بقلم أحمد فخري
قصة قصيرة -السفاح (قصة حقيقية)
في تونس عام 1996 حدثني احد الاصدقاء المقربين لدي ويدعى ابو عمر عن قصة تكاد تكون اغرب من الخيال لذا قررت ان اقصها عليكم كما نقلت لي.
يقول الاخ ابو عمر،
عندما انعقد مجلس وزراء الداخلية العرب في تونس بالاسبوع الماضي، طلب مني مديري ان احضر بصفة عضو مساعد ممثلاً لجامعة الدول العربية. وبعد ان انتهت اعمال المجلس، قمت باستضافة مبعوث العراق (ذكر اسمه لكني لا اذكره حالياً) على وجبة عشاء في مطعم بتونس، وقد كان ذو رتبة عالية في الشرطة (قد يكون عميداً او لواءاً). واثناء الحديث سألته عن اوضاع العراق قال،
من خلال هذه القصة ما عليك سوى ان تستشف منها الاوضاع المتردية التي وصلت اليها الامور في العراق. فقبل مدة وصلني بلاغ عن جريمة وقعت بمنطقة السيدية ببغداد وانها اشبه بجرائم ابو طبر لان الجاني قام بقتل جميع سكان الدار الذين هاجمهم ثم قام بسرقة جميع المواد الثمينة التي وقعت يده عليها ، الكبيرة منها والصغيرة. وعندما وصلت الشرطة باليوم التالي اثر بلاغ من الجيران فانها عثرت على اربعة قتلى وهم الاب والام واولادهما الاثنان. الجثث وضعت بشكل منظم بمكان واحد جنباً الى جنب كي لا تعيق عملية نقل البضاعة المسروقة. ركبت سيارتي على الفور وتوجهت الى مسرح الجريمة فوجدت امراً مروعاً هزني واثار في مشاعر الهلع والتقزز والرغبة الجامحة الملحة في ملاحقة والقبض على الجاني. وبعد معاينة الطب العدلي لمسرح الجريمة تبين ان الجاني لم يترك اي بصمات لانه على ما يبدو كان يرتدي قفازات يحجب بها بصماته. وتبين كذلك من تقدير الخبراء ان الجاني قام بتنفيذ الجريمة وحده وان عملية نقل المسروقات دامت بضع ساعات.
رجعت الى مكتبي واستدعيت جميع ضباط الشرطة الاكفاء ممن لهم باع طويل بمثل هذه الجرائم وبدأنا نعقد جلسات دورية كي نحاول ان نعثر على الجاني حتى نقدمه الى العدالة فينال جزائه. الا اننا فوجئنا بعد ثلاثة اسابيع ان نفس الجريمة وبنفس الاسلوب تكررت في منطقة اخرى من بغداد. وعندما ذهبت بنفسي لاعاين مسرح الجريمة وجدت جثث العائلة الستة كانت مجمعة في مكان واحد وبعيدة عن الطريق كي يتمكن الجاني من جمع المسروقات وكانت نتائج الطب الجنائي تؤكد ان الجاني لم يترك اي بصمات لاصابعه او اي دليل يستدل به عليه.
اصبحت مهمتنا اكثر تعقيداً لان الجاني كرر عمله الشنيع هذا وليس هناك اي دليل يثبت انه سيتوقف عند هاتين الجريمتين وانه بالتأكيد سيقوم بجرائم اخرى لاحقة.
قمنا بنصب كمائن بعدة مناطق من بغداد كي نتمكن من اصطياده إذا ما حاول اقتراف جريمة جديدة. الا ان الجاني توقف عن ارتكاب جرائمه لمدة 4 اشهر فظننا وقتها انه توقف تماماً عن ارتكاب الجرائم أو ربما لانه ترك البلد او قرر الاكتفاء بما كسب من الجريمتين الاوليتين. الا اننا تفاجئنا بجريمة ثالثة وقعت بمنطقة اخرى من بغداد، لكن الكمائن التي نصبت له لم تنجح في القبض عليه. لذا قررنا ان نزيد من عدد الكمائن علنا نصل الى مبتغانا.
وبعد مرور عام كامل من تكثيف الكمائن وصلنا بلاغ من احدى المفرزات ان السفاح قد وقع اخيراً في الفخ بينما كان يحاول الاغارة على احدى المنازل وانه في قبضة رجال الشرطة الآن وانهم ينتظرون مني الاوامر. اصدرت اوامري على الفور بعدم المساس بالجاني بتاتاً وان يحضر الى مركز الاستجواب كي اقوم انا باستجوابه بنفسي.
وصلت في ظهيرة ذلك اليوم ودخلت الى غرفة الاستجواب فشاهدت شخصاً وسيماً في عقده الرابع يرتدي ملابس نظيفة ومنسقة لا توحي ابداً على انه مجرم سفاح. لذلك راودتني شكوك في ان الشرطة ربما قامت بالقاء القبض على الشخص الخاطئ لذلك قررت ان احقق معه بشكل مطول ومفصل. القيت عليه السلام.
- السلام عليكم.
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
- اتشرب شيئ؟
- استكان شاي لو سمحت.
استدعيت له استكان شاي واعطيته علبة سجائر وتابعت التحقيق،
- هل تعلم لماذا جيء بك الى هنا؟
- نعم سيدي. لقد كنت في صدد سرقة احد المنازل بالمنطقة (الفلانية).
- وماذا عن سكان ذلك المنزل؟
- كنت ساقتلهم جميعاً الواحد تلو الآخر.
- هل هذا يعني انك معترف بجريمتك؟
- اجل سيدي، وانا اعلم ان مصيري هو الاعدام.
- وهل قمت بجريمة مثلها سابقة ام هي الاولى؟
- كلا سيدي، قمت بعدة جرائم قبلها.
وهنا صار يعدد لي الجرائم التي قام بارتكابها وهي تطابق القائمة التي لدينا تماماً.
- إذاً انت معترف بجميع تلك الجرائم؟
- نعم سيدي. ارتكبتها كلها.
- وهل كان لديك شريك؟
- كلا سيدي. ارتكبت جميع الجرائم وحدي.
- ولماذا كنت تقتل اصحاب المنزل جميعاً؟ الا تكفيك سرقة محتويات المنزل؟
- كنت اقتلهم وابعدهم عن الطريق كي اتمكن من نقل مواد المنزل "على راحتي" ولكي اتمكن من معرفة المواد التي تستحق السرقة وذات القيمة المادية العالية.
هنا صار يقص علي بالتفصيل الممل كيف كان يذبح ضحاياه بكل مرة ثم يقوم بسحبهم على الارض حتى يكونوا بعيدين عن الطريق لكي لا يعيقون عملية نقل مواد المنزل. وكيف عثر على الكثير من المجوهرات والحلى الذهبية في المنازل. وكيف سرق اجهزة منزلية من تلفاز واجهزة ستيريو وفيديو وما شابه.
- حسب الاستجواب الاولي للشرطة. ادليت باقوالك انك كنت قد خدمت بالجيش وكنت على الجبهة تقاتل ضد ايران. هل هذا صحيح؟
- نعم سيدي.
- وكم دامت خدمتك بالجيش؟
- ثمان سنوات.
- وماذا كان شعورك وقتها؟
- كنا نقاتل من اجل حماية الوطن.
- لكن الشخص الذي يحمل هذه القيم النبيلة لا يمكن ان يقوم بالجرائم التي ارتكبتها بحق افراد وطنك. فكيف ذلك؟
- سيدي، هل تأذن لي بان اقص عليك قصة ما؟
- طبعاً، خذ وقتك.
ترشف القليل من الشاي ثم اشعل سجارة واخذ نفس طويل ثم قال،
- سيدي عندما كنت في الجبهة، كان لدي صديق يدعى (نايب عريف فلان) وقد كان دائماً يلازمني اينما ذهبت. وكنا نكمن في خندق واحد اغلب الوقت. في كثير من الاحيان كنا نبقى بداخل الخندق لايام واسابيع طويلة دون ان نعمل اي شيء. كان الملل يقتلنا ولا نستطيع فعل اي شيء ازائه سوى الامساك ببنادقنا والتحدث فيما بيننا. كانت كثيراً ما تحدث تراشقات بالرصاص بيننا وبين العدو الذي يكمن حوالي مئة متر عنا. وبقينا على هذا الحال لفترات طويلة من الزمن حتى استحدثنا لعبة استطعنا من خلالها ان نقتل الوقت. كانت اللعبة كما يلي: يزحف واحدنا الى ان يصل الى مكان مرتفع قليلاً ثم يقوم باطلاق النار على جنود العدو. يسمح لك قانون اللعبة ان تطلق خمس رصاصات فقط. واذا ما اصبت احداً من جنود العدو فان ذلك يعتبر احراز هدف في اللعبة. وبعد الانتهاء من اطلاق رصاصاتي الخمسة. أعود الى الخندق ويذهب زميلي الى المكان المرتفع ويبدأ باطلاق الرصاص على العدو. ثم يعود الى الخندق. فإذا كانت حصيلتي هي اصابة ثلاثة جنود وحصيلته اصابة جندي واحد. إذا اكون انا الفائز والجائزة هي ان نطرح اصاباته من اصاباتي والفارق هو اثنان لذا فانه يقوم باعطائي سجارتان. اما اذا كانت حصيلة اصاباته واصاباتي متساوية فان الامر يعتبر تعادلاً.
- وما علاقة هذه القصة بجرائمك التي تقوم بها حالياً؟
- دعني اكمل لك سيدي.
- تفضل.
- بعد ان انتهت الحرب العراقية الايرانية وتسرحت من الخدمة العسكرية، رجعت الى بيتي وزوجتي واولادي. استائت الامور المادية بشكل كبير، واصبحت اجد صعوبة في الحصول على عمل. وصرت اشاهد اولادي يتضرعون من الجوع. وكل يوم كان اسوأ من سابقه. لذا قررت ان اسرق. وبما اني تمرست على القتل في الجبهة، لذا صار القتل عندي شيءاً اعتيادياً سيدي.
- لكنك الآن تقتل ابناء بلدك. في السابق كنت تقتل عدوك، فكيف ذلك؟
- سيدي، في الجبهة كنت اقتل لاجل سيجارة. اما اليوم فانا اقتل لاشبع ابني فايهما اهم؟
كانت كلماته اشبه بجمرة نار وقعت على مسامعي. امرت الجنود باخذه الى الزنزانة كي ينال عقابه بعد عرضه على المحكمة.
2264 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع