د.علي محمد فخرو*
تجنيد الداخل للقيام بوظيفة الخارج
هناك ظاهرة فردية تبدأ بأن يرتكب الفرد عادات سلوكية خاطئة أو مشينة، لكن مع مرور الوقت والاستمرار فى ارتكاب تلك العادات ينقلب السلوك إلى حاجة نفسية تصعب مقاومتها والتخلُّص منها.
لاتقتصر هذه الظاهرة على الأفراد، إذ تصاب بها الجماعات والمجتمعات أيضا. وهذا ما حدث فى بلاد العرب لكثير من الجهات عبر الخمسين سنة الماضية.
فبعد تراجع وضعف النظام الإقليمى القومى العربى، ممثلا فى الجامعة العربية ولقاءات القمة العربية الدورية، والذى كان متماسكا إلى حدًّ ما ولديه الإرادة لاتخاذ قرارات كبرى لا يخرج عليها أحد من الدول أو القادة، والذى ظلّ كذلك من أوائل خمسينيات القرن الماضى إلى أوائل السبعينيات، وذلك بسبب تراجع وتفكك الزخم الشّعبى القومى العربى الهائل.. بعد ذلك الضعف والتراجع أصبحت كل دولة عربية تتصرف باستقلالية تامة وبمعزل عن ثوابت والتزامات النظام الإقليمى العروبى المشترك.
كانت البداية فى المقولة الشهيرة من أن تسعًا وتسعين من أوراق وملفات المنطقة هى فى يد الولايات المتحدة الأمريكية. كان ذلك إيذانا بتسليم مقدرات المنطقة العربية، وبالتالى مقدرات كل قطر عربى، فى يد الخارج. ما عاد للإدارة الوطنية أو الإرادة القومية المشتركة وجودا فاعلا فى الحياة السياسية العربية.
هنا بدأ سلوك غالبية الدول يتمظهر فى شكل استجداء الخارج لإضفاء الشرعية الدولية على نظام الحكم فى تلك الدول. لكن الخارج الاستعمارى لابد وأن يطلب الثمن. وكانت الأثمان تختلف من دولة إلى دولة ومن مناسبة إلى مناسبة أخرى.
كانت محددات الثمن هى مقدار حاجة نظام الحكم للشرعية الديمقراطية الشعبية، ومقدار قوة الخصوم فى الداخل وفى الإقليم، ومقدار الحاجة الخارجية لاستباحة ثروات الوطن العربى وساكنيه. ولذلك تراوحت الأثمان بين تأجير المطارات أو الموانئ أو المعسكرات لجيوش الخارج، أو تسليم الثروات الطبيعية من مثل البترول والغاز والفوسفات لشركات الاحتكارات الدولية العملاقة التابعة لدول الحماية، أو اتخاذ خطوات تطبيعية تراكمية معلنة أو غير معلنة مع العدو الصهيونى فى فلسطين المحتلة للحصول على دعم اللُّوبى الصهيونى فى واشنطن.
كانت مسيرة رجوع تدريجى للاستعمار إلى أرض العرب، بعد أن ضحت شعوب تلك الأرض بالغالى والرخيص، عبر العشرات من السنين، لإخراج الاستعمار الظاهر والخفى من كل وطنها العربى.
ذاك السلوك المشين من قبل بعض الأنظمة العربية قاد، كما يحدث مع الأفراد، إلى أن يصبح عندها حاجة نفسية مرضية، تقود هى بدورها إلى مزيد من تنوع السلوك غير السوى وغير المحتشم.
***
ليس بالغريب، إذن، أن ينتقل البعض إلى المرحلة الجديدة التى تصدمنا يوميا تفاصيلها. إنها مرحلة خدمة قوى الحماية الخارجية من خلال القيام بالوكالة بكل النشاطات التى تريد تلك القوى منا أن نقوم بها بدلا عنها، وذلك لأن أوضاعها الداخلية أو قوانينها أو التزاماتها الدولية المعقدة لا تسمح لها بأن تقوم علنا بكل تلك النشاطات فى أرض العرب.
وقد تعددت أنواع تلك النشاطات إلى حدود مخجلة، يصل بعضها إلى حدود الإضرار بأمة العرب أو المساهمة قى تدمير هذا القطر العربى أو ذاك.
لقد رأينا المال العربى يشترى السلاح لميليشيات الجهاديين التكفيريين، المجانين البرابرة ويدرب الألوف منهم على يد الاستخبارات الأجنبية المأجورة، وذلك ليقوموا بغزو ذلك القطر العربى أو احتلال مساحات شاسعة من أرض قطر عربى آخر. كان ذلك شراء بالوكالة لتنفيذ مطلب لهذه الجهة الأجنبية أو تلك.
لقد رأينا بعض الجهات العربية البنكية تقوم بالوكالة للتأثير على عملة هذا القطر العربى أو تلك الدولية الإقليمية، وذلك تنفيذا لمطلب دولة خارجية، ترمى لتدمير تلك العملة وتخريب الاقتصاد الذى يقف من ورائها.
لقد رأينا إعلام بعض الأنظمة العربية وهو يقوم بالوكالة لتشويه هذا النشاط التحررى فى هذا القطر أو لتسخيف المقاومة ضد العدو الصهيونى فى ذاك القطر العربى. ولم يستح بعض الإعلاميين التابعين لبعض الأنظمة، كزبونين انتهازيين، من حتى تبرير نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وذلك تنفيذا بالوكالة لمطالب بعض الجهات الصهيونية العالمية. لقد تم ذلك لأن الأنظمة التابعين لها هى أيضا تقوم بالوكالة لتمرير صفقة القرن المشبوهة الرامية لجعل كل أرض العرب أرض استباحة واستغلال من قبل الاستعمار الصهيونى الاستيطانى وداعميه.
***
القيام بحروب أو تخريب بالوكالة ليس بالجديد. لقد رعاه الغرب ضد الاتحاد السوفييتى ورعاه الاتحاد السوفييتى ضد الغرب إبان الحرب الباردة. وقد استعملته المخابرات الأمريكية كسلاح ضد كل حركات التحرر فى أمريكا الجنوبية. وإبان الحراكات الهائلة فى العالم الثالث من أجل الاستقلال مارسته قوى الاستعمار فى كل بلد تقريبا من بلدان العالم الثالث، وذلك من خلال تجنيد عملائها فى داخل تلك البلدان لرفض الاستقلال والحرية.
فى أغلب تلك الحروب والتخريب بالوكالة كانت الجهة العميلة المجندة تقوم عادة بمهمة واحدة وفى بلد واحد ولمدة زمنية محدودة تنتهى بفشل أو نجاح، ويقف الأمر عند ذلك الحد.
لكن ما يميز ما يحدث فى بلاد العرب هو قبول من يقومون بالوكالة، كدعم لحروب أهليه أو تجييش لجهاديين مشبوهين برابرة أو تناغم وتفاهم مع الكيان الصهيونى وغيرها، قبولهم بالقيام بدورهم فى عدة أقطار عربية فى وقت واحد، وبصور متناقضة غريبة، وباستمراية لا تتوقف عند حدود، وبضمير بارد لا يراعى أى قيم إنسانية أو التزامات قومية أخوية، وبعدم الخوف من وقوع كوارث فى الحجر والبشر.
كل ذلك يدل بالفعل على وجود حالة نفسية مرضية مدمرة للنفس وللغير تجعلها مماثلة لمرض الشخصية السابكوباثية التى لا تهدأ نيرانها إلاّ بممارسة الشر، متذرعة بحجج وهمية وبتبريرات مختلفة.
لكن تلك المأساة تضاعفت فى المدة الأخيرة عندما نجح الخارج فى تجنيد مؤسسات مدنية عربية وشخصيات عامة لتقوم بأدوار وظيفية تخدم أهدافه الاستعمارية.
ولذلك فالبلاء يتفاقم ويزداد تعقيدا وخطرا. وإن لم تستطع الشعوب العربية، وعلى الأخص شبابها وشاباتها، الوقوف فى وجه ناشرى وممارسى هذا الوباء، فإن الأمة العربية مقبلة على كوارث أين منها كوارث الماضى.
673 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع