بقلم احمد فخري
الحياة في حقول البترول الحلقة العشرون والاخيرة (وحلت الكارثة)
باغلب الاحيان يَترُكُ الكتّاب افضل احداث قصصهم حتى النهاية كي تدب الفرحة بقلب القارئ وتترك في صدره السعادة. الا اني لم اتمكن من ان اجعل خاتمتها مسك، لان الرياح تجري بما لا تشتهي السفن. ساترككم مع الاحداث المأساوية لنهاية قصتي مع البترول.
بعد ان تم نقلي الى مدينة ابوظبي باواخر شهر آب من عام 1990 وبشكل رسمي ونهائي. طلبت مني ادارة الشركة استهلاك رصيدي من الاجازات كي ابدأ عملي في البر بحساب نظيف. لذلك كان لزاماً علي أن اءخذ اجازة مدتها 28 يوماً قبل ان ابدأ العمل كمهندس في مختبرات ابوظبي. لذا قررت السفر مع زوجتي الى سنغافورا وقضاء اسبوعين هناك طالما ان اخت زوجتي قد حلت علينا ضيفة في ابوظبي وهذا يعني انها قادرة على رعاية اطفالنا بينما نأخذ اجازتنا انا وزوجتي ونحن مطمئنون على الاولاد.
وبعد ان قضينا 14 يوماً هناك (رحلة العمر كما وصفتها زوجتي) رجعنا ادراجنا الى مدينة ابوظبي لاني اعلم تماماً اني يجب الالتحاق بعملي في المختبر خلال فترة قصيرة. وعندما عدت من سنغافورا، اخذت سيارتي الى الميكانيكي كي يقوم بتبديل الزيت وتهيئتها للعمل بعد سبات طويل والسبب هو مكوثي 4 اسابيع في البحر بالاضافة الى الاسبوعين التي قضيتها بسنغافورا مع زوجتي وكنت بعدها على اهبة الاستعداد لابدأ عملي في المختبر. العاملون بالمختبر جميعهم من الاصدقاء القدامى. فمدير المختبر عراقي الجنسية ويدعى نجيب البغدادي، كانت لي معه زيارات عائلية كثيرة. اما الاخ المهندس كاظم فهو اعزب ورابطة الصداقة التي بيننا لها اواصر متينة لانني ادين له بالفضل بما قدمه لي إذ انه كان السبب في نقلي الى مدينة ابوظبي. لكني في السابق كنت دائماً اذهب الى المختبر كزائر عابر. اما اليوم فانا ساذهب هناك كزميل عمل دائم.
اوقفت سيارتي في مراب الشركة في المكان المخصص لي واستقليت المصعد الى الطابق الأول على ما اذكر وسرت بخطى ثابتة والابتسامة تملأ وجهي وانا اغني (فوگ النخل فوك فوگ) حتى وصلت غرفة سكرتيرة مدير القسم السيد جمال الجزائري (بالمناسبة لقبه ليس الجزائري لكن جنسيته جزائرية). طرقت الباب ثم دخلت واديت التحية اليها فنظرت الي نظرة غريبة ملؤها الحزن وقالت،
- الاستاذ جمال يريد ان يراك حالاً.
- حسناً ساعود كي اتحدث معه فيما بعد. اولاً ساتناول قدحاً من الشاي.
- لا يا استاذ احمد، لقد امرني ان تدخل اليه حالما تحضر الى المختبر.
- حسناً اخبريه اني هنا.
- كلا، ادخل عليه مباشرة فهو ينتظرك منذ فترة طويلة.
- شكراً اختي سافعل ذلك.
طرقت باب جمال فسمعته يقول، "ادخل" دخلت واديت التحية المعتادة فوقف من على كرسيه ونظر الي وقال،
- اجلس يا احمد
جلست على الكرسي وانا اتسائل، ماذا يريد مني يا ترى؟
- تفضل يا جمال، اخبرتني السكرتيرة بانك تريد التحدث معي، فكيف استطيع مساعدتك؟
- احمد اود اعلامك ان الشركة قد انهت خدماتك. قالها بالانكليزية لان عربيته سيئة للغاية
(The company has terminated your employment)
- ماذا؟ ماذا تقول يا جمال؟ اهذه مزحة؟ اكيد انها مزحة، ولماذا تريد شركتنا التخلي عن خدماتي. بالتأكيد هناك خطأ ما يا جمال.
- كلا، ليس هناك أي خطأ. انا آسف جداً، لقد طُلب مني ان ابلغك بهذا القرار؟
- ولماذا تنقلوني من البحر الى البر ثم تنهون خدماتي؟ هل هناك شيء يجب ان اعرفه؟
- كلا، ابداً، الامر بسيط جداً. يجب عليك ان تقدم استقالتك اليوم وفوراً.
- استقالتي؟ استقالتي انا؟ هل جننت يا جمال؟ تطلب مني استقالة؟ ولماذا استقيل؟
- اسمع مني يا احمد، يجب عليك الامتثال لهذا الأمر. فالشركة اتخذت قراراً لا رجعة فيه.
- يا جمال. انا سوف لن اقدم استقالتي لانني لم اقترف اي ذنب بحق عملي، فقد كنت الموظف المثالي خلال السنين العشرة الماضية بامكانك ان تسأل الجميع بذلك.
- يا احمد، إذا لم تقوم بتقديم استقالتك الآن وعلى الفور فإن الشركة ستقوم بانهاء خدماتك بطريقة (الطرد). وهذا يعني انك سوف تخسر مكافأة انهاء الخدمة (الاكرامية) والتي تصل الى مبلغ كبير جداً. واعلم انك بكل الاحوال خارجاً من الشركة. لذلك الافضل لك ان تقدم استقالتك الآن وتخرج بالمكافأة بدل من الخروج صفر اليدين.
- دعني اسألك سؤالاً واحداً فقط. ما هو سبب الرغبة الجامحة في اقالتي عن وظيفتي؟
- لا اعلم، ولم يخبروني باي شيء. لذلك ارجوك اذهب الآن الى سكرتيرتي وحرر ورقة استقالتك.
هنا بدأت الافكار والمشاعر تتضارب في رأسي. ماذا أعمل؟ هل اقوم بمواجهتهم وارفض ما يطلبون؟ واذا عملت ذلك فعلاً فهل ساتمكن من اقناعهم بالعدول عن رأيهم؟ ام اقدم الاستقالة المزعومة وامري الى الله. فمكافئة انهاء الخدمة تصل الى ما يزيد عن 15 راتباً شهرياً. هل اجازف بهذا المبلغ في سبيل اثبات برائتي؟ وما هي التهمة كي اثبت برائتي؟ هل سينصفوني ويكافئوني بعد ان يقتنعون ببرائتي ام انهم سيرمون بي في الشارع؟
وقتها علمت ان التحاور مع هؤلاء الناس امراً مستحيلاً لانهم سبق وان اتخذوا قرار التخلي عني ونفذوه حال عودتي للعمل. لذا وبعد حوار طويل بيني وبين نفسي قررت ان انصاع لما طلبوا واكتب رسالة الاستقالة بكلمتين فقط (انا استقيل)
كتبتها وسلمتها للسكرتيرة. فقامت بطباعتها وقدمتها الى جمال. فخرج علي مسرعاً وقال،
- كلا هذا مرفوض تماماً. يجب عليك ان تكتب على الاقل سطراً واحداً.
- وماذا تريدني ان اكتب يا جمال (انكم اجبرتموني على الاستقالة)؟
- اكتب مثلاً، (بناءاً على بعض الامور الشخصية والعائلية فقد قررت التخلي عن عملي)
- حسنا، مسكت ورقة فارغة وكتبت فيها، (بناءاً على بعض الامور الشخصية والعائلية فقد قررت التخلي عن عملي)
- هذا جيد. دعني اوقعها وتأخذ نسخة اصلية منها.
سلمني النسخة الاصلية وقال،
- الآن يجب عليك ان تذهب الى مكتب مدير العلاقات العامة السيد احمد ربيع زادة. هل تعرفه؟
- نعم اعرفه، اليس هو ذلك الايراني الذي حصل على جنسية الامارات.
- نعم هو ذاك بعينه. اذهب اليه فوراً.
خرجت من مكتب جمال وتوجهت مباشرة الى البناية الرئيسية للشركة واخذت المصعد الى الطابق الذي فيه مكتب المدير العام الياباني الجنسية. دخلت على سكرتيرته واخبرتها باني اريد مقابلة المدير العام وقمت باعطائها اسمي الكامل. دخَلَتْ عليه واخبرته فامر بان تدخلني الى مكتبه على الفور. حييته بكل ادب فرد علي بكل ادب وقلت له:
- هل سمعت بما حل بي يا سيدي؟
- نعم سمعت وانا جداً حزين وآسف لذلك.
- اود ان اعرف فقط ما هو ذنبي؟ هل عملت شيئاً يخالف انظمة الشركة؟ هل اخليت باحدى قواعد السلامة او انظمة الادارة؟
- كلا، ابداً، ملفك نظيف وخالي من كل المخالفات والعقوبات.
- لكنك يا سيدي المدير العام وبيدك كل شيء فلماذا لا تلغي هذا الامر؟
- صدقني يا استاذ فخري الامر ليس بيدي. لو كان بيدي لما رضيت على هذا الامر.
- إذاً هو بيد من؟ من الذي قرر فصلي من الشركة؟ ولماذا اردتم استقالتي بدلاً من ان تطردوني باسباب شخصية؟
- راعينا الظروف الانسانية، وكان همنا ان تحصل على مكافأة انهاء الخدمة.
- على العموم، يبدو أن لا احد له اي سيطرة على مجريات هذه القضية.
- هذا صحيح ومع كل الاسف.
شكرت الرجل على حسن استقباله لي وخرجت من مكتبه كما دخلته خالي الوفاض. توجهت بعد ذلك الى مكتب مدير العلاقات العامة الايراني الاصل أحمد ربيع زادة ونقرت الباب فسمعته يقول بالانكليزية (ادخل). دخلت فوجدت مكتباً اكبر واوسع من مكتب المدير العام وفارهاً يصلح لأن يكون مكتب لرئيس الوزراء. يجلس رجل خلف ذلك المكتب الفره في نهاية الاربعينيات من عمره، ليس له رقبة، رأسه غارق بعقال عربي بامكانك ان تعرف انه لا يليق به. حييته بالعربية وقلت له،
- السلام عليكم استاذ أحمد.
فاجابني بالانجليزية وقال،
- ارجوك تحدث معي بالانجليزية فانا لا اجيد العربية.
- انا اسمي احمد فخري وقد طلب مني الاستاذ جمال مقابلتك.
- نعم، نعم انا طلبت منه ان يخبرك بان تأتي لمقابلتي باسرع وقت. اريد منك ان تسلمني جواز سفرك وجواز سفر زوجتك.
- ولماذا تريد جوازاتنا؟
- لانك حالياً على كفالة شركتنا زادكو، لذلك، نحن سنقوم باسقاط الكفالة عنك وذلك يتطلب ان تكون لدينا جوازات سفركم.
- وكم من المدة لدي؟
- سنمنحك 72 ساعة.
- ماذا؟ هل جننت يا احمد ربيع؟ كيف تطلب مني مغادرة بلد عشت فيه عشر سنين خلال ثلاثة ايام. هل انا مجرم او ارهابي؟ إن لدي الكثير من الامور العالقة التي يجب ان انهيها. ثلاثة ايام لا تكفي بتاتاً. يجب ان تعطيني شهراً او شهرين على الاقل.
- انها ثلاثة ايام فقط والامر ليس بيدي، فالسلطات هي التي وضعت هذا الشرط. لذا انصحك بان تذهب الى دارك الآن وتأتي لي بجواز سفرك وجواز سفر عائلتك.
- انا لم استلم مكافئة انهاء الخدمة بعد. وعلي ان ابيع سيارتي واثاث منزلي وان احصل على وثائق نقل من مدرسة ابنتي والمزيد من الامور العالقة.
- اما بخصوص مكافئة انهاء الخدمة فسوف تستلمها بالكامل حالما تسلمني جوازات السفر. والباقي بامكانك ان تنجزه في خلال يوم واحد او يومين على الاكثر.
- حسناً ساقوم بذلك. سأتي لك بالجوازات غداً.
- حسناً، ساكون بانتظارك.
- رجعت الى بيتي وانا لا اكاد اصدق ما قد حصل. ففي الصباح الباكر كنت سعيداً ومتفائلاً بوظيفتي الجديدة. والآن هذا الخبر اشبه بمطرقة وزنها طن كامل نزلت فوق رأسي. ايعقل يا ناس؟ شخص عمل ببلد ما لمدة عشر سنوات وبعد ذلك يمنحوه فرصة ثلاثة ايام كي يغادر منه مغادرة نهائية. الا يعلمون ان بلدي مقدم على حرب عالمية وان نصف الكرة الارضية قامت بارسال جيوشها كي يقتحموا بلدي، وهم يرسلونني الى هناك مع عائلتي؟ ايعقل هذا؟
- فتحت باب الدار ودخلت على اولادي فاستقبلوني بالقبل والترحيب. ذهبت مباشرة الى المطبخ حيث كانت زوجتي تعد الطعام فنظرت الي باستغراب وقالت،
- ما الذي اتى بك مبكراً هكذا؟ ألا ينتهي العمل في الشركة الساعة الثانية ضهراً؟ والآن لم تبلغ الواحدة بعد. فما الذي جاء بك؟
- لقد حلت بنا كارثة كبيرة يا زوجتي، لقد دمرونا.
- ماذا؟ اتمزح معي كعادتك يا احمد؟ ماذا بك؟
- انا لا امزح ابداً. لقد (فنشوني) أي تخلوا عن خدماتي في الشركة.
سقط غطاء القدر من يد زوجتي الى الارض وجائت بقربي وقالت،
- ما هذا الذي تقوله يا احمد؟ ارجوك اخبرني الحقيقة!
بدأت اسرد لها كل الذي مر بي من اللحظة التي أجبرني فيها مديري بالاستقالة وصولاً بما دار بيني وبين المدير العام الياباني وبين احمد ربيع زادة رئيس قسم العلاقات العامة. جهشت زوجتي بالبكاء بصوت عالٍ ثم نظرت الي وقالت،
- ماذا سنفعل؟ وأين سنذهب؟ والعراق على وشك ان يمحى من الخارطة. هل لديك فكرة؟
- هناك حل واحد بامكاني ان احاول فعله، وهو ان اتصل بالشيخ سعود كي يسحبني الى امارة رأس الخيمة وننتقل واعمل هناك.
لمن لا يعرف الشيخ سعود فهو الابن الاكبر للشيخ صقر القاسمي حاكم رأس الخيمة. وقد كانت لي معه علاقة صداقة وثيقة جداً وقبل شهرين طلب مني ان اترك عملي في شركة زادكو للبترول واعمل عنده في معمله (معمل جلفار للصناعات الدوائية) لانني كنت اعمل لديه بشكل مؤقت كمستشار. لكني رفضت عرضه وقتها واخبرته ان المرتب الشهري الذي يعرضه علي اقل بكثير من مرتبي في شركة زادكو للبترول. وكذلك للعلم فإن الشيخ سعود بن صقر القاسمي قد اصبح الآن حاكماً لامارة الشارقة بعد وفاة والده الشيخ صقر القاسمي رحمه الله عام 2003.
رفعت السماعة وطلبت رقم هاتف الشيخ الشخصي فرد علي بنفسه وقال،
- كيف حالك يا باش مهندس، توحشناك يا رجل متى ستأتي لزيارتنا.
الشيخ سعود بن صقر القاسمي حاكم امارة رأس الخيمة
- يا طويل العمر لقد حلت بي كارثة كبيرة.
- يا ساتر يا ربي، اخبرني ما هي الكارثة؟
هنا قصصت عليه كل ما حل بي بالشركة والمهلة القاسية التي منحوني اياها وعن رغبتي بقبول عرضه للعمل في مصنع جلفار برأس الخيمة فقال.
- اسمعني يا احمد، ساقوم باتصالاتي فوراً وسارد عليك الخبر مباشرة، مفهوم؟
- نعم مفهوم يا طويل العمر.
بقيت بالقرب من الهاتف لما يقرب من 3 ساعات حتى رن الهاتف فرفعته وقلت،
- الو
- يا باش مهندس، لقد قمت باتصالات كثيرة مع حكومة ابوظبي والنتيجة هي كالتالي: اولاً لا يسمح لي اعادة توظيفك في مصنعنا (جلفار). وهذه امور تتدخل فيها الدولة وليس لي فيها أي سلطان. اما ما استطيع فعله لك بعد ان وضعت كل ثقلي خلفه هو تمديد المهلة التي منحوك اياها من 3 ايام الى اسبوعين.
- هذا لطف منك يا طويل العمر اشكرك الشكر الجزيل فهي مدة تمكنني من التصرف باموري الشخصية والبحث عن بلد يقبل ان يأويني ويمنحني سمة دخول (ڨيزة).
اغلقت الهاتف معه وانا انظر بوجه زوجتي القلقة وعيناها تحتوي على مليون سؤال وسؤال قلت لها،
- ابشري، فقد اتصل الشيخ سعود بسلطات ابوظبي وقد تمكن من ان يمدد لنا المهلة لمغادرة الدولة من 3 ايام الى 14 يوماً.
- تصورت ان لديه سلطة اكبر من ذلك ولكن الحمد لله على كل حال. يجب علينا التحرك بسرعة الآن.
باليوم التالي ذهبت الى شركتي زادكو ودخلت على احمد ربيع زادة وقلت له،
- لقد وافقت الدولة على منحي 14 يوماً كمهلة بدل الـ 3 ايام التي اقترحتها انت.
- أنا ساتأكد من ذلك.
رفع سماعته واتصل بعدة جهات وبعد ان تأكد ان كلامي كان صدقاً، نظر الي وقال،
- وماذا تريد مني الآن؟
- اريد منك ان تزودني بشهادة من الشركة تثبت باني لا ازال على رأس عملي كي اقدمها للسفارات التي ساقوم بطلب ڨيزة منها، فكما تعلم ان من دون هذه الشهادة، ليس هناك دولة مستعدة ان تعطيني ڨيزة للذهاب الى بلدها.
- هذا امر بسيط جداً. رفع السماعة وطلب من سكرتيرته ان تعد لي شهادة عمل وقال لي،
- عليك تسليمنا جوازات سفركم حالما تتمكن من الحصول على ڨيزة من احدى الدول مفهوم؟
- حسناً.
خرجت من مكتبه وانا اشعر بشعور افضل بكثير من الامس لان بوادر حلحلة مشكلتي صارت بالافق.
رجعت الى البيت واخبرت زوجتي بما حصل واتفقنا على ان نقوم بعدة امور بآن واحد حفاظاً على الوقت الذي سيداهمنا عاجلاً ام آجلاً وسيصبح ثميناً للغاية. فالمهلة التي قدرها 14 يوماً ما تلبث ان تنتهي بسرعة البرق.
1- علينا الحصول على شهادة نقل لابنتي تارا من مدرستها.
2- علينا بيع اثاث منزلنا الذي اشتريناه قبل عام واحد فقط بمبلغ 32 الف درهم اي ما يقارب 9000 دولار
3- علينا بيع الكهربائيات المنزلية الكبيرة كالغسالة والثلاجة وما شابه كلها اقتُنيتْ قبل عام واحد ايضاً.
4- عليّ بيع سيارتي الهوندا اكورد والتي اشتريتها بعامها (بالباكيت) قبل 3 اعوام فقط.
5- علينا تسفير اخت زوجتي الى العراق.
6- علينا محاولة الحصول على اكبر عدد ممكن من سمات الدخول ڨيزة من اكثر من دولة كي يكون لدينا خيارات اكبر.
في اليوم التالي انطلقت الى مدرسة ابنتي (مدرسة المنارة) وتحدثت مع مديرة المدرسة فاخبرتها بما حصل معي فوجدتها متعاطفة تماماً وكانت الدموع تنهمر من عينيها وعندما دخلن علينا المزيد من المدرسات حكت لهم المديرة ما حصل فشاركنها بالبكاء ودعون لنا بالتوفيق. وبعد نصف ساعة سلمتني السيدة مديرة المدرسة شهادة نقل لابنتي تارا وتمنت لنا التوفيق باي بلد نحط رحالنا فيه.
بعد المدرسة توجهت الى السفارة البريطانية وقمت بملئ استمارة تأشيرة زيارة الى بريطانيا. لكني عندما سلمتها لموظف القنصلية. نظر اليها وقال، انا آسف فنحن قد توقفنا عن منح سمات الزيارة لحملة الجوازات العراقية. شكرته وواصلت طريقي الى السفارة الفرنسية. لكن السيناريو تكرر مجدداً هناك في رفض منحنا سمة الدخول لفرنسا. فرجعت للدار خائباً حزيناً. عند عودتي وجدت زوجتي تتحدث مع احد سماسرة الآثاث المنزلي، فاخبرتها باني ساكمل الحديث معه. سألته إن اراد اعطائنا مبلغاً واحداً لكل محتويات المنزل فماذ يقترح؟ نظر يميناً ثم شمالاً ثم هز برأسه (لانه هندي) ثم قال،
- 8000 درهم.
- ماذا؟ اتعرف كم دفعت بهذا الاثاث الجديد قبل اقل من عام؟ لقد دفعت 32 الفاً وانت تعطيني 8 فقط؟
- سيدي انت قلتها. عندما اشتريت اثاثك كان جديداً، والآن هو مستعمل لذلك فإن عرضي هو الافضل.
- كلا ابداً هذا مستحيل. سوف لن ابيعك الاثاث بهذا الثمن البخس.
- هذا شأنك يا سيدي، لكني أاكد لك، انك لن تجد عرضاً افضل من هذا.
- آسف. لن ابيعك الاثاث.
خرج من بيتي فجائت زوجتي وعاتبتني قائلة،
- لماذا لم تبعه الاثاث؟ حتى لو كان 8000 درهم فربما لن نجد من يشتريه بهذا الثمن فيما بعد.
- افضل حرقه على ان ابيعه هكذا. تذكري ما زال امامنا وقت.
باليوم التالي وبينما انا واقف بباب العمارة قابلني جاري البريطاني الجنسية والذي يسكن في الطابق الثالث وسألني عن حالي فقصصت عليه ما حل بي من مصيبة، فلاحظت انه تأثر كثيراً. وفي المساء سمعنا جرس الباب يدق باصرار فتوقعناها عائلة اختي. لكننا عندما فتحنا الباب وجدنا زوجة جاري البريطاني وهي تمسح دموعها وتقول لزوجتي،
- لقد سمعت من زوجي ما حل بكم. وقد تأثرنا كثيراً.
- هذا صحيح فقد طردوا زوجي من عمله وطلبوا منا مغادرة البلاد خلال 3 ايام لكن زوجي اتصل ببعض معارفه الشيوخ فمددوها لنا الى 14 يوماً.
- لقد جئت لكم بمفتاح بيتنا في بريطانيا، بامكانكم ان تجلسوا فيه كما تشائون مجاناً. فنحن لا نذهب اليه الا مرة واحدة كل سنتين.
- هنا انهالت زوجتي بالبكاء وجائت لتقص علي عرض جارتنا.
خرجت اليها وشكرتها بامتنان كبير وقلت لها،
- سيدتي، ان مشكلتنا ليست في المنزل بل في الدول التي تمنحنا سمة الدخول وبريطانيا اول من رفض لنا سمة الدخول. نحن نشكرك من كل قلوبنا ونتمنى لكم كل ما تصبون اليه فهذا اجمل عرض تلقيناه منذ فترة طويلة.
- لكن عرضي سيبقى قائماً إذا غيرتم رأيكم وقررتم الذهاب لبريطانيا.
- نحن نشكركم من صميم قلوبنا سيدتي.
بعد ان ودعت تلك السيدة الرائعة وموقفها الانساني الجميل، قررت ان اتصل بزملائي بالبحر كي اجد من يعزيني بمحنتي ويتعاطف معي. فقمت برفع سماعة الهاتف وطلبت رقم البارجة السكنية فرد علي ذو الفقار عامل البدالة التلفونية (باكستاني). حالما سمع صوتي صار يحييني بحرارة ويخبرني كم هو مشتاق لسماع صوتي. طلبت منه ان يوصلني بمكتب العلاقات العامة فدق الهاتف قليلاً ثم اجاب موهان وهو موظف هندي يجلس بجانب صديقي المقرب محمد بلعيد الجزائري. حييته وقلت له،
- ارجوك يا موهان أوصلني بمحمد بلعيد
- محمد غير موجود بمكتبه.
- إذاً اوصلني بالسيد مدير الموقع.
- هو ايضاً غير موجود.
- الا اوصلتني بالطبيب محمد دروي إذاً؟
- هو ايضاً غير موجود.
- ماذا دهاهم؟ لماذا قرروا جميعاً ان يغادروا مواقعهم؟
- اسمع يا سيد احمد، انت لديك مشكلة مع الدولة، واي شخص يتكلم معك قد يجلب لنفسه المشاكل. لذا فانا انصحك ان لا تطلبنا بالبارجة ثانية لانك سوف لن تجد من يجيب على مكالماتك.
- شكراً لك يا موهان لقد فهمت، انا فعلاً اصبحت مصدر مشاكل للجميع، تحياتي.
ارجعت السماعة الى مكانها وصرت افكر بزملائي الذين عاشرتهم سنين طويلة ودرّستهم وخدمتهم بكثير من الامور. وها هم اليوم يوفون الدين بان يديرون ضهورهم نحوي.
في اليوم التالي خرجت الى سفارة كندا املاً بڨيزة الا انهم كرروا نفس الموال الذي اخبروني به في السفارة البريطانية. لكن ذلك لم يثنيني عن عزمي لذلك توجهت الى السفارة الالمانية لكن حظي هناك لم يكن افضل من سابقاتها. بعد ذلك ذهبت الى سفارة البرازيل فجابهني نفس المصير.
في هذه الاثناء اعلنت سيارتي للبيع في الجرائد المحلية وانتضرت كي يأتي مشتري ويأخذها مني على عجل، إذ وضعت سعراً يبلغ 50% من سعرها الاصلي اي 17000 درهم وسلمت امري الى الله.
كلما قربت مدة انتهاء المهلة كلما توالت علي السفارات بالرفض لمنحي الڨيزة واصبحت اصاب بخيبة الامل يوماً بعد يوم. وفي احدى الايام قام بزيارتي نسيبي محمد مع اختي واولادهم. وكانت الڨيزة هي حديثنا الاكثر تداولاً حتى سألني نسيبي محمد،
- كم من سفارة زرت لحد الآن يا احمد؟
- احد عشر سفارة، وكلهم رفضوا منحي الڨيزة
- هل جربت السفارة التونسية؟
- وهل ستختلف تونس عن قريناتها؟ فهم ايضاً سيرفضون كما رفضت 11 سفارة.
- لماذا لا تحاول معهم؟
- واين تقع تونس؟ كل ما اعرفه عنها انها في شمال افريقيا واعرف ان رئيسها يدعى بن علي لكني لا اعرف عنها اي شيئ اكثر من ذلك.
- اسمع يا احمد. تونس بلد جميل جداً ويطلق عليها تونس الخضراء من كثر جمالها فقد سكنت فيها عدة سنين وفيها شعب مضياف وجو جميل جداً ووو.
- كل هذا لا يهم بالوقت الحاضر. ما يهمني هو ان اجد موطئ قدم لي ولعائلتي، ففي بضع ايام سنجد انفسنا على قارعة الطريق، ثم ان تونس ترفض منح الڨيزة للعراقيين منذ امد بعيد. فهل تعتقد اثر الظروف الراهنة سيمنحوني انا الـڨيزة؟
- لا تكن متشائماً يا احمد. وماذا ستخسر لو انك قمت بطلب الڨيزة منهم ؟ من يدري؟ ربما سيمنحونك اياها أنت وعائلتك!
- حسناً ساقوم بزيارتهم غداً.
في اليوم التالي اتصلت بالهاتف على السفارة التونسية فقاموا باعطائي عنوانهم، فذهبت هناك وانا لا احمل في صدري اكثر من 1% من الامل. دخلت السفارة فوجدت سيدة فائقة الجمال في عقدها الثالث تجلس وراء مكتب صغير متواضع، حيتني بكل ادب وسألتني،
- كيف استطيع ان اخدمك يا سيدي؟
- اريد ڨيزة زيارة الى تونس، لي ولعائلتي.
- مرحبا بكم بتونس سيدي، أي جواز تحمل؟
آه هنا بيت القصيد، وصلنا الى السؤال المحرج. لكني يجب ان اجيبها واتوكل على الله، قلت لها،
- جواز عراقي.
- مرحبا بيك وبالعراقيين كلكم اولاد صدام البطل.
- هل هذا يعني انكم ستمنحوني الڨيزة؟
- ولما لا؟ هل هناك ما يمنع ذلك؟
- كلا ابداً انا فقط اتسائل.
- بامكانك العودة بعد يومين وستكون الڨيزة جاهزة.
- شـ شـ شـ شكراً سيدتي.
خرجت من السفارة وانا لا اصدق ما حدث معي. لقد وافقت ان تمنحني الڨيزة، ولكن ربما سوف لن يوافقها القنصل على منح الڨيزة لعائلة عراقية. فهي موظفة استقبال صغيرة فحسب وقد يأتي الرفض فيما بعد.
رجعت مسرعاً الى البيت وانا احمل مشاعر متضاربة ما بين التفائل والتشائم. بعد ان اخبرت اسرتي بما جرى، لم يكونوا مهتمين كثيراً لانهم كانوا يصابون بخيبة امل كلما عدت لهم برفض من احدى السفارات الاحدى عشر الاولى.
باليوم التالي زارني احد الاصدقاء ويدعى ابو علي وهو من الطائفة الشيعية فقال لي اسمع يا احمد خذ هذا الخاتم وارتديه اثناء ذهابك للسفارة التونسية، ثق انهم سوف لن يردوك خائباً لان هذا الخاتم مجرب وقد اشتريته بمبلغ كبير جداً. فقبلته منه لكني لم اكن أامن بما قال، فقط اردت ان اجامله.
باليوم التالي خرجت الى السفارة التونسية وانا اشعر بالاسهال بمعدتي. فتونس اصبحت الامل الاخير لي والا فلربما سنتجه بآخر المطاف الى الصومال او بركينا فاسو. دخلت السفارة ووجدت ذلك الوجه الجميل، فتبسمت عندما رأتني وقالت،
- تفضل يا سيدي
- لقد جئتك قبل يومين وملأت طلب الـ...
فقاطعتني وقالت،
- انت العراقي اليس كذلك؟
- نعم، هل وافقتم على طلب الڨيزة؟
- طبعاً وافقنا، ولماذا لا نوافق؟ فانت على الرحب والسعة. بلادنا هي بلادكم سيدي.
- لقد اخجلتيني سيدتي.
فتحت الجرار بجانبها واخرجت جوازاتنا وقالت،
- إن الڨيزة مجانية لكم سيدي فكلنا نحبكم ونحب صدام العرب.
- شكراً سيدتي.
حالما استلمت الجوازات فتحتها كي اتأكد من الڨيزة فوجدتها مختومة واصولية. نظرت اليها والابتسامة تملأ وجهي وقلت لها،
- اشكرك يا اختي، ساكون جداً سعيد بزيارة بلدكم تونس، تونس الخضراء.
رجعت الى البيت وانا لا اصدق ما جرى. لقد حصلنا على ڨيزة اخيـــــــــــــــراً لبلد يعرفه نسيبي خير المعرفة وقد عاش به سنين طويلة. في ذلك المساء جائت عائلة اختي لزيارتنا كالعادة لانهم صاروا يزورونا كل يوم منذ ان حلت بنا (النكبة). وبعد ان جلسوا وبدأنا الحديث، قلت لهم،
- لدي خبر سار جداً اود ان اقوله لكم
فاجاب نسيبي بدون تردد،
- لقد منحوك التوانسة سمة الدخول، اليس كذلك؟
- وكيف عرفت يا محمد؟
- انا اعرف هذا الشعب المضياف الرائع.
هنا سألته من باب المعرفة بالشيئ.
- اخبرني يا محمد، متى آخر مرة زرت فيها تونس؟
- لم ازورها منذ أن غادرتها عام 1957
- وكم كان عمرك وقتها؟
- ثمان سنوات.
- ماذا؟ احقاً ما تقول؟ انت اخبرتني عن بلد سكنت فيه في طفولتك؟ الم يتغير منذ ذلك الحين؟
- كل شيئ بامكانه ان يتغير الا تونس والتوانسة. فهم شعب عظيم رائع. لا تخف يا احمد ستكون سعيداً هناك، صدقني.
- إن شاء الله. هذا ما نتأمله ونصبوا اليه.
باليوم التالي خرجت كي اجد حلاً لسيارتي فالاعلان لم يأتي بنتيجة ولم يتصل بي اي مشتري. لذلك ذهبت الى مزاد السيارات والذي يدعى باللهجة الدارجة (الحراج) وحالما وصلت هناك تكالب علي تجار السيارات وداروا حول سيارتي كما يدور النحل حول خليته. هنا دق احدهم على زجاج نافذتي ففتحت النافذة وسمعته يقول 3000 درهم.
ضحكت ضحكة عالية وقلت له،
- هل جننت يا رجل؟ انها موديل 1987 اي ان عمرها 3 سنوات فقط وقد اشتريتها بـ 34 الفاً.
- انت في الحراج يا اخي وسوف لن تجد اي عرض افضل من هذا.
هنا اغلقت شباك السيارة ورجعت ادراجي للمنزل. عرفت وقتها لماذا يسمون هؤلاء التجار بالهوامير.
في اليوم التالي وانا استعد للخروج الى وكالة السفريات كي احجز لضيفتنا كي تعود الى العراق، رن جرس الهاتف فاستجبت له ورفعت السماعة وسمعت صوتاً يقول،
- أانت احمد فخري؟
- نعم انا هو من الطالب؟
- معاك المخابرات العامة.
- تفضل اخي، بماذا استطيع ان اخدمك؟
- نريد ان نعرف، متى ستغادرون الامارات؟
- ولماذا انتم مستعجلون كي تتخلصوا مني لهذا القدر؟ هل يزعجك اني عراقي ام لاني خدمتكم لمدة 10 سنوات ام لاني لا اتملق لكم كما يفعل بعض العرب الآخرون؟
- ومن قال لك ذلك؟ انت مهندس ممتاز وبشهادة الكثير من مدرائك واقرانك. لكننا نريدك ان تغادر الآن.
- لكن لماذا؟ ما الضرر في ان ابقى بالامارات وابحث عن عمل آخر؟
- الموضوع ليس مفتوح للنقاش. يجب عليك المغادرة وعدم العودة الينا، مفهوم؟.
- سنغادر قبل ان تنتهي المهلة التي حددت لنا اطمئن.
- ومتى ستغادر ضيفتكم؟
- انا اليوم في صدد شراء تذكرة العودة لها، فهي لن تبقى عالة عليكم.
- إذاً نريد منك الاستعجال في ذلك.
- حسناً كما تشاؤون.
واغلقت سماعة الهاتف. ذهبت الى غرفة النوم حيث كانت زوجتي واخبرتها بالمكالمة التي وردتني. لكنها لم تعلق بشيء. حالما وصلت الى مكتب الخطوط الاردنية عاليه سألتهم عن الرحلات فاخبروني أن الرحلة القادمة الى عمان هي يوم الخميس القادم اي بعد يومين. فقمت بحجز تذكرة لاخت زوجتي وخرجت ثم قمت بقضاء بعض الامور ورجعت للبيت لكني فوجئت باناس اغراب من الجنسية الهندية كانوا يدورون ببيتي. فسألت زوجتي عنهم قالت انهم جائوا لمعاينة اغراض البيت لاني قمت بوضع اسعار فوق كل شيء بالبيت. وبعد ان عاينوا كل شيء خرجوا ولم يشتروا شيئاً، سالتهم زوجتى فقالوا كل شيء غالي الثمن. اخبرتهم زوجتي ان كل الاسعار هي عُشر سعرها الاصلي لكنهم لم يقتنعوا بما قالت. وتكرر هذا السيناريو عدة مرات بذلك اليوم.
بالايام التالية صار كثيراً من الناس يأتون الى البيت ويتنقلون من غرفة لاخرى ولا يشترون اي شيء. بالنهاية وعندما قرب موعد انتهاء المهلة قررت ان اقبل عرض سمسار الاثاث المنزلي الذي عرض علينا 8000 درهم. لكنه عندما اتى الى الدار قال
- انا اعرض عليكم 5000 درهم
فاجبته
- لكنك عرضت علينا 8000 درهم قبل بضعة ايام
- نعم لكنك لم تقبل بعرضي وقتها، والآن تريدني ان اعطيك نفس المبلغ؟
شعرت وكأنني اريد ان اطعن ذلك السمسار الخسيس باطول سكين بالمطبخ، الا اني اخترت منطق العقل بدلاً من ذلك وقلت له.
- حسناً اعطني المبلغ، لكنك ستترك لنا الاسرة ليومين آخرين كي ننام عليها.
- بالتأكيد، انا عندي قلب.
خرج بعد ان امر رجاله باخذ كل شيء حتى لعب الاطفال والتي من ضمنها دراجتين جديدتين اشتريتهما لاولادي التوأم بضعة ايام فقط قبل أن تحل بنا النكبة. بقي اولادي يبكون على دراجاتهم وانا انظر اليهم وقلبي يتقطع من الألم.
باليوم التالي ذهبت الى مدير العلاقات العامة بالشركة واخبرته بمجريات مهمة مغادرة البلاد فاخبرني انه سوف لن يضع مكافأة انهاء الخدمة في حسابي بالبنك قبل ان اسلم الشقة لهم واعطيه جوازات السفر. فسألته،
- واين سننام بذلك الوقت؟
- لا تقلق، سوف نحجز لك بفندق درجة اولى لآخر يومين في الامارات.
- حسناً. ليس لدي أي خيار.
رجعت الى البيت وانا افكر بالسيارة فلحد الآن لم اجد لها أي مشتري. وفي مساء ذلك اليوم جائت اختي الينا وسألتني عن السيارة فاخبرتها بما حصل معي في مزاد السيارات (الحراج) والذي عرضو لي فيه 3000 درهم. فقالت بانها ستشتري مني السيارة لابنها اسامة والذي يحتاج الى سيارة. وقالت بامكاني ان احدد السعر الذي يناسبني وهي التي ستوافق دون ادنى نقاش. فسألتها،
- اتوافقين على 13000 درهم؟
- بالتأكيد، ساحضر لك المبلغ غداً.
- لكننا يا اختي لم نتمكن من بيع بعض الكهربائيات بعد، مثل الغسالة والطباخ فماذا نعمل؟
- اتركها عندي في بيتي وسأحاول بيعها لكم وسوف ابعث لكم المال الى تونس لا تقلقوا.
- هكذا نكون قد انتهينا من كل شيء ولم يبقى سوى تسقيط اقاماتنا والانتقال الى الفندق.
بعد ان سافرت ضيفتنا باليوم التالي، ذهبت الى احمد ربيع زادة مسؤول العلاقات العامة بالشركة وسلمته الجوازات. وقتها قال سوف يلقاكم الاخ مسؤول العلاقات العامة السيد هزاع (اردني) وسوف يسلمكم جوازاتكم في المطار. أما مكافئة انهاء الخدمة ستكون بحسابك المصرفي اليوم.
- ولماذا يأتي معنا هزاع؟ هل تخافون مثلاً ان اغير رأيي وان لا اسافر؟
- كلا ولكن هذه هي الاجرائات المتبعة.
باليوم التالي انتقلنا الى الفندق وكان صديقي ابو علي اول من زارنا هناك تبعته عائلة اختي. كان الجو حزيناً لاننا كنا نشعر كما شعر اخواننا اليهود عندما اسقطت عنهم الجنسية العراقية ايام الفرهود. ولم نكن نختلف عنهم فقد تفرهدنا من قبل جمال الجزائري واحمد ربيع زادة وسمسار الاثاث وهوامير السيارات وغيرهم.
بيوم السفر استيقضنا مبكراً وكنا على اهبة الاستعداد كي نغادر البلد الذي لفضنا كما تُلفض القاذورات. وتوجهنا الى المطار، هناك قابلنا هزاع وقد كان متعاطفاً معنا كثيراً وقد اخبرني ان وجوده في المطار ما كان روتينياً ابداً. الا ان احمد ربيع زادة اصر ان يدخل معنا الى صالة المغادرة ويتأكد بنفسه اننا غادرنا.
لكنه لم يفعل ما طلب منه رئيسه بل سلمني الجوازات ووقف بعيداً يشير الي من وراء الزجاج يودعني والدموع تنهال من عينيه. وبداخل صالة المغادرة قابلني احد مدراء الشركة تونسي الجنسية وقد سبق لي ان تحدثت معه. وهو ايضاً في طريقه الى تونس لقضاء اجازة الصيف. اخبرته بما وقع لي من الالف للياء فقال لي،
- ان ما وقع لكم هو الافضل صدقني. سوف ترتاحون بتونس فهي افضل بمئة مرة من هنا.
وعندما جلسنا بكراسي الطائرة انتابني احساس رائع فعلاً لاننا في طريقنا الى الحرية. اقلعت بنا الطائرة فعرفنا وقتها اننا نغادر الامارات للمرة الاخيرة دون عودة.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
https://algardenia.com/maqalat/35417-2018-05-13-17-22-03.html
4764 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع