بقلم : يوسف ناصر
أنتما أَيُّها الحرفُ والقلمُ ..!!
خليلايَ أنتما وصاحبايَ منذ عهد الطفولة، بيديكما بذرتُ حبّات قلبي على الورق, ومن كأسيكما سقيتُ الشّاربين عصارة روحي، وعلى صدريكما قطّعت كبدي , وسيّلت دمي , وعلّقت لآلئي , ومنكما صنعت أجنحتي وطرت في هذا العالم..!
..لا أدري كيف أردّ فضلكما العميم عليّ , وأنتما اللّذان حملتما بيديكما مفاتيح سجوني , وكنتما تُخرجاني كلّ يوم من أسر مشاعري , وسجن عواطفي...! ولولاكما لأَدْمَتِ القيود رجليّ , وفَرَتِ الأغلال ساعديّ ، وكنتُ اختنقتُ في الظّلمة الكثيفة داخل كهوفي العميقة في غابتي وأدغالي النائية..!
.. هل تذكرانِ كم مرّة في اللّيل أيقظْتُكما على عجَل من نومكما، لتستقبلا معي فكرة جائعة طرقت أبواب القلب ...! أو شعورًا ضائعًا ضلّ الطّريق في اللّيل فاهتدى من بعيد إلى قبس روحي بعد لأْيٍ وعناء ..! أو عاطفة شردتْ عن سربها , وقد أمَضَّها السّير وحيدةً في البريّة , فجاءت تلتمس مأوًى لها , وتتوسّل المبيت في جرحي , وتحت الفراش من صدري الزّاخر ..!!
..خليليّ ..! هل تذكرانِ كم من مرّة في أشدّ أيّام حرّي ووهجي , وقد هبّ اللّهب في قلبي , وخرجتْ منّي صواعقي ، وتفتّحتْ فوقي أبواب سمائي ، واندلقتْ أمطاري وسيولي , وناديتكما :" قُومَـا وعبّئا منها جِراري وجِراني , واملآ آباري , ورَوِّيا منها ريحاني وأقحواني , ونسريني ونرجسي ، لتباري الربيع الآتي , بما لديها من أريج وعبق ..!!
آهٍ منكما ..! لقد وُلدتما , يوم وُلدتما , من رحم أمّكما أخوين توأمين معًا , وعشتما طفلين رضيعين في مهد واحد , بريئين من كلّ عيب ودنس , ترضعكما القرائح الصادقة من أثدائها , والعقول النيّرة من لبانها ساعة كنتما تتناغيان في مهاد الطفولة , وتحبوان مع الزّمن الرّضيع أعوامًا , وكبرتما وطُفْتما في أرجاء الدنيا معًا إلى أن شاب رأس الدهر , وبقيتما في طريق واحدة ولم تفترقا يومًا من حيث تعلمان أنّ فراق الأحبّة قتّال , والبعد حرّاق للقلب الصّادي ..!
..أنا لم أَلقَ في هذا العالم أعظم منكما وفاءً , وأحسن منكما طاعةً لصاحبكما الذي طاف معكما في حدائق الأدب وربا البلاغة ..! تجوعان معي إذا جعتُ .! وتشبعان إذا شبعتُ .... تعطشان إذا عطشتُ وتشربان إذا شربتُ.. تأكلان من عناقيد كرمتي , وتشربان من أجاجين معصرتي..! وتتجرّعان كلّ كؤوسي التي ملأتُها لكما يوم القطاف .!
.. قدّسَتْكما السّماء يوم حملتُما كلام الله للبشريّة عن رسله وأنبيائه ..! .وعظّمَتْكما الأرض يوم نقلتُما للنّاس أروع الروائع ممّا تركه الأفذاذ من آلهة الكلام , وأرباب الأدب في المعمورة ..! فكنتما خير ما أنجبَتِ أدمغة البشريّة جمعاء , تسيران فتسير للوقت خلفكما مواكب العلوم والآداب إلى انقضاء عمر الدهر ..!
أيّها الحرف والقلم ! ..خُلقْتُما , وما خُلقْتُما إلاّ لتكونا قوارير للطّيب الفوّاح , وهل يصحّ أن نصبّ في قوارير الطّيب ماءً آسنًا ..! خُلقْتُما لتكونا أواني للنبيذ المعتّق , وهل يصحّ أن نضع فيكما السّمّ القاتل ..! خُلقْتُما لتكونا طاقة ورد شذيّ , وهل يصحّ أن نطرح فيكما الشّوك والعوسج ..! خُلقْتُما لتكونا كؤوس شهد مصفًّى ، وهل يصحّ أن نملأكما من الصّاب والعلقم..! خُلقتما , وما خُلقتما إلاّ لتطوفا العالم وتبشّرا بالمحبّة , وتناديا معًا بالسّلام , وتكرزا بالعدل , والحريّة , لكنّكما , ومنذ أيّام شبابكما الغضّ , ويا جزعي عليكما , دنَّسكما نفر من النّاس وامتهنوكما , واصطنعوكما على غير ما خلقتما لأجله من النبل، والنزاهة، ونصرة الحق..! وكأنّي بكما كنتما تمتعضان وتحنقان يوم كنتما تُرغمان على التّزوير , والتّحريف , والتّضليل في سلب الأوطان , ونهب الأملاك , والسّطو على الأرزاق , وقطع ألسنة الحقّ كيلا يسمع صوته أحد في هذا العالم!!
..هوذا زمن أدركتماه , يمتهنكما فيه الأُمّيّون الذين يقرؤون ويكتبون..! مثلما يمتهنكما العلماء الذين يجهلون القراءة والكتابة في هذه المسكونة ..! فأصبحتما بذلك أصواتًا في ألسنةِ خُرْسٍ لا يتكلّمون , ومصابيح في أيدي عُمي لا يرون النّور السّاطع ..! ذلك الخريف الحارق والآتي من خلف البحار ليرمي الجحيم فوق رؤوسهم , هو عندهم ربيع زاهر يحمل الفردوس لبلادهم ..!! ولا عجب مع ذلك فيما تلاقيان من أذًى من مشعوذي هذا الزمان الذين يتقنون جهل عربيّتكما ويحسنون عداوتها ..! يكتبون فيعلّقون بكما عرائسها فوق المشانق , وقواعدها على المقاصل ..! أولئك يطلبون غصبًا أن يصعدوا البرناس , والبرناس يصعد فوقهم إلى أعلى قمم السّماء , ويأبى لهم إلاّ أن يبقوا في الحضيض ...!
ليس أديبًا ذاك الذي ينفخ فيكما مِن روحه , فيبعث العداوة والبغضاء بين الناس .! وليس شاعرًا ذاك الذي يفرغ فيكما من جرحه، فيملأكما يأسًا وحزنًا لا فرحًا وأملاً..! وليس كاتبًا ذاك الذي يلقي فيكما من لبّه , فيطفح واحدكما عنصريّةً , وتعصّبًا , وكراهيةً بين الإخوة من أبناء البشر..!
خليليّ..! تعلمان أنتما أنّني أذكركما أينما كنتُ , بتوقير وإجلال عظيمين , مثلما أذكركما بحزن وأسًى عميقين ! ولا أكتمكما سرًّا أنّني كلّما جمعتني الفرصة بتاريخ الشّعوب والأمم ، وهو أحد جُلاّسي القدامى، وقد أخذ يحدّثني عن ماضيه , وحاضره , ويُلقي عليّ من فمه قصصه وأخباره , تذكّرتكما وكنت أقول في نفسي : كم حملَكما هذا العجوز الكذّاب على الدّجل , والاختلاق , وعلى كلّ شهادة زور.! وكم شارك الطغاةَ , والمجرمين , والحسّاد في قتل الحقيقة , ودفنها في مكان قصيّ عن الأنظار حتىّ لا يهتدي إليها أحد في هذا العالم..!
يا صاحبيّ الساكنَين معي دائمًا تحت خيام ظلمتي ونوري ..! لقد سرتُ وراء جنازات كثيرة في هذا العالم , غير أنّه لم يخلع قلبي يومًا , مثل ذلك المشهد ساعة رأيت الحقيقة مُسجّاةً في النعش مرّة , يحملها الأوغاد والرّعاع والسّفلة من أبناء البشر, وهناك عند المقبرة سمعتهم يقولون :
" هوذا الكذب دفناه, وأرحنا العالم من شروره, وقد غيّبناه في اللّحد حيًّا من أجل نصرة الحقّ والعدل في هذا العالم .!! ". أمّا أنا فللوقت سمعت في أعماقي قائلاً يقول, ونفسي تمسح بالمنديل أدمعها : "رحمات الله عليك أيّتها الحقيقة أينما كنتِ في مقابرك , ما أقسى غيابك , كم مرّة ظلمك النّاس , وشرّدوك , وطردوك , وقتلوك , ثمّ أخفَوك تحت وشاح الظلام كي لا يبزغ نورك مع بزوغ الحقّ والعدل فوق أجيال الشعوب والأمم ..!"
خليلَيّ منذ ميعة الصبا .!! ويا رفيقَي دربي إلى حلمي المقيم فوق أعالي القمم ..! ويا عشّاق الحرف والقلم أينما كنتم في هذا العالم ..! لا تتعجّبوا من هذا ! لقد التفتُّ أيّام طفولتي إلى السّماء , وأذكر أنّني كنت جالسًا ساعتئذ في أعلى شرفة من شرفات اللّيل النائم , فرأيت في الأفق قولاً مقدّسًا آتيًا إليكم وناصحًا , وقد ذكر لي من عاين معي يومئذ سقوط هذا النيزك , أنّ هذا القول ما برح يطير فوق العصور , ويجول بين الأمم منذ عهد هوميروس العظيم .! وهأنذا إلى اليوم أحتفظ به لأجلكم في خزانة ذاكرتي , إذ ما زال منذ ذلك العهد يرفرف في فمي ويُنبئ : اِعلموا أيّها النّاس ! إنّ من يكتب حرفًا منكم يومًا ذلك يضع كلّ دماغه على الورق , كذلك ينزع عن نفسه كلّ ملابسها , لتبدو عارية أمام كلّ مُشاهد وعابر سبيل .! فإيّاكم إيّاكم أن تذهبوا بثمرات أدمغتكم إلى أقلامكم وحروفكم قبل أن تنضج الثمرات وتونع .! ولا تبذروا حبّاتكم فوق أسطركم قبل معرفتها , فتكون زِوانًا فاسدًا , لا قمحًا خالصًا .! وإيّاكم أن تتسرّعوا وتنزعوا الأقنعة عن أنفسكم , خشية أن يفتضح الحرفُ والقلمُ أمرَكم ! فتكونوا حديث الناس وذمّهم .!! واعلموا أنّ النّاس بحكم غريزتهم , يدفعهم الجوع والعطش دائمًا ليتهافتوا على الطعام والشّراب فوق الموائد كي يملأوا بطونهم , فلا تنسَوا مع ذلك أنّ أحبّ الموائد إلى نفوسهم من طعام وشراب , تلك الموائد الشّهيّة التي تكون دائمًا ممدودة على الورق .!!
كفرسميع ـــ الجليل
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
900 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع