نزار جاف
الجنوب العراقي و کوردستان: کلام في الوجد و الانسان /١
ليس هناك شئ في الحياة بإمکانه أن يضاهي عملية إختمار الوعي في مراحله الاولية و تأثيرها على المحتوى الداخلي للشخصية، ومامن شك أن تناول أي موضوع له علاقة بهذه المسألة، سيکون موضوع ذو شجون وله وقع خاص في عمق الروح و الوجدان. وان علاقتي بالجنوب العراقي و ذکرياتي المختلفة في مدنها المختلفة، تدخل ضمن السياق الذي أنا بصدده منذ بداية مقالنا هذا.
في مدينة السليمانية، في بداية عقد السبعينيات، حيث کان المد اليساري الشيوعي في اوجه، وکان قلما تجد مثقفا عراقيا لم يصبطغ بالفکر المارکسي، کان هنالك في هذه المدينة التي أشتهرت بمقارعتها للنظم المستبدة مجاميع من الشبان العراقيين المثقفين الذين کانوا يدرسون في جامعة السليمانية، وللأمانة فإن جلهم کانوا من الطائفة الشيعية و الاهم من ذلك أن معظمهم کانوا يحملون فکرا مارکسيا، حتى انني أتذکر جيدا مرة عندما خاطبت الناقد الکبير الراحل عبدالجبار عباس:(ماهي العلاقة بين التشيع و الشيوعية؟)والغريب أن الناقد الراحل إبتسم إبتسامة عريضة ثم أطلق ضحکة قوية وأجابني بکلمات لست أنساها عندما قال:(هي نفس العلاقة التي بين الکوردي و بندقية البرنو)!
في تلك الايام وتحديدا في أعوام 1975 و 1976و 1977و 1978من الالفية الماضية، حيث کانت تجمعني علاقة قويـة بمجموعة من الکتاب و الشعراء الکورد الشباب، وطبعا کنا کلنا يساريين، ولکي نثبت خصوصيتنا و نعلن إستقلاليتنا عن الآخرين، لم نکن نجلس في مقهى(مام علي)الذي کان يضم فنانين و کتابا و شعراء کبار مثل أحمد سالار و المرحومين عثمان جيوار و کمال صابر و الشاعر و المثقف البارز الشهيد دلشاد مريواني(الذي أعدمه نظام حزب البعث)، و رؤوف حسن و شيرکو بيکهس و فؤاد مجيد مصري و غيرهم، حددنا لجلوسنا مقهى آخر کان يسمى بمقهى(القلعه دزيين)نسبة لمدينة قلعةدزه، وفي ذلك المقهى تعرفنا على لفيف من الشبان(الشيعة ـ الشيوعيين)، وکانوا من الناصرية و البصرة و السماوة و العماره وکذلك من مدن الفرات الاوسط، ونشأت بيننا علاقة وثيقة رغم ان العديد من أصدقائي الکورد لم يکونوا يجيدوا العربية بطلاقة وکان هنالك فقط الشاعر و المثقف الکوردي المعروف کوران مريواني من القلة الذي يجيد اللغة العربية أما بالنسبة لي فإنني وکما يعرفني معظم معارفي و أصدقائي(ولأن طفولتي قضيتها معظمها في بغداد) کنت أجيد العربية بطلاقة ولأجل ذلك فقد ربطتني بهؤلاء المثقفين العرب من دون البقية بعلاقة إستثنائية، تمخضت عن قيامي بسلسلة سفرات خاصة لمدن الناصرية و سوق الشيوخ و الجبايش و البصرة و الشطرة و الشامية و أبو صخير و العماره، وأتذکر جيدا کيف أنني تعلقت بالاهوار سيما في الناصرية و العماره وکنت عندما أرى أي طائر بين الاهوار(التي دمرها نظام حزب البعث) دوما أردد شعر الکبير مظفر النواب(حمد و معاشر الکارور و بشوش السحر و الکنبره السمره الزغيره) وهي أسماء طيور باللغة الدارجة هناك، کما عندما کنت أرى المشحوف(وهو قارب تشتهر به منطقة الاهوار)، کنت أردد أيضا قول النواب:(الهور و هلال المزفت) حيث کان أصحاب المشاحيف يقومون بتدهين قعر تلك القوارب بمادة اسفلتية، حفاظا عليها وأتذکر کيف انني کنت أذوب وجدا في مشاهد ذلك البلام الذي يقود مشحوفه بعصا طويلة و کثيرا ماکان البعض منهم يمازحني عندما يعلم أنني کورديا بقوله(دفعة مردي و عصاة کوردي)وللأسف لاأدري لماذا لم أسأل وقتها عن معنى هذا القول الذي يبدو أنه قد ذهب مثلا وأجهل لحد الآن القصد منه، کما أتذکر جيدا مرة في العماره کيف أن امرأة متقدمة في العمر خاطبتني"وهي مبتسمة":(طرکاعة اللفت برزان بيس بأهل العماره) في إشارة للجنود العراقيين الذين کانوا يقتلون في کوردستان أيام النظم العراقية المتعاقبة و کدليل على الطابع و الماهية العرقية ـ الطائفية للنظم العراقية المتعاقبة من بعد إنقلاب 14 تموز الذي أطاح بالنظام الملکي الديمقراطي في العراق، فإن الغالبية الجنود العراقيين الذين کانوا يرسلون الى کوردستان للحرب ضد الشعب الکوردي، کانوا يتکونوا من الشيعة ويبدو أنه کان هنالك هدف محدد واضح من وراء ذلك.
في تلك الايام، ومن بين اولئك الاصدقاء العرب، أتذکر کان هنالك مثقف من الجبايش اسمه عبدالکريم رسن وکانت علاقتي به وثيقة لدرجة کبيرة جدا حتى أننا قد قضينا أياما و ليال طويلة في بيتينا، وفي احدى المرات التي زرته فيها وبقيت هناك لمدة أکثر من أسبوعين، اسمعني ولأول مره شريطا مسجلا لشاعر العراق الکبير مظفر النواب وهو يقرأ فيها بصوته قصيدة(وتريات ليلية)المشهورة والتي من فرط کثرة إستماعي لها صاحت بي والدته: انت جاي عدنه لو عند مظفر؟ وفي تلك القصيدة التي يديف فيها مظفر البعد الطائفي بالبعد الفکري سيما عندما يقول:
(أنبيك عليا!
ما زلنا نتوضأ بالذل ونمسح بالخرقة حد السيف
ما زلنا نتحجج بالبرد وحر الصيف
ما زالت عورة بن العاص معاصرة
وتقبح وجه التاريخ
ما زال كتاب الله يعلق بالرمح العربية!
ما زال أبو سفيان بلحيته الصفراء,
يؤلب باسم اللات
العصبيات القبلية
ما زالت شورى التجار ترى عثمان خليفتها
وتراك زعيم السوقية!
لو جئت اليوم
لحاربك الداعون إليك
وسموك شيوعيا)
يومها، سألت عبدالکريم عن علي ابن ابي طالب و سبب تعلق النواب به، ورغم أن صديقي حاول أن يشرح لي الامر بصورة مبدئية، غير أن المنطق الطائفي کان يغلب على حديثه سيما عندما کان يشارك والده في الکلام و يطرح مظلومية الشيعة عبر التأريخ. واتذکر جيدا کيف أن عبدالکريم قد أعطاني أحد أجزاء "شرح نهج البلاغة"لأبن أبي الحديد المعتزلي حيث کانت فيها العديد من المعلومات التأريخية عن تلك المرحلة التي نشأت فيها الشيعة وقد شدني الکتاب إليه بقوة حتى إنني لم أملك نفسي أن ابتعت أجزائه العشرون من مکتبة النهضة ببغداد وکان هذا الامر بمثابة هزة قوية في بنياني الفکري سيما حينما تعرفت عن کثب على الامام علي ابن ابي طالب و تعمقت فيه من خلال درر کلامه التي سيظل سحرها في وجداني طيلة حياتي وللحديث صلة.
874 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع