آرا دمبكجيان
الأرمن في القدس
تضم مدينة القدس في ثناياها العديد من الخفايا و الأسرار مؤرخة احوال الشعوب التي سكنت في أحيائها القديمة منذ آلاف السنين. شعوبٌ جاءت و رحلت، و أخرى بقيت تصارع عاديات الزمن و أستبداد البشر.
تحتل البلدة القديمة في القدس مساحة 0.9 كيلو متر مربع أو 0.35 ميل مربع و هو الجزء المسوَّر من مدينة القدس الحديثة. و تنقسم البلدة القديمة الى أربعة أحياء بعد تأسيس الحي اليهودي في 1865 م الى جانب الحي الأسلامي الأوسع مساحة ثم الحي المسيحي و الحي الأرمني. لم يكن للحي اليهودي أي ذكر لغاية الأحتلال الأسرائيلي حين هدمت السلطات حي المغاربة الذي كان قائما لمدة 900 سنة و دمجته مع الحي اليهودي الذي توسَّع بهذا الشكل.
تواجد الأرمن على ارض فلسطين منذ القرن الأول قبل الميلاد (55-95 ق. م.) حين ضمَّ الملك ديكران الكبير أراضي سوريا و لبنان و فلسطين الحالية الى مملكته، ثم ازداد وجودهم الفعلي في القرن الرابع الميلادي بعد ان اعتنقت مملكة أرمينيا، حكومة و شعبا، المسيحية التي اصبحت دين الدولة الرسمي في 301 م، فأصبحت أول دولة تعترف بالمسيحية حتى قبل الأمبراطورية الرومانية. و لهذا السبب يعتبر بعض المؤرخين أرمن القدس أقدم جالية أرمنية مقيمة خارج أرمينيا، و لو لا آخذ شخصياً بهذا الأمر فقد تواجد الأرمن في مصر الفرعونية، و هذه قصة أخرى.
من معالم مدينة القدس الحي الأرمني، و هو أحد الأحياء الأربعة الرئيسة بالمدينة المحيطة بالمسجد الأقصى، و يمتد من محيط القشلة أو مركز الشرطة في باب الخليل حتى حارة الشرف في الجنوب الشرقي من مدينة القدس. بُني الحي في سنة 301 م على جبل صهيون ثم وصل الى ما عليه الآن من مساحته في أثناء الحكم العثماني (1917-1517)، و يحتل الحي سدس مساحة القدس القديمة.
شيَّدَ الأرمن في القرن السابع الميلادي بطريركية خاصة بهم تُدعى بطريركية القديس يعقوب و ديراً ملحقا بها، و هي أول بطريركية في فلسطين، فأصبحت على مر العصور مقصداً للحجاج الأرمن الذين أسَّسوا الخانات و مراكز الضيافة لأستقبال الزوار الأرمن للأماكن المقدسة و على رأسها كنيسة المهد في بيت لحم و كنيسة القيامة. و شُيِّد الدير في المكان الذي استشهد فيه القديس يعقوب الرسول، بأمر من هيرودس الحفيد. وقد هدمه الفرس سنة 614 م، ثم أعيد بناؤه، وأقيمت فيه كنيسة في أواسط القرن الثاني عشر الميلادي، ثم أجرى عليه بعض الإصلاحات في القرن الثالث عشر الميلادي.
ويُعد هذا الدير من أوسع الأديرة بالقدس، حيث يشغل المُجمَّع نحو سدس مساحة البلدة القديمة من القدس هو والحارة الواقع فيها، و فيه مدرسة أرمنية و مستشفى. كما اتخذ الأرمن فيه دار بطريركيتهم، ومدرسة للاهوت، ومكتبة غنية بنفائس المخطوطات والكتب المطبوعة، و يُقدَّرُ عدد محتوياتها في سنة 1947 م بنحو 4000 مخطوطة وأكثر من 40000 كتاب مطبوع، و هي أكبر مكتبة حتى الآن داخل القدس القديمة و أضخم ثاني مكتبة أرمنية للمخطوطات في العالم، أولاها في يريفان عاصمة أرمينيا، و ثانيتها على جزيرة سان لازارو في البندقية في ايطاليا داخل دير الأب مخيتار من الأرمن الكاثوليك. و لا عجب في ذلك إذ كان الدير المقدسي من أوائل المؤسسات العربية التي أمتلكت مطبعة منذ سنة 1833م. حالفني الحظ بزيارة المكتبتين الأثنتين ما عدا المكتبة المقدسية.
يوجد بالقرب من باب العمود، أحد أبواب المسجد الأقصى، ضريح الجندي المجهول من الكتيبة الأرمنية التي شاركت مع الحلفاء في قتال العثمانيين سنة 1917، و حوله 40 طيراً صُمِّمَت من التماثيل القديمة التي تعود للحقبة البيزنطية و كُتِب تحته باللغة الأرمنية (سلام لأرواح لا يعرف أسماءهم سوى رب العالمين.)
تشارك الكنيسة الأرمنية الأورثودوكسية في القدس (حماية) الأماكن المقدسة مع الكنيسة الأورثودوكسية اليونانية و الكنيسة اللاتينية (الرومانية الكاثوليكية) إضافة الى الكنيسة السريانية و القبطية.
و الجدير بالذكر كان بطريرك الأرمن السابق في القدس عراقياً أرمنياً هو رئيس الأساقفة توركوم الثاني مانوكيان رحمه الله الذي ولد في مخيِّم للاجئين الأرمن في بعقوبة في 1919 بعد أن وصل أهله مشيا على الأقدام و كانوا من الناجين من المجازر التركية في 1915.
و بعد أنتخابه البطريرك السادس و التسعين للأرمن الأورثودوكس في 1990 لغاية ما توفاه الله في 2012 على الديار المقدسية و الفلسطينية تولى شؤون الأرمن في أسرائيل و الأراضي الفلسطينية و الأردن. و لا يثبت البطريرك في منصبه، حتى بعد أنتخابه، إلا بعد الحصول على الموافقات الرسمية من ملك المملكة الأردنية الهاشمية و رئيس وزراء اسرائيل.
و لرئيس الأساقفة رحمه الله أخ مصور في بغداد صاحب استوديو فوتو انتران على شارع الرشيد. كان المصور انترانيك مختصا بتصوير الآثار القديمة و المتاحف.
الصناعات اليدوية الأرمنية في القدس
عندما احتل السلطان سليمان القانوني القدس في 1517م أراد صيانة قبة الصخرة و ترميمها، فارسل في طلب خبراء أرمن من مدينة كوتاهية التركية مختصين في عمل السيراميك/الخزف و الفسيفساء المزجَّج لترميمها. و كان أحدهم المهندس الأرمني داود أوهانيسيان الذي درس أحتياجات القبة و المعدات اللازمة للقيام بعمله، فعاد الى تركيا و أحضرها و شرع في ترميم قبة الصخرة. بعد إقامته في القدس لمدة سنتين و إجراء الترميمات اللازمة لم يتمكن المهندس الأرمني من العودة الى بلاده، فقرر البقاء فيها و إقامة مصالح تجارية.
يمتلىء مدخل الحي الأرمني بمحلات تزاول مهنة السيراميك المزخرف، وصولاً الى المسجد الأقصى. و أول معمل لهذا الفن في القدس أُقيم على يد الأرمن مع مجئ داود أوهانيسيان الى القدس. و يُعد السيراميك المحيط بمآذن المسجد الأقصى، و مسجد قبة الصخرة، من أهم الأنجازات الأرمنية على الأرض الفلسطينية التي صُمِّمَت في المعامل الأرمنية في البلدة القديمة.
و من الجدير بالذكر ان الأرمن، و خاصة الذين يملكون هذه المعامل القديمة في هذا الحي، من محتكري ممارسة هذا العمل، و يعتبرونه فنّاً يتوارثونه أباً عن جد في الأراضي الفلسطينية حتى الآن.
إضافة الى أعمال فن السيراميك يعمل معظم الأرمن في القدس في الصياغة و بيع المجوهرات و في صناعة آنية النحاس و زخرفتها، و يملك الكثير منهم متاجر لبيع الهدايا للسياح و زوار الأماكن المقدسة. و حتى قبل عقود من الزمن كان الأرمن يسيطرون تقليديا على قطاع صناعة الأحذية الذي بات يتقلص بسبب منافسة الأحذية الجاهزة الصنع من جهة و بسبب مضايقات الأحتلال لقطاع الصناعات الفلسطينية بشكل عام في مدينة القدس من جهة اخرى.
يضم الحي الأرمني أيضا معامل التصوير القديمة و الأولى في فلسطين و بلاد الشام و ما زالت قائمة على عملها منذ تأسيسها، مثل الأستوديو الواقع في شارع حيفا في القدس، إذ كان الفضل لها في إدخال أول عملية تصوير بفلسطين سنة 1857 على يد البطريرك الأرمني آساي كرابيديان. و كان هذا الشخص المصور الشخصي للأمبراطور الألماني ويليام الثاني خلال زيارته للقدس عام 1898، و هو أول من فتح مدرسة للتصوير في الحي الأرمني في فلسطين و ما زالت موجودة في مكانها حتى اليوم؛ و تظهر في جوانبها مع الصور الملتصقة على جدرانها أولى الصور الفوتوكرافية التي ألتُقِطت في فلسطين منذ عهد العثمانيين مروراً بالأنتداب البريطاني الى سيطرة الثوار العرب على فلسطين دفاعا عنها ثم الأحتلال الأسرائيلي.
أعداد الأرمن في القدس
ذكر الرحالة الأوروبيون و العرب أخبار الأرمن عندما دوَّنوا تفصيلات رحلاتهم فأشاروا الى أخبارهم و ذكروا كنائسهم و أديرتهم في فلسطين.
كان الأرمن في فلسطين يكوِّنون الطائفة المسيحية الثالثة من حيث العدد و الأهمية بعد الروم الأورثودوكس (التابعين الى الكنيسة الأورثودوكسية اليونانية) و اللاتين. كانت قيمة الضريبة الجماعية المفروضة على سكان سنجق القدس من الأرمن سنة 1886 لقاء الإعفاء من الخدمة العسكرية في القوات العثمانية تعادل 260 دولاراً بأسعار تلك الأيام. في حين كانت 1217 دولارا للأورثودوكس و 826 دولاراً للاتين و 56 دولاراُ للأقباط و 37 دولارا للبروتستانت و 17 دولاراُ للكاثوليك. و هذا يعني ان عدد الأرمن كان أكبر من أعداد الأقباط و الكاثوليك و البروتستانت و أقل من اليونانيين الأورثودوكس و اللاتين. و على هذا الترتيب جرى تقسيم الإشراف على كنيسة المهد في بيت لحم سنة 1856، أي بعد حرب القرم بين اللاتين و الأورثودوكس.
كان يقطن القدس سنة 1893، بحسب الأحصاء الذي نظمته الدولة العثمانية آنذاك، 847 أرمنيا، و في يافا 92، و أعداد غير محددة في بيت لحم و الناصرة و حيفا و عكا و غزة. و في 1945 كان تعداد الأرمن في فلسطين قد وصل الى 15,000 شخص، و في القدس وحدها 5,000 أرمني إذ جاء جلَّهم من الناجين من جريمة الإبادة الجماعية التي أرتكبتها تركيا العثمانية في 1915 بحق الأرمن. و تناقص هذا الرقم الى 3,000 أرمني قبيل الأحتلال في 1967. و لم يكد العام 1974 يطل حتى نقص العدد الى 2,000 في القدس القديمة، ثم تراجع الى 1,200 أرمني في عام 1985.
يبلغ عدد الأرمن اليوم في فلسطين عامة حوالي 7500 نسمة، منهم ثلاثة آلاف يعيشون في القدس و 2100 يسكنون حي وادي النسناس في مدينة حيفا، و 300 نسمة في مدينة بيت لحم، فيما يتوزع الباقون بين عكا و الرملة و الناصرة و بئر السبع و قطاع غزة.
الأرمن و الوضع السياسي في فلسطين
وظَّفت البطريركية الأرمنية في القدس أموالها في أثناء الأنتداب البريطاني في الميدان العقاري مما جعلها أكبر مالكة للأرض في القدس. و بما أن الحي الأرمني في المدينة القديمة يجاور الأحياء اليهودية الأستطانية الجديدة فقد نتج عن هذا الأمر احتكاك دائم بين الأرمن و اليهود. و حاولت السلطات الأسرائيلية إجبار الكنيسة الأرمنية على بيع الأراضي التابعة لها للتوسع في عمليات الأستيطان، و عمدت الى مصادرة بعض العقارات، من بينها، على سبيل المثال، عمارة فندق (فاست) التي هُدِمت و بيعَت أرضها الى شركة أسرائيلية أنشأت في مكانها فندقا جديدا. أقامت البطريركية دعوى قضائية لدى محكمة الأستئناف الأسرائيلية العليا التي لم تبت في القضية حتى الآن.
يعتبر الأرمن في القدس ان جذورهم الأرمنية لا تُلغي هُويتهم الفلسطينية و لا تُلغي أختلاطهم بالمجتمع الفلسطيني، فمصيرهم هو مصير كل فلسطيني و مقدسي و هم مهددون بوجودهم في السُدس المخصص لهم و الذي أستملكوه قبل مئات السنين على الرغم من الممارسات الأسرائيلية ضد وجودهم.
و مشهود لها أن الكنيسة الأرمنية في فلسطين وقفت وقفات وطنية مشرفة ضد الأحتلال الأسرائيلي و ضد قرار التقسيم. و لا يهتم الأرمن في فلسطين كثيراً بالسياسة، و لكن هذا لا يعني أنهم بمعزل عنها. فقد أنخرط شبابهم في العمل الوطني و أنضم عدد منهم تحت لواء الفصائل و التنظيمات و الأحزاب السياسية الفلسطينية.
يرفض الأرمن رفضا قاطعا ان يبقى الحي الأرمني في القدس تحت السيادة الأسرائيلية، فهم من حيث المبدأ ضد تقسيم المدينة المقدسة و أنها يجب أن تبقى تحت سيادة و سيطرة أبنائها الفلسطينيين.
تولى بعض أبناء الأرمن المقدسيين مناصب رفيعة في السلطة الوطنية الفلسطينية، منهم مانويل حساسيان سفير فلسطين في المملكة المتحدة، و الأكاديمي ألبرت آغازاريان الناطق الرسمي باسم الوفد الفلسطيني الى مؤتمر مدريد سنة 1991م.
مكتبة دير القديس يعقوب
تأسست مكتبة الدير سنة 1929م من أموال تبرع بها السيد كالوست كولبنكيان (السيد 5%) و تضم أكبر مجموعة من الوثائق الأرمنية القديمة في العالم، إذ يرجع تاريخ بعضها الى القرون المسيحية الأولى، و تُرجم عدد محدود من الوثائق و المخطوطات العربية الى اللغة الأرمنية في كتابين: الأول، "التاريخ المتسلسل للقدس" للمؤرخ الأرمني هوفانيسيان الذي صدر في القدس سنة 1890؛ و الثاني، "تاريخ القدس" للمؤرخ الأرمني سافلانيان، و صدر في القدس أيضا سنة 1931.
و من بين الوثائق الموجودة في مكتبة دير القديس يعقوب عهدٌ نبوي يروي أن وفداً أرمنياً مؤلفاً من أربعين راهباً توجَّه مع بطريرك الأرمن في القدس أبراهام الى مكة و أظهر شخصيته للنبي العربي و طلب منه أماناً
و حماية لرهبانيات الأرمن و أوقافهم و للحفاظ على أمتيازاتهم و ممتلكاتهم في الأراضي المقدسة، فأعطاه العهد الآتي بعد أن طلب من معاوية بن أبي سفيان كتابته:
"أنا محمد بن عبد الله رسول الله تعالى أعطيتُ هذا العهد الى شعب أبرهام البطريرك و الى المطارنة و الرهبان الأرمن الذين يقيمون في القدس و وهبتُ لهم كنائسهم و دورهم و أوقافهم و أراضيهم." و هذه الوثيقة ممهورة بخاتم الرسول (ص).
و بعد دخول المسلمين القدس قرأ الخليفة عمر بن الخطاب هذا العهد و عمل بموجبه، و ظل الأرمن يتمتعون في ظل الدولة العربية الأسلامية بالحماية الكاملة. ثم لما أسترجع صلاح الدين الأيوبي بيت المقدس، أصدر مرسوماً يعترف به بعهد الرسول الكريم مجدداً. و هكذا أستمرَّ الخلفاء بعد الرسول على هذا العهد في عصور خلفاء الدولة الأموية و بعدها الدولة العباسية و حتى سلاطين أل عثمان الى أن نقضه أحد سلاطينهم في نهاية القرن التاسع عشر و هو السلطان عبد الحميد الثاني.
و في أيام حكم المماليك و مع تواتر القوات الغازية للقدس ولأن الأمور لم تكن دائماً سهلة، أصدر السلطان المملوكي الظاهر أبي سعيد محمد قراراً منقوشاً على حجر على المدخل الرئيس لدير القديس يعقوب يجدد فيه حقوق الأرمن ويختمه بالقول: "ملعون ابن ملعون وعليه لعنة الله تعالى من أحدث ضماناً أو جدد مظلمة."
ومع إنتهاء العهد البيزنطي غادر الكثير من البيزنطيين المدينة، لكن بقي الكثيرون منهم أيضا، لشعورهم بالأمان؛ إلا أن الوجود البيزنطي إنتهى بمرور الزمن، تماما كما انتهى وجود اليونان أو
الرومان في بلاد الشام، أو وجود الحكم العربي. أما الأرمن، فما كانوا هم الحكام حتى يزولوا بزوال الحكم، ولا كانوا قد ارتبطوا بحاكم بيزنطي أو غيره حتى ينتهي وجودهم بانتهاء وجوده؛ وهذا ما يميز تاريخ الأرمن عن تاريخ كل "الأقليات" في القدس، فهو تاريخ لم ينقطع في أي مرحلة من المراحل.
السيراميك أو الخزف في الحي الأرمني في القدس القديمة
836 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع