحيدة لرؤية المجتمع العراقي وتقييمه . ان خطأ الوردي ، مثل خطأ معظم المثقفين (والسياسيين طبعا) ، انه فضل اللجوء لأسهل الحلول أي الاعتماد على (نظارة) ملونة واحدة تضفي لونا موحدا على كل الموجودات ، من دون أي تمييز . وهذا الأحادية في التفكير والتحليل من اكبر عيوب العقلية العراقية المعاصرة ، وهو عيب تعاني منه جميع المجتمعات الضعيفة المستهلكة للأفكار المستوردة والمستنسخة .  لنا اوضح مثال هي النظرية الماركسية التي تم مسطرتها بصورة كاريكاتورية على مجتمعاتنا ، بحيث تم ارجاع كل ظاهرة وموقف وسلوك اجتماعي او ثقافي او سياسي الى مسببات (طبقية اقتصادوية )، من دون أي تمييز ولا ديناميكية. كذلك النظرية القومية ( بطبعاتها العروبية والكردوية والتركمانوية والآشورية ) التي حاولت ان تستنسخ حرفيا التجارب القومية الالمانية والايطالية ، فتم اعتبار عدم تحقيق ( الوحدة القومية الكبرى ) سبب لكل المشاكل والخطايا !
بناء على هذا الوضع الفكري الوحداني الاستسهالي السائد، فانه بدى امرا طبيعيا للوردي اعتماده الكلي على( عامل البداوة) في تشريح المجتمع العراقي ، مع تجاهل تام لكل العوامل والمسببات الاخرى .    
خلال معظم صفحات كتابه يحاول الوردي بذاكرته الغنية واسلوبه الروائي الشيق ان يمنحنا الامثلة الحياتية عن المجتمع العراقي من اجل تأكيد صحة نظريته عن صراع الحضارة والبداوة ، وهذه بعض النماذج :
ـ يحدثنا عن مجتمع جنوب العراق (منطقة الاهوار) وكيف ان : (( هناك اربع فئات محتقرة في الريف . واكثر هذه الفئات احتقارا هم الحاكة ، ويأتي بعدهم الحساوية أي الذين يزرعون الخضر ، ثم البربرة أي الذين يصيدون السمك بالشبكة. واخيرا يأتي المعدان وهم الذين يعيشون على تربية الجاموس... ان هذه الاعمال في نظرهم معيبة جدا ، إذ هي تجعل اصحابها كالبقالين المتجولين الذين يحملون بضائعهم في القرى والاسواق لبيعها )) ص158  
ومن اجل اثبات فرضيته تراه يقسر تفسير اجوبة الفلاحين ويقحم عامل البداوة بصورة تبسيطية مناقضا لمنهجه العلمي :(( سألت احد شيوخ القبائل في الفرات الاوسط : لماذا تحتقرون البقال ؟ فقال : ان البقال يعيش على الميزان ، وهذا عيب! يبدو ان الشيخ اراد ان يقول : ان البقال يحمل الميزان بدلا من السلاح وهذا مخالف لخصال الرجولة والشجاعة)) ص158.  بدل ان يأخذ الوردي كلام الرجل بما يكفي من الجدية ويحاول ان يبحث بما يعنيه (الميزان) لدى الريفي العراقي في تلك الحقبة وفي الحقب السالفة، الا انه يسارع ومن دون أي تحليل ولا فحص ، الى الجزم بأن الميزان مناقض للسلاح رمز الرجولة ( البدوية ) !
السؤال الذي يفرض نفسه هنا : هل احتقار عملية البيع والشراء ، بالضرورة نابع من موقف(بدوي!) . ان احتقار بعض المهن امر معروف في كل ثقافات الشعوب. من المعروف انه في الديانة الهندوسية هنالك تحريم لبعض المهن الفنية والتجارية، لا تمارسها الا الطبقات السفلى  . ان احتقار السلوك التجاري حالة تسود الكثير من الجماعات الريفية وخصوصا تلك المعزولة في ظروف بيئية خاصة بعيدا عن المدن ، ولأنها تعاني من سوء علاقتها مع المدن واجهزة الدولة التي تتركز فيها . ثم من يقول ان البدو يحتقرون التجارة . كلنا نعرف ان البدو هم اكثر الجماعات التي تمارس التجارة تبعا لتنقلها بين الحواضر والاوطان. بل ان هنالك من الباحثين من يعتقد بأن مهنة التجارة هي من اختراع القبائل الرعوية المتنقلة ، لأنها نقيضة لمهنة الزراعة والاستقرار.  ثم ان المعلومات المتوفرة عن بدو الجزيرة العربية تؤكد انهم لم يؤثروا ، مثلا، على مجتمع مكة قبل الاسلام والذي كان مجتمعا تجاريا بكل معنى الكلمة !
ان الوردي باحث بارع جدا في تجميع المعلومات والتقاط الامثلة ، لكن مشكلته انه يضطر في معظم الاحيان ان يضحي بهذه الامكانيات العلمية التي يتمتع بها ، من اجل ارضاء (الأرادة الاستشراقية العليا ) المهيمنة على عالم البحث والفكر ، سواء في العراق او في غيره . تراه مثلا ، بخصوص سبب احتقار مهنة الحائك في الريف ، يستشهد الوردي بالجواب التالي وهو ذا دلائل غنية جدا، حيث يقول احد الريفيين:((ان الحاكة مغموزون في نسبهم ، ويكذبون كثيرا ، وهم ناقصوا الذمة فقد سرقوا اقراط الحسين وشهدو على مريم عندما ولدت ، وفعلوا امورا مكروهة حفظها التاريخ ))ص159. ان هذا الجواب الذي يحمل معاني تاريخية وانثربولوجية غنية جدا وعميقة في اصولها التاريخية البعيدة ، إذ تتضمن في داخلها ، ليس التراث الشيعي العراقي فقط : (سرقة اقراط الحسين ) ، بل كذلك التراث المسيحي السابق: (شهدوا على مريم ام المسيح) ، حيث ان هذا الدين كان منتشرا في كل العراق قبل الاسلام ، وظل لقرون في الريف العراقي بعد الاسلام . بدل من التفسير التاريخي الانثربولوجي المطلوب ، ترى باحثنا الوردي يقسر التحليل كعادته(الاستشراقية) ، بقوله :(( يبدو ان هذه اعذار مصطنعة جاءت بها القبائل لتبرير احتقارها للحائك . والواقع ان احتقار الحائك تراث بدوي قديم ))ص159 ! وطبعا انه لا يمنحنا اي مثال او توثيق عن فكرة احتقار الحائك من قبل البدو ..هكذا!  
من الملاحظ  ان الوردي في كل كتاباته يستخدم تسمية (قبيلة) التي توحي مباشرة بمعنى القبائل البدوية ، ويتجنب استخدام التسمية العراقية الشائعة (العشيرة) لأنها لا توحي بما يكفي من البداوة !
ـ من اجل دعم نظريته عن تأصل (روح الغزو) البدوية لدى العراقيين ، فأنه يستشهد بمثال ثورة العشرين التي يعتبرها :(( امتداد للمعارك التي قامت بها القبائل ضد الدولة العثمانية .. اما نزعة الحرية والاستقلال التي ظهرت على الثورة في عام 1920، فهي لم تكن سوى مظهر خارجي .. ان القبائل العراقية كانت تنظر الى الحكومة كأنها العدوة الطبيعية لها . وهذه نظرة ورثتها من البداوة .)) ص173 . لكنه في الكثير من صفحات الكتاب يناقض موقفه هذا عندما يكشف عن ان معارضة السلطة العثمانية ثم الانكليزية لم تتأتى من روح البداوة بل بسبب السياسة الجائرة :(( انها ـ أي القبائل ـ لا تزال تعتبر الحكومة رمزا للضريبة والسوط والسجن والقهر والتسخير. ان هذا تراث قديم تمتد جذوره الى مئات السنين ، وليس من السهل ازالته من النفوس دفعة واحدة )) 176 . وهو يضيف في مقطع آخر المثال التالي عن دور الدولة العثمانية في تأجيج الصراع بين الجماعات العراقية : (( عام 1909 احالت الحكومة قسما من اراضي قبيلة جحيش الى شيخ البوسلطان ، فأثار هذا العمل ثائرة الجحيش وتأهبوا لقتال البو سلطان . فلم تكترث الحكومة لذلك ، وقال قائمقام المنطقة "بأسهم بينهم ". وكانت النتيجة ان وقعت الواقعة بين القبيلتين ، وقتل وجرح منها نحو الف او يزيدون))ص200 . وكان الوضع الأمني في زمن العثمانيين من السوء بحيث : (( ان الاغنياء في البصرة لا يتظاهرون بالفخفخة والترف لئلا يطمع الحكام فيبتزون اموالهم))ص132 . وهنالك العديد العديد من نوعية هذه الوقائع القاسية ترد في الكتاب.
 مع كل هذه المبررات الكافية لتمرد وثورة العراقيين على الحكومة ، فأن باحثنا لا يكف عن ترديد تعويذته الاستشراقية المقدسة : (( ان القبائل العراقية كانت تنظر الى الحكومة كأنها العدوة الطبيعية لها . وهذه نظرة ورثتها من البداوة))!!ص173


 الآيدلوجية الاستشراقية لا تعرف التاريخ
رغم امتلاك الوردي لكل المعلومات التاريخية التي تعينه على استكشاف العوامل العديدة التي حددت شخصية المجتمع العراقي وسلوكه ، الا انه للأسف ظل مصرا على التغاضي عن هذه المعلومات التي يوردها هو بنفسه ، ليعود من جديد الى (صنمه المقدس) أي عامل البداوة ، لأن النزعة الاستشراقية كانت اقوى من النزعة العلمية الموضوعية ، بل هي قادرة على الغاء الواقع ومعلوماته الواضحة. يمكن القول ان تسعين بالمئة من الامثلة التي يسردها على الوردي في كتابه ليس لها اية علاقة مباشرة بمفهوم الصراع بين الحضارة والبداوة :
ـ  مثال المعركة التي جرت بين عشيرة المياح المزارعة واهل مدينة الكوفة ، لأن هذه العشيرة رفضت السماح بتمدد المدينة على حساب اراضيها الزراعية . (ص186) ، فأين إذن عامل البداوة .
ـ عن عادة العراقيين في تبادل الهداية ، يقول: (( العراقي ، ينبغي ان يتمنع عن قبولها ويتظاهر بقلة الاكتراث . وكلما زاد المهدى في الحاحه زاد هو في تمنعه  … انها مستمدة من قيم الانفة والعزة والأباء التي هي من خصال الثقافة البدوية))ص268 ـ269 . صحيح ان هذه عادة عراقية لا تخلوا من الغرابة والازعاج ، لكن ليس هنالك ما يؤكد انها عادة بدوية . ان الامر يستحق الدراسة والتقصي.
ـ مثال الصراع الذي دام لسنين طويلة بين الدولة العثمانية وجماعة (ثورية) من اهل مدينة كربلاء سيطرت على المدينة واطلقت على نفسها تسمية(يرمازية ) من التركي بمعنى (العاطلون ، أي الصعاليك ) . وقد ناصر هذه الجماعة معظم سكان المدينة ورجال الدين . ص187 . اين اذن عامل البداوة ، اليس من الاصح عكس هذه الفكرة ، والقول بأن (البدو المخربون!) الحقيقيون في هذه الحالة هم العثمانيين وليس العراقيين!
ـ يعتبر الوردي ان كل العادات المنتشرة في الريف العراقي هي من اصل بدوي ،بما فيه السلوكيات الاكثر طبيعية وضرورية : (( يحاول الشيخ الريفي ان يتشبه بالشيخ البدوي في جميع قيمه واخلاقه . فهو يود ان يكون شجاعا كريما يحمي الجار والدخيل واللاجيء والضعيف ، ويجلس في المضيف ليحل مشاكل قبيلته ، وهو يقود القبيلة في الحرب ويمثلها في المفاوضات ))ص195 . لكنه في نفس الوقت يعطينا جميع الامثلة التي تبين العكس ، أي عن الطبيعة (الريفية) العراقية الخاصة والقديمة جدا. تراه يعترف قائلا : (( ان الضيافة في الريف ، كما هي في البداوة ، لها وظيفة اجتماعية مهمة ، فالشيخ ينال بها السمعة ، واتباعه ينالون بها ما يحتاجون اليه من الطعام اللذيذ ))ص196 .
إذن، للضيافة وظيفة نابعة من المجتمع الريفي نفسه ولا تحتاج الى اصل بدوي. ثم يعترف ايضا بالفروق الكبيرة بين طبيعتي الشيخ الريفي والشيخ البدوي :(( ان الشيخ البدوي هو كما وصفه ابن خلدون :متبوع لا قاهر . فهو يستمد وجاهته ورئاسته من التفاف قبيلته حوله واحترامها له ، فليس لديه قوة ، او حرس خاص ، يفرض بهم امره على القبيلة... اما في الريف العراقي الشيخ منهم يتعهد للحكومة بالتزام جباية الضرائب من العشائر والافخاذ الخاضعة له . وهو يؤلف له حرسا خاصا به، ويتخذ عددا كبيرا من العبيد، ليساعدوه في جباية الضرائب وفرض العقوبات والمغارم على اتباعه... ولبعض الشيوخ الكبار سجونا ووسائل للتعذيب والعقوبة. وهم يتخذون ابراجا للأغراض الحربية تسمى المفاتيل . واستطاع فيصل الخليفة شيخ البو محمد ان يجلب الخبراء لبصنعوا له المدفع...))   ص199.
ـ يقول الوردي :(( لقد ورث الفلاح من سلفه البدوي صفة تجعله يفكر في يومه ولا يحسب حساب غده، حسب المثل القائل "ابذل ما في اليد يأتيك ما في الغيب". انه  يأمل ان يسدد جميع ديونه في موسم الحصاد …))ص204 . لا ندري من اين اتى الوردي بفكرة ان التبذير عادة بدوية ؟!
ـ يتحدث عن (دافع الربح)، الذي انتشر عند اهل الريف وادى الى ظهور (النزعة الفردية) المناقضة للنزعة القبلية . وهو يدعم تحليله بالاستشهاد التالي: (لاحظ الاستاذ داريل فورد مثل هذا في نيجيريا في افريقيا ، وقال : ان التأثير الناتج من الاتصال بأساليب الحضارة الحديثة يؤدي في اكثر الاحوال الى ظهور النزعة الفردية التي تفكك تماسك المجتمع القديم وتخلق تضاربا في مصالح افراده ))ص209. والسؤال الذي يطرح نفسه :لماذا هذه المقارنة المقصودة على الطريقة الغربية مع حالة افريقيا فقط ؟ ان أي مجتمع سوف يعيش هذا التناقض الاجتماعي النفسي لو واجه ثقافة وعادات جديدة قادمة من الخارج ، سواء كان افريقيا او صينيا او اوربيا . ان المقارنة مع افريقيا اتت فقط لتعزز الصورة الاستشراقية عن ثنائية ( البداوة الهمجية ) ازاء (الحضارة الغربية) !!  
ـ (( وقد يحدث احيانا ان ينذر الاب احدى بناته منذ صغرها لسيد من سلالة النبي ، او لمرقد من المراقد المقدسة . فاذا كبرت البنت ذهب بها ابوها فقدمها السيد ، او الى احد سدنة المرقد . وهذا يستطيع ان يتنازل عن حقه فيها لقاء مبلغ معين يتفق عليه ))ص212 ان هذا التقليد الشيعي العراقي ، ليس له اية علاقة بالبداوة بل هو مناقض تماما لكل اعراف البدو. ان هذا التقليد هو بالحقيقة تقليد عراقي صميم يعود بجذوره الى المجتمع العراقي القديم حيث كانت العائلة تنذر ابنتها لتصبح كاهنة في خدمة المعبد . (راجع اي كتاب يتحدث عن المجتمع العراقي القديم ).  
ـ عن قضية قتل المرأة وغسل العار يقول:(( المعروف عن البدو انهم اعتادو منذ قديم الزمان على قتل المرأة عند الاشتباه بسلوكها )) 214 . وهل هذا معروف عن البدو فقط .. ليعد الى شريعة حمورابي مثلا ، التي اكدت على اعدام الزانية خصوصا، وليعد ايضا الى التورات . وليعد الى تقاليد شعوب البحر المتوسط . فمثلا ان شريعة حمورابي تحكم على المرأة الزانية بالقتل غرقا  ..
التناقض بين الخاص والعام
ان المشكلة الأساسية التي يعاني منها فكر الحداثة هي انعدام روح المقارنة الموضوعية العادلة بين ماهو (وطني خاص) وماهو( انساني عام ). أي الكيل بمكيالين : بالنسبة للحالة الخاصة ، فأن الحداثي لا يرى الا العيوب و(البداوة والتخلف!)، اما بالنسبة للحالة العامة والتي تخص بالذات المجتمعات الغربية ، فأن الحداثي لا يرى الا المحاسن و(التحضر والتقدم!) . فمثلا ، ان الطقوس الدينية والتقاليد الشعبية في مجتمعاتنا ، لا بد ان تكون ( عتيقة ومتخلفة ومتعصبة !) ، اما طقوس وتقاليد المجتمعات الغربية فهي نشاطات (طريفة وفنية وتقدمية):   
ـ  عن  تولع الشيعة بالامام العباس الملقب بـ(ابو الراس الحار) ، يقول الوردي عن هذه الحالة : (( يرجح في ظني ان القبائل انما اولعت بالعباس هذا الولع الشديد لأنها وجدت فيه مثالا رائعا للفروسية البدوية))ص242 . لماذا هذا الاصرار على اضافة (كلمة بدوية) الى الكثير من الصفات الموجودة في كل زمان ومكان ؟ ان صفة (الفروسية) ليست حكرا ابدا على البدو ، وأي مجتمع ، هل بحاجة الى الأصل البدوي كي يتعلق بالفروسية والفرسان؟ ثم ان كل المجتمعات الاوربية(الحداثية جدا!) لا زالت حتى الآن تقدس العديد العديد من القديسين المسيحيين ، حيث لكل قديس خاصية ورمزية معينة ، مثل قديس الحب (فالنتين) الذي يحتفل بيومه هذا عالميا كل عام ، وكذلك قديس الفروسية (جورج) ..الخ.  
ـ عند حديثه عن حالات ( التعصب للجماعة ) السائدة في المجتمع العراقي ، مثل التعصب للقبيلة او للمحلة او حتى للمهنة ، فأنه يرجعها تلقائيا الى روح البداوة :((مما يلفت النظر ان الشرطة او الجنود قد يتعصب بعضهم على بعض في سبيل الثأر احيانا ، كما يفعل افراد القبائل فيما بينهم ))ص177 . لكننا الآن كلنا نعرف ان (التعصب للجماعة) حالة بشرية سائدة ، بدرجات مختلفة ، في كل المجتمعات البشرية بما فيها المجتمعات الغربية ، وتزداد حدتها وعنفها في ظروف التأزم الوطني ، وقد تؤدي الى الحروب الدولية مثل الحربين العالميتين ، او الحروب الداخلية بين الجماعات السياسية والدينية والأقوامية المختلفة كما يحدث في ايرلندا ويوغسلافيا . ابسط حالات التعصب السائدة ، ما نشاهده  في ملاعب كرة القدم التي قد تؤدي الى نشوب العنف الدموي بين انصار الفريقين . اذن روح التعصب و(حروب داحس والغبراء) ليست خاصة بالعرب ولا بالبدو وحدهم كما اقنعونا بذلك مستشرقونا الحداثيون .         
ـ انه يعتبر بعض حالات الكرم والضيافة في المدن العراقية ، متأتية من البداوة: ((هذه المدن الكبيرة لم تكن تخلو على أي حال من بعض تقاليد الكرم والضيافة البدوية . من هذه التقاليد ما يسمى في اللهجة البغدادية بـ"الوير" ، ومعناه ان يدفع الرجل ثمن ما يأكله احد اصدقائه او يشربه في المطعم او المقهى )). ص267. ان تقاليد الضيافة هذه ، هي الحد الادنى الموجود في كل مجتمعات العالم . والمجتمعات الغربية نفسها تحتوي مثل هذه التقاليد الانسانية الشائعة والطبيعية جدا ، وهي ابدا ليست حكرا على البدو .
ـ عن بعض تقاليد الأدب والمجاملة ، يقول : (( اذا تزاحم شخصان على امر دون ان يكون بينهما معرفة مسبقة ، ثم قال احدهما "تفضل"اسرع الآخر فرد عليه بالقول"تفضل انت"… يمكن القول ان الفرد العراقي يشبه البدوي من هذه الناحية ، فهو يود ان يكون هو المتفضل على غيره ، ولا يود ان يكون غيره متفضلا عليه ))ص269. كان بالأمكان ان نصدق فرضية الوردي عن التأثير البدوي في هذه العادة ، لولا اننا نعيشها كل يوم في كل المجتمعات الغربية ، بل يمكن القول ان المجتمع كلما زاد تحضرا وثقافة ازدادت عنده تقاليد الادب واحترام مشاعر الآخر.
ـ عن تقاليد الولائم يقول : (( لا يزال الكثيرون من وجهاء المدن الكبيرة بستمدون مكانتهم من كثرة ولائمهم وكثرة المدعوين اليها . وهذا تراث بدوي قديم )) ص270 . نعتقد ان هذا تقليد انساني عام ، تقتضيه ضرورات المركز والسمعة . وهو في المجتمعات الغربية يأخذ شكلا مختلفا من خلال تبرع اصحاب المؤسسات والبنوك الى الاحتفالات الشعبية والنشاطات الثقافية مع اشتراط الاشارة لأسمائهم في النشريات ، وهذا جزء من النشاط الاعلامي والدعائي الضروري للنجاح والانتشار .
ـ(( ان التماسك العائلي في المدن العراقية هو احد مظاهر التراث البدوي فيها. فالعائلة تشعر كأنها عشيرة صغيرة تجاه غيرها ))ص 278 . من المعروف في علم الاجتماع ان المجتمعات التقليدية تتكون مما يسمى من ( العائلة الكبيرة) التي تضم الاب والام وعوائل الابناء والبنات ، مع وجود اواصر تضامن خاصة مع العوائل القريبة (العشيرة ) . وهذه حالة شاملة لكل المجتمعات القديمة ، وكانت موجودة في مجتمعات الغرب قبل الثورة الصناعية ، وليس لها اية علاقة بالبداوة . اما المجتمعات الصناعية الحديثة فأنها تميل عادة الى (العائلة الصغيرة) المنفردة حيث تفرض حياة المدن ان تعيش كل عائلة وحدها منفصلة عن الاهل والعشيرة.
ـ عن عادة العناية باللحية والشوارب عند بعض الناس ، يقول : (( وقد ورث اهل المدن في العراق هذه العادة من البداوة ، وظلوا متمسكين بها حتى عهد قريب))ص282. ان احتمال البداوة يبدو واهيا ، وخصوصا اذا عرفنا الميراث الاسلامي ودوره في تقدير اللحية ، وكذلك هنالك التأثير العثماني حيث كان للحية تقدير خاص ، بالاضافة الى ان هنالك الكثير من الشعوب قد تبنت اللحية في فترات مختلفة . ان  المجتمعات الغربية حتى اوائل القرن العشرين ظلت تعتبر اللحية والشوارب من علامات الرجولة والسمو. لمعرفة هذه الحقيقة يكفينا معاينة صور القادة والملوك والشخصيات الغربية المعروفة في ذلك الزمن .
ـ عن الميل لكثرة الأكل الدسم في المدن وحالات التخمة والسمنة ، يقول ((لقد ورث اهل الريف هذه العادة من البادية ، ومنهم انتشرت الى اهل المدن ، وهي احد مظاهر المد البدوي بينهم )) ص272 . يحق لنا هنا ان نتساءل إن كان للبداوة العربية تأثير على المجتمع الامريكي باستفحال مرض السمنة بسبب الاقبال على الاكل اللحمي الدسم بشراهة وبتخمة ؟ بل ان اية معاينة للمطبخ التقليدي للمجتمعات الاوربية ، تكشف عن شبه انعدام استعمال المواد النباتية والمغالات بالمواد الحيوانية ، وهذا بالضبط عكس المطبخ الشرقي .   
التفسير الاستشراقي لنظرية ابن خلدون
من كل هذه الاستشهادات يتبين لنا مدى المبالغة التعسفية في اعتبار الاصول البدوية لكثير من معتقدات وسلوكيات المجتمع العراقي . اننا ابدا لا ننفي تأثير البداوة ، لكننا نرفض هذه المغالات التي تمكنت من فرضها علينا تلك الرؤية الاستشراقية التي تحمل الكثير من العنصرية والرغبة في تأكيد الصورة (البدوية المتخلفة!) للمجتمعات العربية ، من اجل قطع جذورها مع اصولها الوطنية التاريخية المعروفة التي انبثقت فيها اعظم الحضارات والاديان السماوية . ان هذه مهمة آيدلوجية خطيرة نجح الغرب والصهيونية بفرضها علينا الى حد كبير، وبالاستعانة بمثقفينا انفسهم من دعاة الحداثة ( الليبرالية والقومية والماركسية) .
مشكلة الوردي انه تأثر بالرؤية الاستشراقية التي تعتبر المجتمعات العربية بأصول بدوية عربية من كل النواحي الاقوامية والتاريخية والحضارية ، وان أي موضوع يخص العرب (والعراقيين طبعا ) وتاريخهم ، مهما كان يجب ان يبدأ اولا بالحديث عن دور الصحارى والبداوة . ويبدو ان هذه الرؤية الاستشراقية من القوة والهيمنة بحيث تدفع مثقفينا حتى لمناقضة وتشوية نظريات اسلافهم ، بما يتلائم مع مفاهيم الغرب ، كما فعل باحثنا الوردي مع نظرية ابن خلدون عن ( صراع البداوة والحضارة ) ! ترى الوردي يقول بصريح العبارة :((من هذه الأخطاء انه ـ ابن خلدون ـ عندما درس الصراع بين البداوة والحضارة في المجتمع العربي ظن ان هذا الصراع عام في جميع المجتمعات البشرية . ولهذا رأيناه يحاول تفسير التاريخ البشري كله بأنه عبارة عن دورات متشابهة تتابع مرة بعد مرة ولا يختلف فيها العرب عن غيرهم من الأمم ...)) ص22 .
نعم .. هكذا يتصور باحثنا الوردي ، بأنه من اخطاء ابن خلدون انه حاول ان يساوي بين تواريخ المجتمعات العربية وغير العربية في تأثير عامل البداوة . فهل من المعقول مثلا ، ان يتشابه الاوربيون (المتحضرون ابا عن جد ) ، مع العرب (المتخلفون ابا عن جد ) في وجود البداوة في تاريخ كل منهم ؟!
مشكلة الوردي انه في تحليله لطبيعة المجتمع العراقي بقي سجين المفاهيم الغربية التي حاولت ان تلوي معاني المفاهيم بما يتلائم مع رؤاها العرقية العنصرية ، ومفهوم ( البداوة) واحدا منها.  لقد فسر الوردي معنى هذا المفهوم بصورة ضيقة جدا :(( ان البداوة في الواقع نظام اجتماعي لاينشأ الا في الصحراء ... وان الصحراء والبداوة امران مترادفان . فالأمة التي لا تسكن الصحراء يصعب عليها ان تتخذ في معاشها نظام البداوة ))ص17. لهذا تراه يفضل مقارنة العرب مع المغول باعتبارهم ايضا يقطنون صحراء آسيا الوسطى ، وان تميز العرب عنهم بخواص ايجابية انسانية بسبب اختلافات بيئية وموقعية.ص 47.
وهذا عكس ما يقول به ابن خلدون ، الذي كان اكثر عالمية وشمولية في رؤيته: (( ومن هذا العمران ما يكون بدويا، وهو الذي يكون في الضواحي وفي الجبال وفي الحلل المنتجعة وفي القفار واطراف الرمال … يتخذون البيوت من الشعر والوبر او الشجر او من الطين والحجارة … وقد يأوون الى الغيران والكهوف … وهؤلاء مثل البربر والترك واخوانهم من التركمان والصقالبة ـ أي السلاف ـ ))
ان سعة افق ابن خلدون بتعريف البداوة  بحيث تشمل كل بقاع الارض ومختلف المجتمعات ، تعود الى سعة افقه بتعريف معنى كلمة بداوة نفسها التي لاتعني فقط سكان الصحراء ، بل تعني نمط اجتماعي اقتصادي يعتمد بصورة مباشرة على الطبيعة وحدها كمادة اولية ، من دون أي تقنيات (حضارية ) زراعية او حرفية . لهذا فأنه يقول : (( ان اهل البدو هم المنتحلون للمعاش الطبيعي … وهم المقتصرون على الضروري في احوالهم ، العاجزون عما فوقه ، وان الحضر هم المعتنون بحاجات الترف والكمال في احوالهم وعوائدهم …))
ان مفهوم ابن خلدون عن (البداوة) يعني عموما كل الجماعات (الغير متحضرة) أي الغير مستقرة في الارض كفلاحين او مدينيين ، أي الجماعات ( الرحل ـ NOMADES ) .على هذا الاساس يمكن ان نصحح كلمة (بداوة ) الى (بدائية ) ، وبهذا يكون اللفظ الاوضح لمفهوم ابن خلدون هو  : ( صراع الحضارة والبدائية) . وهذا المفهوم بالحقيقة قد فرض نفسه وتبناه الكثير من الباحثين والمؤرخين الغربيين من امثال توينبي . على اساس هذه الرؤية الخلدونية فأن تاريخ البشرية ، مثل تاريخ المجتمعات العربية، خضع لعامل صراع البداوة والحضارة، وحسب توينبي فأن كل الهجرات الكبرى في تاريخ البشرية كانت متكونة من الشعوب (البدوية الرعوية)  ، مثل الآريين والتركستان والمغول ، الذين انتشرو من السهوب الاوراسية (اواسط آسيا وشرق اوربا)وعمروا الهند وايران وروسيا وكل اوربا.
 بأسم الخصوصية العربية والاعتماد على علم الاجتماع الخلدوني المشوه ، تمت ممارسة نوعا من العنصرية الذاتية ضد المجتمعات العربية باعتبارها هي الوحيدة التي تعاني من اجتياحات (القبائل البدوية ) وتخريبها للحضارة !
بالحقيقة ان هؤلاء المؤرخين العروبيين والغربيين لم يأخذوا بنظر الاعتبار الحقيقة التالية:
ان العالم العربي الذي نفضل ان نطلق عليه تعبيرا اشمل تاريخيا وانسانيا أي (العالم الشرقمتوسطي) ، هو مساحة هائلة تمتد على اجزاء من آسيا وافريقيا الشمالية وتحاذي اوربا وتطل على النصف الشرقي من البحر المتوسط وكذلك البحر الاحمر والخليج والمحيطين الاطلسي والهندي . أي ان هذا العالم العربي الكبير هو في مركز العالم القديم والحديث ومحاط بما لا يحصى من الشعوب والاجناس والحضارات الآسيوية والأفريقية والأوربية . انه اشبه ببحر شاسع تصب فيه ما لا يحصى من الانهار والامطار القادمة من كل جهات الأرض . من السذاجة والسطحية ان تحذف مؤثرات كل هذه الشعوب والحضارات المحيطة ويتم فقط تسليط الضوء على (المصدر البدوي العربي)! يكفي لدحض هذه الفكرة ان نلقي نظرة عابرة على التكوين الشكلي (الفيزيولوجي) لسكان هذا العالم العربي ، حيث نجد فيه كل الاشكال والاجناس الافريقية والاوربية والآسيوية !
هل يمكن اعتبار الاحتلالات اليونانية والرومانية والآسيوية ( بدوية عربية) ؟ ثم الهجرات الفينقية (الشامية) الى شواطئ شمال افريقيا هل هي حضرية ام بدوية ؟ ثم الفتوحات العربية هل يمكن ان نعتبرها كلها بدوافع (بدوية تخريبية) لا تختلف عن تخريب (بني هلال) الذين تحدث عنهم (ابن خلدون ) وبسببهم قال قولته الشهيرة:(إذا عربت خربت) . اذا كانت الجيوش العربية الاسلامية الاولى يطغي عليها العنصر البدوي ، فأن الجيوش الاموية والعباسية المتكونة من غالبية سورية عراقية ومصرية ومغاربية ، تحمل من عناصر الحضارة اكثر بكثير من عناصر البداوة .  
صحيح ان من الخطأ نفي اهمية عامل البداوة في تاريخ المجتمعات العربية ، لكنه يبقى عاملا مهما من بين عوامل عديدة لا تقل عنه اهمية . لو اخذنا حالة المجتمع العراقي ، فاننا نلاحظ باستغراب كيف ان الوردي بصورة منافية للحقيقة الجغرافية والعلمية ، اعتبر الحدود الغربية الصحراوية ( بادية الشام والجزيرة العربية ) هي ( الحدود الوحيدة!) ، التي اثرت في المجتمع العراقي من خلال الهجرات البدوية! لقد تناسى مؤرخنا ان للعراق حدودا اخرى لا تقل اهمية عن الحدود الغربية ، ونعني بها الحدود الشرقية والشمالية ، كما سيتبين لاحقا .
ازدواجية الموقع الجغرافي
من هذا يصح القول ان فرضية الوردي عن التأثير الحاسم لعامل البداوة في المجتمع العراقي ، تغدو واهية . بل الانكى من هذا ان يكرس الوردي كل كتابه من اجل البحث عن الامثلة والسلوكيات المتميزة لدى العراقيين التي ، حسب فرضيته ،  متأتية من تأثير البداوة . حتى لو افترضنا صحة تأثير البداوة على سلوكيات العراقيين ، فأنه من التعسف والمغالاة اعتبار كل السلوكيات والعاداة متأتية من هذه البداوة . ان الوردي بنظريته هذه اشبه بمن يحاول ان يفتش في بحر واسع عن مياه احد الانهر العديدة التي تصب فيه ! انه بهذا يرتكب خطأين بآن واحد : لأنه اولا ، يغالي بدور البدو وتأثيرهم في المجتمع العراقي ، ولأنه ثانيا ، يغالي بنسبة السلوك السلبي الي البدو ونسبة السلوك الأيجابي الى الحضر.  
صحيح ان المجتمع العراقي يعاني من ازدواجية حادة في الشخصية ، ولكن لأسباب عديدة تاريخية وبيئية وجغرافية ، تطلب دراستها الأخذ بنظر الاعتبار مختلف العوامل والتراكمات ، مع اعتبار البداوة احدى العوامل وليس كلها . يكفينا على الاقل معاينة الموقع الجغرافي للعراق لكي نكتشف ان المجتمع العراقي غير مرتبط فقط بالبداوة السامية ثم العربية ، بل كذلك بالهجرات الآسيوية والقفقاسية .  
يعتبر العراق مركز الشرق الاوسط ونقطة التقاء عدة اقطاب حضارية واقوامية مختلفة : من الغرب المؤثر الحضاري السامي ـ العربي ، والذي لم يتمثل فقط بالهجرات البدوية كما يشاع ، بل الهجرات الحضرية ايضا . ان بلاد الشام لم ترتبط بالعراق من خلال الصحراء فقط ، بل خصوصا من خلال نهر الفرات الذي يشق الجزء العلوي الشمالي من بلاد الشام ويقترب كثيرا من سواحل سوريا ويشكل خط اتصال طبيعي للهجرات الشامية (الحضرية) نحو العراق .
اما من الشرق فهناك جبال زاكاروس الكردية حيث تمتد بعدها الهضبة الايرانية حتى اواسط آسيا . من هذه الحدود ظلت تأتي اولا الجماعات الكردية التي اختلطت بالعراقيين منذ القدم ، مثل الغوتيين والكاشيين وصولا الى الوجود الكردي في اجزاء من شمال العراق في العصر الحديث. ثم الاقوام الاخرى الايرانية والتركستانية ، مثل الميديين والفرث والاخمينيين والساسانيين ، ثم بعد الفتح العربي بدأ التركمان ثم البويهيين ثم السلجوقيين ثم المغول . اما من الشمال حيث جبال طوروس والقفقاس وبلاد الاناضول ، من حيثيين وآراراتيين ارمن ثم اغريق ورومان انتهاء بالعثمانيين .
ان هذا الموقع المتوسط والحساس بين مناطق حضارية واقوامية مختلفة ومتناقضة جعل من العراق بوتقة انصهار وتفاعل تاريخية جبارة لكل هذه الاقوام . لكن هذا التنوع بقدرما منح الشخصية العراقية هذا الزخم الحضاري والابداعي المتميز ، فأنه كذلك ابتلاها بتوترات واضطرابات نفسية واجتماعية ناتجة عن كثرة التبدلات السياسية والاجتياحات العسكرية والتفاعلات الأقوامية والمذهبية شبه الدائمة .
طبعا ان هذا العامل الجغرافي ، فيه الكثير من التفاصيل وعلى علاقة مباشرة بالعامل البيئي الداخلي من نهرين وتضاريس ومناخ ، وهي امور اثرت كثيرا وحددت طبيعة المجتمع العراقي وتاريخه وشخصيته ونفسيته وعقليته ، أي (هويته ) الوطنية الثابتة . ولكي لا نبتعد كثيرا عن فحوى موضوعنا عن ( علي الوردي) ، فأننا ارتأينا تأجيل كل هذه التفاصيل الى موضوع قادم عن ( تاريخ الهوية العراقية ) .

الثقافة الخارجية والأزدواجية
  كل المجتمعات البشرية، افراد وجماعات ، تعاني عادة من ازدواجية في الشخصية بين ميول وسلوكيات واخلاقيات متناقضة . لهذا السبب اضطرت البشرية ان تبدع القوانين الاخلاقية والدينية والحكومية لكي تحد من تردد الانسان وتوحد المجتمع ضمن سلوك ونظام موحد ومشترك ومتفق عليه . لكن هذه الازدواجية تختلف في حدتها بين الافراد والمجتمعات المختلفة ، حسب ظروف وتربية وتاريخ كل فرد ومجتمع . فمثلا ان حدة الازدواجية تزداد طرديا ابتداءا من المجتمع البدوي ثم الريفي ثم المديني بسبب زيادة تعقد الحياة وتنوع الجماعات والثقافات . كذلك الشعوب شبه المنعزلة جغرافيا التي لم تتعرض لاجتياحات واختلاطات مع الشعوب الاخرى ، تكون اقل ازدواجية وانفصامية من الشعوب التي تعرضت طيلة تاريخها لأجتياحات واختلاطات من كل الانحاء ومن مختلف الاجناس والثقافات ، وهذا هو حال الشعب العراقي . يصح القول بأن الشعوب التي تمتلك تاريخا حضاريا غنيا هي الشعوب الأكثر ازدواجية وتوترا .
لو عدنا الى التاريخ ، فهنالك مثال معروف عن دور الاجتياحات الثقافية والنقلات الحضارية في خلق الازدواجية والانفصام : الفتح العربي الاسلامي الذي جعل الكثير من الشعوب المفتوحة تعيش حالة اضطراب وازدواجية بين ثقافتها الوطنية التقليدية الموروثة والثقافة العربية الاسلامية الجديدة. ان حدة ازدواجية الشخصية تختلف بين شعب وآخر حسب طبيعة قربه وبعدة من الزخم الثقافي الخارجي الجديد. يقينا ان معانات وازدواجية المجتمع الايراني عند الفتح الاسلامي تفوق حالة المجتمع العراقي، بسبب اختلاف موقع الاثنين وطبيعة علاقتهما مع الحضارة العربية الاسلامية الجديدة.
صحيح ان المجتمع العراقي بعد الفتح قد استبدل دينه المسيحي ولغته الآرامية بالدين الاسلامي واللغة العربية ، لكنه لم يعان كثيرا من هذا التغيير بسبب اواصر القربى بين الآرامية والعربية وبين المسيحية والأسلام . ثم ان العراقي لم يستلم هذه الحضارة الجديدة جاهزة من الخارج بل ساهم العراقيون بصورة فعالة وقيادية في صنع هذه الحضارة الجديدة وضخوا فيها كل ميراث اسلافهم المخزون منذ آلاف السنين ، بحيث ان اللغة العربية نفسها قد اخذت طابعها المعروف المتكامل في البصرة والكوفة ثم في بغداد . ان الاسلام نفسه قد ازدهر وتكامل وتشكلت معظم مذاهبه ومورثه الفكري في العراق ومن قبل العراقيين انفسهم. اضافة الى شعور العراقي ان الاسلام لم يستلب سلطانه السياسي بل على العكس فأنه قد حرره من سيطرة اجنبية (فارسية) ومنحه سلطة جديدة يشارك بها العراقي بصورة فعالة وقيادية خصوصا بعد تكوين الدولة العباسية وجعل بغداد وعموم العراق مركز هذه الامبراطورية العربية الاسلامية .
اما بالنسبة للمجتمع الايراني فأن علاقته بالحضارة العربية الاسلامية فيها الكثير من الاختلافات والخصوصيات مقارنة بالحالة العراقية . ان الديانة الزرادشتية واللغة البهلوية السائدة مختلفة كثيرا عن الاسلام والعربية . ثم رغم اسهام الايرانيين الفعال في صنع هذه الحضارة الجديدة فأنها تبقى مساهمة تابعة للمساهمة العراقية بسبب التبعية الجغرافية والسياسية حيث مقر الحضارة والدولة في العراق ، وكذالك ان اللغة المستعملة هي العربية لغة العراقيين الرسمية والشعبية . اضافة الى الناحية السياسية ، حيث يتناقض شعور الايراني تماما مع شعور العراقي ، حيث استلب الاسلام السلطة(الساسانية) من الايرانيين ولم يمنحهم الا مشاركة ثانوية ورمزية من خلال بعض الشخصيات التي شاركت في الدولة العباسية ، رغم تبعيتها للهيمنة السياسية العراقية حيث مقر الدولة في العراق . يقينا ان كل هذا جعل الشخصية الايرانية تعاني من ازدواجية حادة ازاء هذه الحضارة الجديدة ، لهذا فأنهم قد حاولوا التخفيف من حدة المعانات من خلال الثورات المحلية الاستقلالية العديدة والتمسك بالميراث الساساني واحياء الأساطير القومية السالفة مثل شاهنامة الفردوسي وغيرها .
الأزدواجية .. بسبب البداوة ام الأنمساخ الغربي؟   
يحدثنا الوردي عن بعض النماذج من العقلية المتحجرة التي كانت سائدة في المجتمع العراقي اواخر الحقبة العثمانية ، والتي حاولت الوقوف بوجه الحداثة القادمة من الغرب . الفقيه البغدادي نعمان بن ابي الثناء الآلوسي ،اصدر عام 1897 كتابا ضد محاولة تعليم النساء ( الاصابة في منع النساء من الكتابة )ص347 . ثم في اوائل القرن العشرين اصدر احد رجال الدين كتابا بعنوان ( السيف البتار على الكفار الذين يقولون المطر من البخار )ص342 . وعلى هذا المنوال يمكن ذكر العديد من الكتب التي حاولت ان تقف بوجه التغيير والحداثة .
لكن ما لم ينتقده الوردي وجميع الحداثيين من امثاله ، تلك العقلية المتطرفة بانمساخها الحداثي الغربي بحجة مواجهة العقلية التقليدية المتطرفة في تحجرها وانغلاقها . ما لم يتقبل الاعتراف به الحداثيون حتى الآن هي الحقيقة التالية : ان التعصب والسذاجة والتطرف ليست بالضرورة حكرا على المتدينين والتقليديين بل يمكن ايضا ان تشمل الحداثيين التقدميين .
لقد جهد الوردي وكل الباحثين الذين درسوا المجتمع العراقي ان يتحاشوا حقيقة ساطعة تشمل كل المجتمعات الانسانية وخصوصا مجتمعات العالم الثالث التي تأتيها الحضارة الغربية من خارجها : المعانات من التمزق بين التطرف التقليدي والتطرف الحداثي ، أي الصراع غير المتكافئ بين الثقافة الشعبية الدينية الموروثة والثقافة الغربية الحداثية المستوردة .  
لو عاينا المجتمع العراقي ، بصورة حيادية وموضوعية متحررة من هيمنة الآيدلوجية الاستشراقية ، لما وجدناه يعاني اساسا من التناقض بين البداوة والحضارة ، بقدرما يعاني من التناقض بين العقلية التقليدية الوطنية الموروثة والعقلية الغربية الحديثة المفروضة بواسطة التطورات المادية والثقافية القادمة من الخارج.
بالحقيقة ان هذه الازدواجية (الثقافية والنفسية والسلوكية) التي يعاني منها المجتمع العراقي هي حالة عامة تعاني منها خصوصا مجتمعات العالم الثالث وان بدرجات مختلفة بحدتها وعنفها . نعتقد ان المجتمع العراقي بين اكثر المجتمعات في حدة الازدواجية هذه بسببين ، اولهما ناتج عن تاريخه الحضاري الغني جدا والمتوتر جدا بسب موقعه الجغرافي الاستقطابي وبيئته الحادة في كرمها وغدرها ، كما بينا سابقا .
 اما السبب الثاني ، فهو ناتج عن التطرف الشديد بالانتقال من مرحلة عثمانية ظلامية بكل معنى الكلمة من كل النواحي الحضارية والمادية ، الى مرحلة انفتاح سريع وساذج وسطحي على العادات والثقافات والمعتقدات الغربية وخصوصا من قبل النخب(الحداثية) المتعلمة والمثقفة : اولهم طبقة الخواجات والأفندية التي نشأت في اواخر الدولة العثمانية وورثت من العقلية العثمانية تعاليها المزيف وسذاجتها واحتقارها للمجتمع العراقي ( عربجة وبدوي ومتخلف !) . ثم بعد تأسيس الدولة العراقية والاجتياح الانكليزي الاوربي المباشر تشكلت نخب عراقية متعلمة ومثقفة مشبعة تماما بالحداثة الغربية ، حيث انقسمت الى عدة تيارات ليبرالية وماركسية وقومية. رغم الموقف المشترك لهذه النخب على تبني(الحداثة الغربية) بمعتقداتها الثقافية الادبية والفنية والعلمية والصناعية وحتى الذوقية ، الا انها ظلت ولا زالت حتى الآن تتحارب فيما بينها لفرض معتقداتها الخاصة وقيادة الدولة والمجتمع .
سبق لنا في دراسات سابقة ان تحدثنا عن اشكاليات الهوية الوطنية والعقلية الحداثية ، وبينا ان من اهم خطايا عملية تحديث مجتمعاتنا ان نخبنا اعتقدت ان التحديث يعني (البداية من الصفر) والغاء كل الاسس التاريخية والميراثية السابقة ، أي خلق قطيعة وحشية عن الماضي وبناء المستقبل من خلال الاستنساخ الحرفي لكل المنجزات المادية والحضارية الغربية!
 مع الحداثة بدأ يسود الاعتقاد بان ميراثنا الديني والشعبي هوسبب تخلفنا لتحجره خلال القرون المظلمة . بسبب سذاجتها وطفوليتها فأن نخبنا الحداثية هذه ، لم تكن مؤهلة لأعتماد الحل المعقول والامثل القاضي باحترام هذا الميراث ثم تطويره وتطويعه حسب ظروف الوطن والمرحلة ، كما فعل الاوربيون خلال قرون عصر النهضة . لهذه فأن نخبنا قد لجأت الى اسهل الحلول واسرعها ، أي استنساخ وترجمة الثقافة الأوربية بتنوعاتها الليبرالية والماركسية والقومية ، لأحلالها بصورة تعسفية محل الميراث الديني والشعبي الوطني . أي تبني طريق الحداثة الاوربية ليس من اول مراحله ، بل من آخر مراحله واكثرها تطرفا والمتمثلة بالعلمانية الفرنسية ثم الالحاد السوفياتي . بحجة فصل الدين عن الدولة تم فصل الدين والثقافة الشعبية عن الحياة المعاصرة بأكملها . بأسم التقدمية والعلمانية تم احتقار الدين وعزل الفقهاء في التكايا والصوامع . وكرست هذه النخب كل مؤسسات الدولة والمجتمع من اجل الاستنساخ الحرفي والتلميذي وبصورة اندفاعية طائشة لكل الثقافة الغربية بكل تنوعاتها الفكرية والفنية والادبية والسياسية وبكل تياراتها اليسارية واليمينية والقومية والاشتراكية والليبرالية .
كل هذا مع اصرار عجيب على التغاضي عن حقيقة مهمة وساطعة وموجودة في كل ثنايا الحياة الغربية : ان الدين والكنيسة موجودين في كل مجالات المجتمع والثقافة والجامعات وحتى الاحتفالات والاعياد وقوانين الاحوال الشخصية . بل هنالك ماهو اكثر وضوحا : وجود التيار السياسي المسيحي كجزء فعال من التيارات السياسية الاوربية ، ومن اشهرها الاحزاب الديمقراطية المسيحية .
هكذا بدل ان تتفهم نخبنا حقيقة النهضة الأوربية التي قامت على اساس تطوير الدين المسيحي وتحديثه وجعله معاصرا وديمقراطيا ، فأنها بكل ثمالة وطيش قررت اختصار الجهد وتوفير الوقت باقرار الغاء الدين ، بل الغاء الميراث الروحي والثقافي الوطني باكمله .  وهكذا تم منع ارتداء الثياب الوطنية في دوائر الدولة والجيش والشرطة والمدارس واعتبار الثياب الغربية ( الافندية) هي رمز الحداثة والتقدم . وتم كذلك تبني الاساليب الغربية في الموسيقى والرسم والبناء وجميع الاذواق والعادات والسلوكيات . وما زاد الطين بلة ان تبني العقلية الغربية لم يتم بصورة بطيئة ومتساوية على صعيد المجتمع انما ظلت بصورة عامة حكرا على النخب الفعالة الغنية والمثقفة المدينية، اما باقي المجتمع فأنه ظل يعاني من الشعور بالاحتقار الذاتي بسبب احساسة بالعار من (تخلفه) بكل شيء عن (الحضارة) الحديثة .    
ان أي مراقب ، وليس بالضرورة ان يكن (عالم اجتماع) مثل علي الوردي ، ومع القليل من الموضوعية والضمير ، سوف يدرك جيدا اننا ابدا لسنا بحاجة الى ميراث (البداوة) لكي نعيش هذه (الأزدواجية) القاسية المرعبة . يكفي ان نتخيل حال المواطن الذي يكتشف هكذا فجأة ، وبلسان دولته وابنائه المثقفين ، ان دينه متخلف وملابسه متخلفة ولهجته واسمائه وجميع معتقداته واذواقه وفنونه وميراثاته ، كلها متخلفة مقارنة بالحضارة الغربية الجبارة التي بدأت تجتاحه ليس حضاريا وماديا ، وحتى عسكريا !!
ان مثل هذه الوضعية الانمساخية التعسفية التي نسفت ولازالت تنسف كل يوم المرتكزات الروحية والثقافية للمجتمع ومن خلال ابنائه انفسهم من (الخواجات والافندية والحداثيين) ، لكفيلة ، ليس بخلق (الازدواجية) فحسب ، بل خلق التوترات النفسية والانفصامات الجنونية (الشيزوفرينيا) داخل الفرد وداخل المجتمع ، وبالتالي خلق كل المسببات لسيادة العنف والقسوة وروح التدمير الذاتي ، وهذا ماهو حاصل في بلادنا منذ اجيال واجيال .
نعم، علي الوردي مؤرخ وطني كبير واجتماعي سيئ وعنصري
نعود ونقول ، ان الوردي مبدع كبير وانه اكبر مؤرخ عراقي في العصر الحديث قدم خدمة كبيرة لوطنه من خلال عمله الجبار ( لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) باجزائه الثمانية . ولكن للأسف نضطر ايضا ان نقول الجانب الآخر من الحقيقة ، وهي ان الوردي عالم اجتماع سيء وقد ساهمت افكاره الاجتماعية ولا زالت  تساهم بتشويه العقلية العراقية وتعتم على حقيقة المجتمع العراقي وحقيقة مشاكله . وربما العذر المعقول الذي نجده لمؤرخنا الكبير ، ان الذنب ليس ذنبه ، بل هوذنب المرحلة التي عاشها حيث تمكنت (الآيدلوجية الأستشراقية) من فرض سيطرتها الكلية على الحياة العقلية في العراق والعالم العربي ، بحيث انه غدى من الطبيعي جدا ان نرى انفسنا بعيون غربية !!
ان افضل تقدير لهذا المثقف الكبير ان نختتم موضوعنا هذا باحدى مقولاته الطريفة والغنية والتي تنطبق بصورة رائعة على معظم مثقفي الحداثة الذي مارسوا ولا زالوا يمارسون سطوتهم على مجتمعنا باستخدام رطانتهم (الصدامية!) والسوريالية المبهمة ومصطلحاتهم الفذلكية القاصمة: (( ... انهم يسترون شقاوتهم بطلاء براق من المصطلحات الحديثة ، وهم قد يستخدمون تلك المصطلحات اسلحة ضد خصومهم كمثل ما كانوا في طفولتهم يستخدمون الهراوات والاحجار ))!!ص357   
من كل هذا يمكننا ان نستخلص الفكرة التالية : ان الوحدانية في الرؤية هي السبب في ازدواجية الشخصية العراقية وتمزق الهوية الوطنية . وان سبب ديمومة العنف والاستبداد وكل الكوارث الحالية ، هو التطرف الشامل لكل التيارات سواء منها الدينية التقليدية او الحداثية التقدمية . وان الحل الأمثل الذي سبق إن دعونا له ونستمر بالدعوة اليه  ،هو (( الفكر الوسطي)) النسبي المنفتح والجامع بين كل ثنائيات الحياة : الدين والعلمانية ، الروحانية والعلم ، الماضي والمستقبل ، الخاص والعام ، الحرية والالتزام ، الطبيعة والتصنيع ، الاصالة والمعاصرة .. الخ .. فهذه هي الحداثة الحقيقية المطلوبة .   

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

645 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع