بقلم أحمد فخري
قصة قصيرة / قلوب تدق فوق السحاب
نظر سيف الى يمينه فتمنى ان يبقى ذلك الكرسي بجانبه خالياً ثم عاد ونظر الى سيل الرُكّاب الذين يمرون من جانبه متجهين نحو مؤخرة الطائرة. بعد قليل وجد سيدة بدينة بافراط محملة بالكثير من الحقائب ومتجهة نحوه فقال، "ها قد جائك من سيضايقك حتى آخر الرحلة". الا انها لم تتوقف عند كرسيه بل واصلت سيرها نحو الكراسي الخلفية. توقف سيل الركاب قليلاً فاستبشر صاحبنا خيراً وقال، "ربما انتهى صعود الركاب الى الطائرة وسيبقى الكرسي الذي على يميني فارغاً". لكنه ما كاد ينهي خاطرته حتى اقبل من بعيد رجلاً قصير القامة يرتدي بذلة بنية الا انها تبدوا رثة وقذرة، وكما كانت توقعاته، توقف هذا الراكب امامه بالممر وقال بصوت مرتفع فض لا يدل على ادنى معاني الاخلاق الحميدة،
- انت تجلس في مكاني، قم وغير مكانك.
- هذا غير صحيح فانا اجلس بالمقعد 42 D وهو المقعد المسجل على بطاقتي. فاين بطاقتك؟
- ها هي بطاقتي وستجد ان الكرسي قد حجز لي وليس لك.
- كتب على بطاقتك رقم 42 E مما يعني انك ستجلس على الكرسي الذي الى يميني.
- لكني اريد ان اجلس على حافة الممر، لاني مريض وساحتاج الذهاب الى دورة المياه كثيراً. وقد طلبت من الموظفة الارضية ان تمنحني الكرسي الذي على حافة الممر.
- هذه ليست مشكلة، بامكانك ان تطلب مني بأدب، فتأخذ مقعدي وسانتقل انا الى مقعدك.
جمع سيف حاجياته وانتقل الى الكرسي الذي بجانبه تاركاً كرسيه للراكب الجديد من باب الانسانية والخلاق.
- تفضل، هذه سجارة جيدة وثمينة بما انك تنازلت لي عن كرسيك. بامكانك ان تدخنها الآن وسوف تخصني بالدعاء لانها ثمينة. استغرب سيف من تصرف هذا الانسان الجاهل وقال،
- ما هذا يا رجل؟ اولاً انا لا ادخن. وثانياً التدخين بهذه الطائرة ممنوع.
- لا، لا لا تقلق. ان هذه الخطوط جيدة وسوف لن يمانعوا إن دخن راكب او راكبين اثناء الرحلة.
- قلت لك ممنوع وسوف لن تسمح لك المظيفة بان تدخنها.
وبالرغم من تحذيرات سيف، اخرج الراكب علبة كبريت واوقد سجارته فارتفع الدخان الى الاعلى. وبعد ثوان قليلة جائت المظيفة مسرعة نحو الراكب واخبرته بالانجليزية انه لا يستطيع التدخين على متن الطائرة. الا انه نظر الى سيف وقال،
- لا افهم ما تقول هذه المرأة الغبية. الا ترجمت لي؟
- انها تقول لك بان التدخين ممنوع على متن الطائرة وعليك باطفاء السجارة فوراً.
- قل لها ان شاء الله ساطفئها حالما تنتهي.
- يقول لك بانه سيطفئها حالما تنتهي.
فاجابت المظيفة بغضب شديد.
- بل عليه ان يطفئها الآن فوراً.
- تقول لك "عليك ان تطفئها الآن فوراً".
- انا لن اطفئ سجارتي، هذا امر شخصي. دعها تعمل ما تريد.
ترجم سيف ما قاله المسافر فذهبت المظيفة مسرعة الى مقدمة الطائرة. نظر المسافر الى سيف وقال له بنبرة المنتصر،
- الم اقل لك انهم لا يستطيعون منعي من التدخين؟
بعد دقيقة او اقل من ذلك رجعت المظيفة ومعها شرطي، فوقفا امامهما وقال الشرطي،
- سيدي ارجو منك مرافقتي.
نظر المسافر الى سيف وسأل،
- ماذا يقول هذا الاحمق؟
- يقول لك ارجو ان تتفضل معي.
- حسناً ساذهب معه وسوف يعلم من انا عندما يتفحص هويتي.
استجمع المسافر المزعج حاجياته وسار مع الشرطي الى المقدمة مغادراً الطائرة. رجع سيف الى كرسيه الاصلي على حافة الممر فاصبح الكرسي بجانبه فارغاً كما في السابق، فتبسم وقال ها قد تخلصت من ذلك المسافر المزعج، يبدو انني سانعم بالراحة اخيراً. وما ان قال ذالك بذهنه حتى بانت سيدة في الاربعينات من عمرها ذات جمال ملفت للنظر متجهة نحوه. وقفت بجانبه وطلبت منه الاذن كي تتمكن من المرور. فوقف سيف وفسح لها المجال كي تمر. وبعد ان جلست وربطت حزامها، جلس هو بجانبها وربط حزامه هو ايضاً. نظرت اليه وسألت،
- متى ستقلع الطائرة؟ هل لديك علم؟
- كان عليها ان تقلع قبل ربع ساعة الا ان احد المسافرين قام بتدخين سجارة بداخل الطائرة، فقاموا باخراجه من الطائرة.
- اعلم ذلك جيداً. فقد كنت انا على لائحة الانتظار وقد منحوني كرسيه بعد ان انزله الشرطي من الطائرة.
- لقد كنت انا من ترجم له الحديث مع الشرطي، يبدو انه لا يتكلم الانجليزية.
- هل هو صديقك؟
- لا ابداً. لم اره في حياتي لكني تطوعت للترجمة لاني علمت انه لا يتكلم الانجليزية.
هنا نظرت اليه بعينيها السوداوان الكبيرتان وسألت،
- هل انت عراقي؟
- نعم انا عراقي بغدادي.
- وانا كذلك، لكني اسكن في لندن منذ اكثر من 20 سنة. منذ ان تزوجت وحضرت مع زوجي.
- وهل ينتضرك زوجك في لندن اليوم؟
- كلا. زوجي متوفي منذ اربعة سنوات.
- انا اسف جداً. لم اكن اقصد ان اقلب عليك المواجع.
لكنها لم تعلق على ما قاله، هنا آثر صاحبنا ان يتوقف عن التحدث معها لربما ستنزعج وستسمعه كلاماً غير لائق إذا استمر بالحديث معها. قام بتعديل ملابسه قليلاً ثم دفع كرسيه الى الخلف، حالما اقلعت الطائرة وانطفأ ضوء حزام الامان تفاجأ عندما طرحت عليه سؤال جديداً،
- متى نصل لندن؟ هل لديك اي فكرة؟
- دعيني ارى... اقلعنا قبل 10 دقائق وبما ان الرحلة ستستغرق خمس ساعات واربعون دقيقة، إذاً سنصل في حدود الخامسة والنصف مساءاً. هل هناك من سيستقبلكِ بالمطار؟
- كلا. ساستقل قطار تحت الارض حالما اصل الى لندن.
- انا كذلك. ولكن اين تسكنين ان كان سؤالي لا يضايقك؟
- اسكن بمنطقة پادنگتون ، وانت؟
- انا اسكن بمنطقة كامدن تاون.
نظرت اليه بعينيها الجميلتان وقالت،
- هل تصدقني إذا قلت لك اني دائماً ازور منطقتكم كامدن تاون هذه لغرض التسوق. فالسوق هناك رائع ودائماً اجد كل ما ابحث عنه.
- نعم، نعم السوق جميل وكبير جداً ويقصده الكثير من الناس من كل انحاء لندن خصوصاً في عطلة نهاية الاسبوع.
هل لديك عمل؟
- نعم، انا طبيبة اطفال واعمل في كلينيك بالقرب من مسكني في منطقة پادنگتون. وانت؟
- انا مستشار قانوني ولدي مكتب استشاري في شارع اجور رود.
في هذه الاثناء ارتجت الطائرة بشكل عنيف، صرخ الركاب جميعاً فامسكت الراكبة يد سيف دون ان تشعر وقالت،
- يا الهي ما هذا؟
- لا تقلقي يا سيدتي انه مطب جوي بسبب الجيوب الهوائية. انه لا يدعو للخوف.
نظرت الى يدها وهي تمسك بمعصمه ثم رخت يدها واعتذرت من سيف. تبسم سيف واراد ان يبعث الطمأنينة بقلبها فقال لها،
- سيف
- ماذا؟ ماذا تقصد؟ اي سيف هذا؟
قهقه قليلاً ثم قال،
- اسمي سيف. سيف عبد الحميد.
فتبسمت المسافرة بخجل وقالت،
- وانا اسمي سلوى جاسم الجبوري.
- تشرفت بمعرفتك سيدتي.
- وانا كذلك. هل لديك عائلة بلندن؟
- كلا، انا اعزب سيدتي ولم يسبق لي الزواج من قبل. لدي القليل من افراد عائلتي ببغداد واخ صغير يسكن دبي. اما اختي الكبرى فهي مع زوجها بامريكا بولاية تنسي. وبهذه الاثناء اهتزت الطائرة للمرة الثانية هزة عنيفة الا ان هذه المرة كانت اقوى واشد من سابقتها. مسكت سلوى يد سيف وهي تحاول ان تخفي القلق الشديد الذي بان على وجهها ونظرت الى الاعلى فشاهدت علامة ربط الاحزمة قد اضيئت. لكنها لم تربط حزامها وبقيت ممسكة بيد سيف بكلتا يديها وكانها تخاف ان تتركها حتى لا تصاب بالاذى.
- ارجوك ساعدني بربط حزامي، فانا اخاف كثيراً من المطبات الهوائية ولا يمكنني ترك يدك.
- لا تخافي دكتورة سلوى امسكي بيدي كما تشائين وسوف اربط لك حزامك بكل ممنونية.
عندما تقدم بجذعه نحوها وهو يمد يده كي يمسك بالطرف البعيد لحزام الامان تقارب وجهيهما تقارباً كبيراً لفترة وجيزة لم تدم اكثر من بضع ثوان. الا انهما شعرا بها وكأنها جاذبية مغناطيسية تدفعهما نحو بعضهما البعض.
- ها هو حزامك قد ارتبط باحكام. لا تخافي سيدتي ستكونين بخير.
توالت الرجات وكل واحدة كانت اقوى واشد من سابقاتها. هنا سمعوا قبطان الطائرة يذيع النبأ على مسامعهم:
"حضرات الركاب الكرام. نمر الآن بمجال جوي تكثر فيه المطبات الهوائية العنيفة وقد بلغنا من مرصد الانواء الجوية ان الامور تتجه نحو الاسوأ. لذلك سنضطر الى الهبوط بمطار بوخارست بشكل مؤقت حتى تتحسن الحالة الجوية، فنواصل رحلتنا بعدها".
بدأ المسافرون بالتذمر وهم يتلقون الخبر الا ان سلوى لم تنبس ببنت شفة. هل هي خائفة ام قلقة ام كلاهما معاً؟ لم يكن ليعلم سبب صمتها. بدأت الطائرة بالهبوط السريع مسطحبة معها تلك الهزات والارتجاجات القوية التي جعلت من سلوى تحكم القبض على معصم سيف مما المته قليلاً. الا انه لم يكن ليعترف لها بانها تؤلمه بل استمتع بوجود يد فوق يده حتى ولو كان ذلك شعوراً مؤقتاً. بعد بضع دقائق هبطت الطائرة بمطار بوخارست ونزل الركاب جميعاً. سارت سلوى بجوار سيف وكأنهما يسافران معاً منذ اول الرحلة. ودخلا بهو الترانزيت. نظر اليها وقال،
- ما رأيك بفنجان قهوة؟
- فكرة رائعة، انا من عشاق القهوة فانا اتناول القهوة كل يوم في مقهى ستاربكس بالباب المجاور لعيادتي.
- اي الانواع تعجبك؟
- كل الانواع. العربية والامريكية والاكسبريسو والكابوشينو.
- انا كذلك. انظري سلوى... عفواً اقصد دكتورة سلوى هناك مقهى ستاربكس امامنا. ما رأيك؟
- كأنك في قلبي. دعنا نذهب.
- تفضلي بالجلوس، وانا ساحضر القهوة. ماذا تريدين؟
- اريد فراپاشينو بالڤانيلا.
- حسناً واحد فراپاشينو بالڤانيلا وصلحو.
ضحكت سلوى وهي تسمعه يقول ذلك من باب الدعابة. وبعد ان اوصى القهوة، عاد وجلس بجانبها وصارا يتحدثان بامور كثيرة. فقد تطرقا للسياسة والادب والعلم والطب والقانون والموسيقى والغناء. بالواقع لم يبقيا موضوعاً الا وناقشاه باسهاب. ثم سمعا النادل يلفض اسمه بطريقة غريبة (سيييف ابو هاماد). وثب سيف كي يحضر القهوة وعاد الى الطاولة حيث جلست سلوى تنتضره.
- تفضلي سيدتي فراپاشينو بالڤانيلا.
- وماذا كان طلبك؟
- مثلك تماماً فراپاشينو بالڤانيلا.
- يبدو ان اذواقنا متشابة.
- هل يصيبك حنين الى الوطن كثيراً؟
- بالواقع استاذ سيف، لا يمر يوماً الا وحلمت بالعراق وببيتنا بالكرادة وجيراننا هناك. وكيف انساه وذكراه محفورة على شرايين قلبي؟ وانت، هل تحن له؟
- بدون ادنى شك يا سيدتي. وانا دائماً اقول، اجسادنا هنا وارواحنا تحوم هناك فوق بغداد.
- اي انواع الموسيقى تحب يا سيف، قصدي استاذ سيف؟
- لا لا مانع لدي، ارجوك ناديني سيف بدون اي القاب خصوصاً وانك قمتي بوضع حفرة كبيرة على يدي من شدة القرص.
- انا آسفة جداً. لم اكن في وعيي كنت خائفة...
- انا امازحك طبعاً. لقد كنت سعيداً لانك امسكت بيدي.
- لماذا؟
- لان ذلك يعني انك منحتيني ثـقتك، وهذا شيء مهم لدي. فالثقة لا تمنح ولا تكتسب بسهولة في هذه الايام.
- كلامك صحيح جداً يا سيف.
- انا احب الاغاني العربية قاطبة وبالاخص القديمة منها. واحب الموسيقى الكلاسيكية. كذلك اجد نفسي ميال للموسيقى السولو. هل كان زوجكِ رجلاً طيباً؟
هنا بدأت الدموع تنهال من عينيها بشكل ملفت للنظر. ادارت وجهها بعيداً عن سيف كي لا يلاحظ الحزن فيها الا انه التقط حبات الدمع وهي تسيل فوق خدها ثم تسقط على قميصها الابيض. شعر بذنب كبير لانه اثار مواجعها وحنينها لزوجها المتوفي فوثب بسرعة وقال.
- انتضريني قليلاً، ساعود.
- اين انت ذاهب يا سيف؟
- ساعود فوراً.
ذهب سيف الى الحانوت القريب من المقهى وعاد بعد قليل وهو يحمل وردة حمراء جميلة وقدمها لسلوى.
- كيف عرفت اني احب الورد؟
- لقد جذبني جمالها من بعيد فاردت ان اقدمها لك كعربون للصداقة.
- وانا قبلتها منك بكل امتنان، لأن ذلك يدل على شفافية روحك. على العموم، كان زوجي الراحل انساناً طيباً وحنوناً ويفكر بي قبل ان يفكر بنفسه. الا ان المنية سرقته مني اثر اصابته بمرض القلب.
- رحمه الله وجعل مثواه الجنة. وهل لديك اطفال؟
- كلا، لم يرزقنا الله بالاطفال ربما رحمة بهم، لولا ذلك لكانوا اليوم ايتاماً.
بقي المسافران جالسان في المقهى لاكثر من اربع ساعات حتى شعرا بالجوع.
- اشعر انا بجوع قاتل، فما رأيك؟ هل نتناول الطعام يا سلوى؟
- انا موافقة على شرط ان اكون انا من يدفع ثمن الوجبة.
- لا هذا ليس عدلاً. فبالرغم من كوني بريطاني الجنسية الآن، لكني لازلت عراقي بداخلي ولا استطيع ان اتخلى عن موروثي الحضاري.
- كلا، هذه المرة فقط سادفع الفاتورة، وسأدعك تدفع الفاتورة بالمرات القادمة ما رأيك؟
وبينما هما يتباحثان عن مصدر ممول لمشروع الطعام، جاء اعلان على المذياع ينبئ ركاب طائرتهم بالتوجه الى بوابة الاقلاع رقم C42. هنا قال سيف،
- يا حريمة يا حريمة. كنت اءمل ان نأكل وجبة عشاء سوية.
- ملحوﮔـة سيف، خيرها بغيرها. على العموم سيقدمون لنا وجبة العشاء بالطائرة.
جمع الاثنان حقائبهما وتوجها نحو بوابة الاقلاع رقم C42
رجعا الى كرسيهما وربطا احزمة المقاعد. وبعد بضع دقائق انطلقت الطائرة في المدرج وحلقت فوق السحاب. بقي الاثنان يتحدثان بامور كثيرة وبقي الجو العام مفعماً بالتفاهم لانهما وجدا ان افكارهما وتطلعاتهما متقاربة جداً وانهما مقبلان على علاقة رائعة قد تتكلل بالحب او حتى بالاقتران مستقبلاً. وعندما جائت المظيفة بالطعام سألت سيف اولاً،
- دجاج ام بقر؟
- دجاج لو سمحتِ.
- وانتِ سيدتي، دجاج ام بقر؟
فاجابت سلوى
- دجاج لو سمحتِ.
تناولا وجبة الطعام وهما يتحدثان ويضحكان وقد ازداد الطعام من انسجامهما وكانما كانا يعرفان بعضهما البعض من سنين طويلة. وبعد بضع ساعات هبطت الطائرة بمطار هيثرو بلندن فالتفت سيف الى سلوى وقال،
- الحمد لله على السلامة سلوى.
- الحمد لله على السلامة سيف.
جمع الاثنان حاجياتهما وانتضرا قليلاً حتى وجدا ثغرة في السيل الكبير من المسافرين ممن يعتقدون ان الحياة ستقف تماماً لو لم يهبطوا على عجل. وعندما اصبحا على ارض المطار صارا يتتبعان يافطات الجدران التي تشير الى صالة الجمارك. وفي هذه الاثناء مرا بالقرب من امرأة بريطانية عجوز تبدو في الثمانينات او التسعينات من عمرها. نظرت اليهما طالبة المساعدة فتوقف سيف وسألها،
- كيف لي ان اساعدك سيدتي؟
- الا حملت لي حقيبتي لو سمحت؟ فهي ثقيلة ولا اقوى على حملها.
- بالتأكيد سيدتي.
لكنه اضطر الى السير ببطئ شديدي كي يساير سرعة المرأة العجوز. التفت سيف ونظر الى سلوى وقال،
- واصلي انت السير فسالحق بك فيما بعد.
- حسناً ساراك بعد فحص الجوازات.
انطلقت سلوى بسرعتها الاعتيادية متجهة الى صالة الجوازات والجمارك تاركة ورائها سيف يسير ببطئ شديد مع السيدة العجوز. فوجدت طوابير كبيرة جداً تصطف على اكشاك لا تعد ولا تحصى من موظفي المطار. وقفت خلف اقصر طابور فيهم الا انها اكتشفت ان هذا الطابور يلتف كالافعى يمين شمال ولم يكن قصيراً كما توقعت. وبعد ان فحص موظف المطار جواز سفرها البريطاني توجهت الى صالة الحقائب فوجدت حزام رحلتها، ولحسن حظها وجدت حقيبتها الوردية تدور امام عينيها فانتشلتها من الحزام ووضعتها على عربة دفع وسارت بها نحو الخارج. بعد ان خرجت خارج صالة الوصول، قررت ان تنتضر سيف هناك حتى يخرج، لكن سيف تأخر كثيراً. يبدو ان سبب تأخره هي السيدة العجوز. انه حقاً انسان طيب ورائع.
بعد ان مرت ساعة كاملة ولم يظهر سيف علمت ان هناك خلل ما. لذا قررت ان تطلب من الاستعلامات منادات سيف على المذياع. وبعد دقيقتين ذاع المذياع عن انتضار سلوى لسيف. لكن سيف لم يظهر وكانه تبخر في الهواء.
ما هذا الحظ؟ لماذا لم يخرج لحد الآن؟ او ربما خرج لكنه لم يشأ ان ينتضرني. الم يشأ ان تستمر صداقتنا بعد الرحلة؟ هل كانت كل المؤشرات التي وصلتها تشير الى استلطاف منه؟ انها فعلاً حائرة. ربما لو انتضرت اكثر قد يخرج من بوابة الوصول. انتضرت نصف ساعة اخرى لكن سيف لم يخرج. علمت وقتها انها سوف لن تراه ثانية في حياتها. لماذا لم يتبادلا ارقام الهواتف او العناوين او البطاقات الشخصية. فلديها الكثير من البطاقات بداخل حقيبتها. وكيف ستعثر عليه وسط ثمانية ملايين انسان من سكان لندن. يا الهي كم هي تعيسة الحظ. فقط عندما تجد الانسان المناسب يتبخر منها بسرعة البرق.
اتجهت سلوى نحو قطار الانفاق فانطلق بها نحو منطقتها پادنگتون. حال وصولها الى شقتها اكتشفت انها قد نسيت زجاجة حليب في الثلاجة والتي كان عليها التخلص منها قبل السفر وهي الآن تعطي رائحة كريهة. وبدلاً من ان تسترخي قليلاً بعد عناء السفر. شمرت عن ساعديها وصارت تنظف الثلاجة لتخلصها من الرائحة الكريهة. باليوم التالي توجهت نحو العيادة والتقت هناك بزميلتها عواطف. عواطف هي طبيبة عامة تتقاسم معها عيادة واحدة، لكنهما صديقتان حميمتان بنفس الوقت ويتحدثان كثيراً وقت الاستراحة.
- خبريني سلوى، كيف كانت رحلتك؟ هل استمتعت بها؟ هل صادفتك مغامرات عاطفية؟
- نص ونص.
- ماذا تقصدين نص ونص يا سلوى؟
هنا همت سلوى باخبار زميلتها الدكتورة عواطف عن قصة لقائها بسيف وكيف مسكت يده عندما اهتزت الطائرة وكيف جلسوا بمطار بوخارست لساعات طويلة وكيف قدم لها وردة حمراء جميلة. قاطعتها عواطف وسألت،
- ومتى ستلتقيه ثانية؟ الليلة؟
- لن يحصل ذلك.
- لماذا؟ هل بدر منه شيئ جعلك تنفرين منه؟ او انك تصرفت بغباء كعادتك فنفر منك؟
- لا هذا ولا ذاك. من حسن خلقه وطيبة قلبه ساعد احدى المسافرت من كبار السن عند الوصول فافترقنا.
- ولماذا لا تطلبيه على الهاتف الآن؟ او تبعثين له رسالة الكترونية؟
- لم نتبادل تلك المعلومات.
- مـــــــــــــــــاذا؟ هل جننت؟ وكيف تفرطين بفرصة مثل هذه؟
- دعيني وشأني عواطف فانا لا زلت الوم نفسي لغبائي. فكيف افرط بفرصة ذهبية مثل هذه؟ وكيف نجد اناس رائعون مثل سيف بهذه الايام.
- على العموم كما يقول المثل خيرها بغيرها. دعنا نستعد لاستقبال المراجعين فقد حضرت للتو السكرتيرة تريزا وسيبدأ سيل المراجعين بعد قليل.
ذهبت كل منهن الى عيادتها. اما سلوى فدخلت عيادتها ولبست صدريتها البيضاء ووضعت سماعتها على رقبتها فسمعت طرقاً على الباب. فاجابت بصوت عالٍ، تفضل،
فتح الباب فنظرت الى المراجع الاول وصعقت من هول الصدمة وابتسمت ثم قالت،
- انت؟ كيف عرفت مكاني؟
2210 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع