بقلم أحمد فخري
قصة قصيرة - ساحلق وحدي بالسماء
استيقض حسين على صوت جرس الساعة فمد يده وضغط على المفتاح الكاتم فتوقف الضجيج. نظر الى الساعة بعين واحدة فوجدها تشير الى الساعة السابعة. استجمع كل ما يملك من قوة وانتصب على قدميه تاركاً ورائه سريراً دافئاً ومخده وثيرة. تذكر ان اليوم هو اسعد يوم في حياته. اليوم هو يوم (السولو) . لطالما قرأ كثيراً عن المشاعر التي تتملك المرأ عندما يطير وحده للمرة الاولى، لكنه لم يشعر بها ابداً في حياته، فمدربه السيد ستيفنسن اخبره بالمرة السابقة انه جاهز لكي يطير (سولو) الاسبوع القادم. "يا الهي كم انا محظوظ لاني سافعلها اخيراً، ساطير وحدي دون مدرب. بالحقيقة والواقع فانا اقود طائرة التدريب بنفسي منذ اكثر من شهرين والمدرب يجلس الى جانبي دون ان يتدخل باي شيء في القيادة سوى اصدار الاوامر، وانا اطيعه بكل سرور. يوجه لي دائماً تعليماته، "استدر الى اتجاه 185 درجة. ارتفع الى 5 الاف قدم. اخفض دوران المحرك الى سرعة الخمول. اهبط على المدرج رقم 30. تكلم مع البرج واطلب الاذن بالاقلاع. اعمل دورة كاملة 360 درجة. اعمل هبوط اضطراري". ناهيك عن الاسئلة التي كان يطرحها علي بين الحين والآخر، "متى نحتاج الى فتح سخان الكاربريتور؟ متى تسقط الطائرة من السماء؟ متى نستعمل نداء الاستغاثة (ماي داي)؟ متى نهبط على المدرج ضد الريح ومتى نهبط مع الريح؟"
لكن اليوم سيقود الطائرة بنفسه دون تدخل المدرب، سيكون هو والسماء والغيوم فقط. فهو جاهز منذ اكثر من شهرين لكنه ينتضر ارتفاع رصيده من الساعات كي يخوض اختبار (السولو). اليوم سيحقق حلمه الذي طالما حلم به منذ اكثر من عقد من الزمان. فقد كان ينظر الى الطيور وهي تفتح اجنحتها وتستمتع بالتجوال في فضاء الابعاد الثلاثة. الطائرة تخترق الغيوم وتخول الطيار كي ينظر الى الارض من الاعلى. كم هي جميلة تلك الغيوم التي تشبه القطن عندما يخترقها بطائرته السيسنا البيضاء فتتجمع نقاط من الماء على زجاج النافذة الامامية وتخط خطاً مستقيمة على النوافذ الجانبية.
نادى حسين صاحبه الذي يسكن باحجرة المجاورة له اثناء ارتداء ملابسه فقال،
- استيقض يا رائد، ساذهب الى مدينة لوتن. اليوم عندي اختبار (السولو).
- ولماذا تزعجني يا حسين انا مستيقض منذ مدة طويلة واسمع فيروز تغني ميس الريم. هل تريد ان تسمعها معي؟ هل ارفع صوت المسجل؟
- كلا ارجوك لا تفعل، يجب علي الاسراع والخروج فالمدرب لا يحب التأخير، وقد يؤجل الاختبار للاسبوع القادم إذا تأخرت عن موعد الاختبار اليوم.
- يا حبيبي، الآن هي الساعة السابعة والربع واختبارك في الساعة الثانية عشر اي ان لديك المتسع من الوقت.
- هل نسيت ان مطار لوتن يبعد 35 ميلاً عن لندن ؟ وهذا يعني ساعة ونصف على الاقل.
- ولما هذه المبالغة؟ الطريق لا يأخذ منك سوى 45 دقيقة.
- نعم، نعم ولكن ماذا لو وقع حادث في الطريق يا رائد؟
- اجل فهمتك.
- ولماذا لا تأتي معي بالرحلة؟
- اليوم هو يوم اجازتي ولدي الكثير من الامور يجب انجازها. فاولاً عليّ ان اغسل ملابسي وان اراجع دروسي لان غداً الاثنين لدي امتحان بمادة الفيزياء.
- حسناً، اتمنى لك اعمال شاقة ممتعة.
انطلق حسين وحيداً بسيارته الفورد الانكليزية متجهاً الى شمال لندن حيث يأخذ من هناك الخط السريع M1.
الساعة ما زالت الثامنة الا ربعاً وسيصل مطار لوتن ثلاث ساعات قبل موعد الاختبار. على كلٍ الافضل له ان يصل مبكراً من ان يصل متأخراً فيؤجل الاختبار. "لا اعلم لماذا لم يرافقني رائد برحلتي هذه! الا يعلم انها اهم حدث في حياتي؟ الا يعلم انه اقرب صديق لدي؟"
بعد نصف ساعة من القيادة السريعة جداً شاهد يافطة تنبئه بقرب مدينة لوتن فعلم وقتها ان عليه الخروج من الخط السريع. وحالما خرج صار يلاحظ اليافطات التي تشير الى مطار لوتن حيث يقع نادي لوتن للطيران كل تلك اليافطات كانت تعزف سمفونية موزارت برأسه. هو يعلم ان هذا المطار يستعمل لاغراض اخرى بالاضافة الى تعليم الطيران فهو مطار اعتيادي وتنطلق منه رحلات الطائرات التجارية، لكن حجمه اصغر بكثير من مطارات لندن الكبرى. فهناك مطار (ﮔاتويك وستانستيد وهيثرو)، لكن (هيثرو) يعد الاكبر قاطبة والاكثر من حيث تردد الطائرات. فالطائرات المغادرة والهابطة تصل الى 1300 طائرة يومياً. اما نادي الطيران الذي يتلقى فيه دروسه فهو ملحق صغير بمطار لوتن والذي به مدرج واحد. اليوم لديه مهمة اكبر وهي ان يقلع ويهبط وحده (سولو) دون ان يكون بجانبه رقيب. نعم (سولو) وسوف لن يعطيه احد الاوامر. "يا الهي، كم هي عظيمة هذه اللحظات؟".
نظر الى ساعته فوجدها تشير الى الساعة التاسعة والنصف. فعلم ان كلام صاحبه رائد كان في محله وانه اتى مبكراً جداً الى المطار، لذا قرر ان يذهب الى مقهى المطار ليتناول وجبة الافطار هناك، فقاد سيارته الى هناك. وعلى باب مقهى المطار وجد يافطة كتب عليها "مقهى المطار يفتح بعد الساعة العاشرة" يا للهول حتى هذا مغلقاً بوجهه. جلس باحدى الطاولات خارج المقهى ينتضره كي يفتح. وبينما هو جالس لمح من خلال احدى النوافذ سيارة مدربه السيد ستيفنسن وهي تدخل بوابة المطار الرئيسية فقال لنفسه، "ربما لو توسلت له كي يأذن لي بخوض الاختبار مبكراً. وثب مسرعاً نحو سيارته لكنه تذكر ان مدربه يحترم الوقت كثيراً وانه سوف لن يوافق على تغيير موعد الفحص بعد ان عمل برنامجه ليوم الاحد كاملاً. لذا تراجع وعاد الى كرسيه فجلس وهو حزين.
في الموعد المحدد جائت سيدة كبيرة السن وفتحت المقهى فكان هو اول الزبائن. طلب شطيرة بيض وفنجان شاي وعاد الى طاولته بالقرب من الشباك. صار يتناول افطاره، بينما اخرج جهاز هاتفه وصار يقلب فيه ويقرأ رسائل اصدقائه واقاربه. لا يعرف كيف مضى الوقت، لكنه كان يسير ببطئ شديد. وعندما قاربت الساعة من الثانية عشر انتفض وعاد الى سيارته متوجهاً الى نادي الطيران. هناك وجد مدربه واقفاً امام لوحة الاعلانات على الحائط. قال له،
- صباح الخير يا سيد ستيفنسن.
- صباح الخير يا سيد صراف، كيف حالك؟
- انا بخير. اليوم لدينا اختبار السولو، اليس كذلك؟
- وهذا ما اردت ان اتحدث به معك، انا جداً آسف، فقد تأجل الاختبار اليوم.
- ماذا! هل انت جاد؟ لماذا يا سيدي؟ انا انتضر هذا الاختبار منذ زمن طويل وقد قطعت المسافة من لندن الى هنا وانا...
- توقف توقف انا امزح معك. الامتحان لازال قائماً.
ضحك الاثنان بصوت مرتفع ثم سار المدرب وتبعه حسين نحو غرفة الايجاز. هناك صار المدرب يشرح الخطوات التي على حسين اتباعها، من لحضة التأكد من الطائرة وهي جاثمة على الارض وحتى اللحضة التي تنطلق فيها الى السماء.
- والآن. جاء دورك كي تقود الطائرة بنفسك. هل انت مستعد؟
- بالتأكيد مستعد.
- هل لديك اي شكوك؟ اي مخاوف؟ اي سؤال؟
- كلا ابداً.
- تذكر انك سوف تعمل دارة واحدة فقط الى اليسار ثم تعود. اي ان مجمل رحلتك ستدوم اقل من 10 دقائق، مفهوم؟.
- مفهوم جداً سيدي.
- تذكر يا سيد صراف انك تحت امرة البرج. تعمل ما يطلبه منك مراقب الحركة الجوية ولا تخالفه الرأي ابداً. هو المدير وانت الخادم المطيع. افهمت؟
- اجل فهمت. اطيعه واتبع تعليماته بالحرف الواحد.
- إذاً، دعنا نخرج ونبدأ بقائمة التأكد من الطائرة. سوف لن اتكلم ابداً من الآن فصاعداً، اهذا مفهوم؟
- مفهوم يا سيد ستيفنسن.
خرج الاثنان واتجها الى حيث تقف الطائرات الاربع التابعة للنادي. توجه حسين نحو الطائرة البيضاء والتي تدعى (وسكي وسكي) وصار يدور حولها وهو يتأكد من سلامتها.
وبعد ان تأكد من كل فقرة مكتوبة بقائمته. وضع القائمة بجيبه وصعد الطائرة ثم اغلق الباب خلفه. اخرج القائمة ثانية وصار يتابع الامور التي يجب ان يتأكد منها من قمرة القيادة. وبعد بضع دقائق وضع المفتاح في الفتحة وادار المحرك فالتفت المروحة وصارت تدور ببطئ. قام بقراءة القائمة ثانية ثم رفع سماعة اللاسلكي وتكلم مع البرج يعلمهم بجاهزيته للمضي الى المدرج الرئيسي. فرد عليه البرج بالموافقة. ضغط على مفتاح البنزين فتحركت الطائرة وصار يقودها بقدميه يمين شمال حتى وصل الى المدرج فتوقف باوله، عاد واتصل بالبرج واخبرهم بانه جاهز للاقلاع. رد عليه البرج بالموافقه واعطاه الاذن بالاقلاع، فدفع مفتاح البنزين الى %80 ومسك بعجلة القيادة فانطلقت الطائرة كالمارد تسير بسرعة عالية جداً. وعندما شعر بخفتها وجاهزيتها للتحليق سحب عجلة القيادة فارتفعت الطائرة الى الاعلى بسرعة عالية. "يا الهي انا احلق وحدي في السماء، وهذا مدربي السيد ستيفنسن يبدو حجمه كحجم السجارة وهو ينظر الي ويبتسم". ارتفع حسين الى 1500 قدم ثم اتصل بالبرج الا ان البرج اخبره ان هناك الكثير من الحركة على المدرج لذلك عليه ان يتريث قليلاً قبل الهبوط، وان البرج سيعلمه عندما يأتي دوره للهبوط. فرح حسين لهذا الخبر لان ذلك يعني انه سيقضي وقتاً اطول في السماء مع حبيبته (وسكي وسكي) وهذا لا يخالف القوانين ولاما طلب منه مدربه لانه الآن تحت امرة البرج. ارتفع بالطائرة الى 3000 قدم ثم توجه باتجاه الغرب 270 درجة. صار ينظر الى البيوت وهي بحجم زهر النرد، "يا الهي كم تبدو جميلة من الاعلى. اعتقد اني اسعد انسان في العالم الآن. وهل هناك اسعد من ان يحقق المرئ حلمه الذي انتضره طوال حياته؟".
جائت امامه غيمة كثيفة كالثلج، وهي تبدو واطية جداً، قدر ارتفاعها بـ 3500 قدم. قرر ان يخترقها، فدفع مفتاح البنزين قليلاً فابتدأت الطائرة بالتسلق وهو يأمل ان يصلها قريباً. تفحص عداد الارتفاع فوجد نفسه على ارتفاع 4500 قدم لكنه لم يصل الى الغيمة بعد. يبدو ان خبرته قليلة في تقدير ارتفاع الغيوم. "كفاك لعباً يا ولد. عليك الآن العودة كي تنتضر دورك للهبوط".
استدار بالطائرة وصار باتجاه 90 درجة وبدأ يبحث عن المطار الا انه لم يجده. "اين ذهب ذلك المطار اللعين؟" هو يعلم تماماً ان الوقود الذي بطائرته قليل ولا يسمح له بالطيران لاكثر من نصف ساعة على اعلى تقدير. فمهمته كانت التحليق وعمل دائرة واحدة والهبوط، ليس الاستمتاع واللعب. في تلك اللحظات علم انه تاءه عن دربه وانه في خطر كبير، وذلك يعني انه يجب ان يطلب النجدة من البرج. نادى البرج واخبره بحالة ضياعه فاخبره البرج بالانتضار قليلاً. وبعد اقل من دقيقة سمع مدربه السيد ستيفنسن وهو يناديه فقال له.
- انا آسف يا سيد ستيفنسن فقد تهت، ولا اعلم اين انا، انا آسف جداً.
- هذا غير مهم الآن علينا ان نجد موقعك. هل هناك خطوط سكك حديدية او شوارع خط سريع او بحيرات او تضاريس تستطيع ان تستدل عليها وتطابقها مع خارطتك؟
- ارى خط سريع فيه سيارات كثيرة.
- هل هناك بنايات اخرى بجانب ذلك الخط؟
- كلا، هناك بحيرة صغيرة لكن...تمهل سيدي تمهل فانا اسمع اصوات غريبة تأتي من محرك الطائرة. يا الهي انه الوقود. لقد نفذ الوقود سيدي ماذا اعمل؟
- لا تهلع، تريث قليلاً وخذ الامور بهدوء. حاول ان تجد قطعة ارض صالحة للهبوط الاضطراري.
- ليس هناك اي ارض صالحة للهبوط الاضطراري بالقرب مني، فهناك الكثير من اسلاك الكهرباء. يا الهي لقد توقف المحرك تماماً. الطائرة تفقد الارتفاع بسرعة عالية انها تسقط.
- ما هو ارتفاعك الآن يا حسين؟
نظر حسين الى عداد الارتفاع وقال، "انه 2250 قدم"
- انت على ارتفاع واطي جداً حاول ان تماطل في الهبوط.
- هذا غير ممكناً. الطائرة تفقد الارتفاع بسرعة عالية.
بهذه اللحظة صار منبه الطوارئ يعلمه بقرب سقوط الطائرة. المنبه صوته عالٍ جداً انه يصم الاذان. هبطت الطائرة الى 1500 قدم ثم 1000 ثم 500 ثم 300 ثم 100 والمنبه الذي ينذر بالسقوط يثقب اذنيه "ساموت الآن لا محال، فهي تدور دوراناً حلزونياً وليس بالامكان ايقافها، سارتطم بالارض بعد قليل يا الهي" ارتطمت الطائرة بالارض وارتفعت في الهواء ثم انقلبت رأس على عقب وسقطت على الارض ثانية فتطايرت اجزائها. نظر حسين حوله فعلم ان الطائرة مقلوبة رأس على عقب وهو مازال حياً ومربوطاً بحزام الامان على كرسيه. لقد توقف كل شيء ما عدى منبه الطوارئ. فهو مازال يصدر صوتاً عالياً جداً ومزعجاً لابعد الحدود. ثم سمع صوت رجل غريب خارج الطائرة، الرجل يتحدث اليه بصوت عال من خارج الطائرة ويقول له،
- استيقض يا حسين، واغلق المنبه رجاءاً، انه حقاً مزعج. اليس لديك اليوم اختبار (سولو) ؟ هيا استيقض، ساءتي معك الى المطار كي اشاهدك وانت تطير وحدك لاول مرة، هيا قم بلا كسل.
"يا الهي لقد كان حلماً. انا سعيد لسماع صوت صديقي رائد"
- صباح الورد والياسمين يا اعز صديق عندي، صباح العسل يا رائد"
- هذا غريب، فانا لم اسمع منك مديح من قبل، يبدو انك اصبحت مختلاً عقلياً اليوم. استيقض فقد عملت لك مخلمة"
1732 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع