سمية العبيدي
المرأة والمتسولّ
كان العصر قد أحكم قبضته على السوق فهي في غاية النشاط فهذا هو وقت الذروة . ومشت امرأة تتأبط حقيبتها وتنظر الى المحلات المتلألئة بمختلف السلع الاستهلاكية والكماليّة وفي نيتها ان تتبضـّع لاسرتها تبضـّعا موسميا حين لفت انتباهها بشدّة والم طاغيين ذلك الرجلُ المنطرح على وجهه على ناصية الشارع الكبير.
كان اللـه قد منح الرجل بسطة في الجسم ملفتة للنظر فكان له كتفا مصارع ، لم يكن مسنا بل انه يعد في شرخ الشباب ، وكان مفتول العضل قويا .غير ان الاعاقة قد عصفت بقوّته وشبابه واودت بـه فانطرح على وجهه وبصعوبة جمّـة كان يسحب كل ذلك البناء الضخم على الارض متنقلا من بقعة في الرصيف الى اخرى وفي يده صحن صغير من معدن ينقـله معه بصعوبة ظاهرة ليضع فيه اهــــل الخير ما جادت به انفسهم وكان هذا الصحن يصدر صوتا مزعجا يستلفت انظار المارّة كلـّما نقله .
كان المنظر مؤلما جدا فهو يرسم التناقض بحــدّة يصعب وقعها على النفس البشريّة . وقفت وهي امرأة تجاوزعمرها الستين عاما هنيهــــة ذاهلة لهذا التنــاقض الحاد و المزعج و وجــدت فيه خـــــللا ما ، وبعد لحظة وهي تقـــف في عرض الطريق تعترض السابلة حددت الخـــلل ووجدت الحل في آن واحد! ! . وبما ان افكارها كانت عمـليّـة في اغلب الازمات فقد وقفــــت على الطوار المتسع للشارع العريض واخرجت من حقيبتها عملتين نقديتين ورقتين احداهما فئة الف دينار وقد وضعتها بجلبــــة ملحوظة ومتعمّـدة في صحن المتســـوّل اما الورقة الاخرى وكانت من فئة الخمسة آلاف فقـد رفعتـــها في يمناها لترفرف كمــا العلم ورفعت عقيرتها قائلة : من ذا يعين هذا الرجل على شراء كـــرسي ّ متحرك . فـزع الرجل وهو يرفع رأسه اعلى ما يمكنه نحوها ليتأكد انـّه المقصود بهذا الكلام . وحاول الهرب غير ان المرأة - وقد خططت وقررت عرقلة طريقـــه للهرب وهي تتحّـــــدث الى السابـلة بأعلى صوتها طالبة منهم العون لشراء كرسيّ مدولـــب للفتى ولقد استجاب الكثيــر من الخيّرين لنــدائها الحار واخذوا يتبـرّعون بمبالغ كبيرة لهذا الغرض النبيل .
أخــذت تسأل بعــض المارّة عن سعـــر هذا النـــوع من الكراسي مستوثقـــة من ذلك بين حين وآخــر ، ومحصيـــة ما بيدها من نقود كلـّما سنحت لها الفرصة . وفي أقل من ساعة - والسوق على أشدّها حماوة ورواجا - استطاعت هذه المرأة الباسلة ان تجمع ما يكفي لشراء الكرسيّ المدولب . وكان في عطفة قريبة من هذا المكان محل لبيـــع هذا النوع من البضاعة . فالتفتت الى صاحب محل قريــب منها وسألته ان يبعــث بغلامه لشراء الكرسيّ وجلبــــه للفتى فاستجاب صاحب الحانوت وغلامــــــه لطلبها بطيبــة خاطر .
ظلـّت المرأة ُ منتظرة مع بعض المهتمين بهذا الحدث من خيرين و فضولييـــن تجمّعـــوا حولها ، ظلـّـت منتظرة على الناصية حتـّى عاد الغلام يدفع أمامه ذلك الكرسيّ المزود بآلة تدفعه بسهولة بالغة . رأته فأستحسنته .
اوعزت لشباب كانوا يتسكعون في السوق لغاية في انفسهم لا يعلمها الا اللـــــــــه ان يرفعوا الفتى المربد الوجه احمرارا واحتقانا وغضبا ليجلسوه على الكرسي ففعلوا ذلك بصعوبة رغم كثرتهم ، ظل الفتى يدمدم بما لا يُــدرى ولم يفهمه أحد فلمّا استوى على ذلك الكرسي خرجت من بين اسنانه كلمات الشكر واهية ضعيفة فظنَّ المتابعون للحدث ان ذلك من قبيل الخجل .
وبعد ان انتهى كل شي وانفض السامـــر وذهبت المرأة لغايتها مشكورة من قبل بعض المعجبين بما فعلت وما ابدت من مساعدة وفعل خير ، وضع الفتى صحنه على فخذيه وأخذ يدمدم طالبا المساعدة من ذوي الخير. حلّ العِشــاء و انقطت ارجل السابلة الا من بعـــض المتأخرين في اعمـــالهم أو من اصحاب المحلات وهــــم يغلقـــون ابواب حوانيتهم باقفــــال مزدوجة خوف اللصوص ، سحب الفتى نفسه وهو على هذا الكرسي المتحــرّك قاصدا منزله وما كاد يغلـــق باب المنزل وراءه حتـّى شبـــّت في المنـــزل عاصفــــة مدوّيــة ، لعن فيها الشاب الكراسي مدولبة وغير مدولبة وهــو يحطـّم بركلات قدميه ما اعترض طريقه من كراسيَ واثاث - فلــكأنه لاعب كرة قــدم متحمس يريد ان يسجّل هـدفا في اللحظات الاخيرة من الشوط الثاني - وهو يلعـن النساء خيّرات كنَّ او شريرات فكلهــــن قاطعات للرزق مثيرات للشـــــغب بزعمه و ان لكل النساء انوفــــا طويلة يحشرنها في كل مكان ليخــــربّن كــــل شيءعلى وجه البسيـــطة التي خلقها الله وليمحقن السلام الذي اراده .
*****
سمية العبيدي
887 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع