من أدب الفلسفة , قراءة في نثرية ملكوت الروح للدكتور صالح الطائي

                                          

                     بقلم الدكتور رحيم الغرباوي

من أدب الفلسفة , قراءة في نثرية ملكوت الروح للدكتور صالح الطائي

الفلسفة هي نظرة كلية للكون والوجود والإنسان تتجلى بالعمق والاتساع عبر وضع الأسباب , والنتائج ، إذ يجتمع فيها الحدس والرؤى في قارورة الفكر ، لتكوِّن منهجا فلسفيا إنسانياً خالداً تكمن في أعماقها النبوءة , وهي تفسر الظواهر الطبيعية والنفسية والفنية ذات الإطار الشمولي ، ومن هنا جاءت المذاهب والفلسفات المادية والمثالية (1). ولعل الفلسفة هي محاولة العقل معرفة حقائق الأشياء , فلابد أن يقدِّم العقل تلك الحقائق بإسلوب بيِّن واضح تتجلى فيه أفكارٌ سامقة تحث على راحة الإنسان وتطبيع حياته على وفق منطقٍ متوازنِ الاتجاهات بما تحكمه من معتقدات وأعراف وقيم خيِّرة . لكن المنطق حين يكون أدباً يرتدي أساليب الأدب من استعارات ومجازات وكنايات وتشبيهات ورموز وإن خلا من العاطفة والخيال في كثير من موارده , والدكتور الطائي وجدناه قد قدم نصوصه بفاكهة الادب الفلسفي وهو ينقل تجاربه الحياتية بصيغ الخطاب على شكل وصايا لكنها تكاد تكون مزيجا من العمق والمباشرة بعيداً عن الصنعة اللفظية لجديَّة المواعظ فيها وإنها بعامة تظل نصوصا تُعنى بانتقاء العبارة وإيقاعها وتوازنها وهو يقدم في هذا الكتاب قصار أقواله كما يقول : " دفعني لأجمع قصار أقوالي , وأقدمها على طبق المعرفة إلى ذائقتكم ، إسهاماً منِّي على لحظات فرح للجميع " (2) 

وقد تضمن الكتاب بين دفتيه نصوصاً نثرية تمثل تجربته الفلسفية للحياة لكن على شكل حكم ومواعظ جعل من أفكاره فيها تُضيء نوراً معرفياً مكَّنه أن يُذكِّر به جيلنا الحالي بعدما أفسدت الكثيرَ منه الافكارُ الطارئة والمحمومة ما اعتقده أو تربى عليه .
وأسلوب الكتاب قد جمع بين الفلسفة والادب وقضايا المجتمع , ليحقق صاحبه ما يطمح إليه من إيضاح فكر وإسداء نصيحة بأسلوب يكاد يرقى عن الاساليب المباشرة وأساليب البحث الذي عهدناه عليها , إنما بلغة الروح ؛ ليمنح فكره أدباً عالياً ورونقاً يليق بثقافته العميقة التي لا يمكنه التعبير عنها إلا بأسلوبٍ معزَّزٍ بالبلاغة , كي يوصل ما يروم إيصاله للمتلقي بوصف الروح هي من تتكلم ولابد من لغة متمطية ومتمددة للوصول إلى أعماقها لذلك وجدنا شذرات من بلاغة الأسلوب تلك التي أعِدُّها المركبة الفضائية التي يُمكنها الإبحار للوصول إلى سطح الروح العميقة في الذات الانسانية :
فمن عمق أفكاره قوله :
( المرآة التي أقف أمامها ، تظهِرُني أنا , تُظهر ذاتي وصورتي , وجهي وجسدي , وشكل ملابسي , تُظهرُ تصفيفةَ شَعري ، تجهُّمي أو ابتسامتي ، ملامح حزني أو سعادتي ، وهي إن كانت تحويل يميني إلى يسار , ويساري إلى يمين ، فإنها بكلِّ تأكيد تعجز كلياً عن إظهار حقيقتي , وتبيان دواخلي وسريرتي , وما يعتلج في صدري ويدور في مخيَّلتي ، أمَّا الذي يُظهره الجانب الآخر للمرآة فليس أكثر مما يُظهرهُ القبرُ إلى من ينظر إليه مجرد كومةٍ من التراب ، لكنَّها في داخلها تحتضن كياناً طالما حاور المرآة عن نفسِه , قد يكون أجمل منك مئات المرَّات ) ص18
إذ نجده يطرحُ فلسفته بأسلوب أدبي كما كنَّا نقرأ للرافعي والمنفلوطي ، فهو لا يهتم بالمظهر الخارجي الذي يهتم به الانسان بل دواخل الانسان هي من تعني المنتصح وسليم الفكر والتصرفات , وما يحمله المعنى من تأويلات بلغة أدبية متسارعة في القول والمكتنزة للرؤيا .
ويكاد فنياً يطغى في نثريته أسلوب التلميح بالاستعارة ؛ ليبعث الدهشة في نفس المتلقي ومثاله :
( وملح دموعك لا يمكن أن يعدل مزاج قِدْرك مهما أوقدت تحته فتخسر الطبخة وتتضور جوعاً ) ص24
وقد نجد نقدا لكثير مما تعمل به المجتمعات والمؤسسات بل وحتى الأحكام القضائية والاداء السياسي وهو يستعمل أسلوب المقابلة البلاغية في نصوصه ليوصل لنا الفكرة التي يتوخاها .
والطائي نراه في تحفته ينتهج نهج المترجمين لكتابات كبار الحكماء والمفكرين بل ترجمته لما يعتمل فكره وفلسفته في الحياة , فنجده يقول :
( يمكنك اكتشاف الحقيقة من دون النظر إلى اللوحة أو معرفة هوية الرسام الذي أبدعها ؛ لأنَّ روحك لها قدرةُ اختراق الحجب , والغوص في المجهول ، هذا هو التحدي الحقيقي أن ترى ما لا يراه الآخرون )
ولعل المفارقة هي العنصر المهيمن وهو ما يعطي النص ما يستحق من أهمية و الذي يضمن تماسك البنية الفنية وتلاحمها .
ونرى الطائي يمتعنا بحديث له علاقة من بعيد لأفكاره ؛ ليمهد لنا ما يريد ومثال ذلك : اللوحة والرسام ، والأبالسة والشياطين و الجنيات والسعالي والغيلان و الفتاة الغجرية , أو نوح وسفينته والطوفان ومقتطفات من مقولات لبعض المفكرين الغربيين وقصة الغزال والنمر، والاقنعة الرخيصة لوجوه السياسيين ولأقوال الانبياء والاوصياء الممشوقة بنزعته الصوفية في أحيان والوقوف على فتنة الارباب الجدد ثم يرتفع بأخرى ليوصلك الى ليالي من الف ليلة وليلة وما ذلك إلى عناصر تشويق وإيصال فكرة يحاول التشويق لها أو تضمينها في ذلك ولما فيها من توسيع مدارك العقل ومقبِّلاً من مقبِّلات شهية الفكر في التطواف حول الموضوع ؛ كي لا يمل القارئ من قراءة نصوصه ، ولعله حينما قدم كتابه لم يقدمه الا على شكل كتاب بترافة لغوية ، كي لا يمل قارئه , مما جعله يقدمه بأدبية شفيفة غير مغرق في وسائل الشعرية العالية .
ولما كانت نصوصه موجهة للتربية والاتعاظ مما جعل لبعض الاساليب محور رسالاته ومنها : هيمنة لا الناهية في نصوصه والتي تبرِّز لنا أسلوب المباشرة لحاجته لدلالتها في الترك لكثير من الأمور التي يراها خاطئة لكنه يستغلها لصدمة المتلقي وهو لون من ألوان أدبية النص
صيغة الامر : ومنها الفعلية مثل قوله : استمرْ بالسير إلى الأمام مهما كانت الظروف صعبة .. " 116 وقوله بلام الأمر : " ليمُتْ فالتقاط سيلفي معه حتى ولو كان دمه يشخب... "120
اسلوب الحوار : وهو العنصر المهم في الدراما ويذكرنا بمقولة شوبنهاور والغاية من الدراما في النصوص هي : " أنْ يتبين لنا من خلال فعل مثالي طبيعة وجود الانسان وطبيعة الانسان هي شخصيته , أما وجوده فهي المواقف والأحداث والظروف التي يوجد الفرد منها والشخصية ينبغي أن تكون السيادة منها على الوجود في الدراما " (3) , نجد كثير من ذلك في نصوصه ومنها :
" الحادية بعد الالف والالف ثم الالف التقيك وانت ترتدي الوجه الرث المتعب الطيب العذب العراقي نفسه , الذي يتفصد منه عرق الفراتين ويلتصق به تراب أرض العراق وفي كل مرة التقيك فيها ترسم على وجهك ابتسامة الرضا , وكأنَّ الدنيا كلها طوع أمرك وأنا أعلم ببئرك وغطائها وأدري أنَّ ثوبك بلا جيوب , يا أخي , هون عليك واترك كبرياءك الذي تنوء بحمله مذ رأيتك , فهناك من يبدلون وجوههم في اليوم الواحد عدة مرات ويعدون ذلك شطارةً , فما لك لا تصبح شاطرا في زمن العهر هذا مثل غيرك عسى ان ترتاح يوما من حمل هموم الوطن " 79 .
وقد استطاع الدكتور الطائي ان يوظف عناصر ادبية النص لتحقيق ما يرومه في بث الجمال في سطوره كي يبرق ما يريد لمتلقيه لاسيما نشدان هدفه التربوي الوعظي التوجيهي في لوح من الواحه الذي اسماه ملكوت الروح و الذي عالج فيه دراما الحياة لكن بنكهة روحية تشع بالأمل خلاصتها أننا لابد أن نتبع نهج المقدس الماكث في كل روحٍ نقية يتحكمها العقل وتُبَثّ منها لطائف النور
شكري وتقديري لك أيها الفذ في ما قدمت وستقدم وإلى مزيد من الابداع .

(1) ينظر الشعر والفلسفة . د. سلام الأوسي : 9-10
(2) مقدمة ملكوت الروح : 9
(3) الرؤيا والتشكيل , د. سلام الأوسي : 242

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

799 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع