د.ضرغام الدباغ
دراسات ـ إعلام ـ معلومات
العدد : 137
التاريخ : / 8201
التآمر ــ التحالف ــ التعاهد
أن نتعلم ونتفهم هو أمر ضروري ولكن ليس متأخراً
يطلق الأدب السياسي على التقاء مصالح عدة دول في أنجاز هدف معين مصطلح (تحالف Alliance) أو (ائتلاف Coalition)، أو (أتفاق ومن شروط الأساسية لمثل هذه التحالفات بين الشخصيات السياسية والدول هو العلنية بصفته العامة، وقد تنطوي بعض فقرات أو ملاحق الاتفاق الذي قد يطلق عليه اسم : معاهدة (Convention)، أو (اتفاقية Agreement)، أو (الإعلان المشتركCommunique )، أو إعلان نوايا (Purposely Declaration). ويحتمل أن تضم هذه المسميات بعض الفقرات السرية التي يتفق أطراف (التحالف (Alliance أو (الاتفاق Agreement) أو (الإعلان Declaration) على إبقائها في طي الكتمان لمرحلة محددة أو غير محددة، وقد ينص الاتفاق أو الإعلان على وجود مثل هذه الفقرات من أجل إضفاء شيء من الشفافية والمصداقية على التحالف.
لماذا يكون التحالف سرياً ....؟
لأسباب عديدة يفضل المتحالفون، أو المتعاهدون، إبقاء ما تحالفوا / تعاهدوا عليه سرياً، المعاهدة بأسرها أو جزء منها كملاحق، فتحجب الملاحق، أو بعضها، إما لأنها تخالف قواعد القانون الدولي صراحة أو ضمناً، أو عندما يكون في إذاعة الفقرات إثارة وتداعيات غير مستحبة في أي من أطراف المعاهدة، أو من أطراف إقليمية أو دولية أخرى. أو عندما تتضمن الاتفاقية تنازلات كبيرة، ستثير تفاعلات غير مرغوبة في حالة إذاعتها. فيتفق الأطراف على إبقاء تلك الفقرات في ملاحق تضرب السرية عليها ولا تنشر.
وقد شهدت الحياة السياسية الدولية عبر تاريخها الطويل مراراً عديدة قيام تحالفات سرية غير معلنة، بل يحاول أطرافها إنكارها جاهدين، والسبب الرئيسي في ذلك هو أن الاتفاق مخالف لبنود وقواعد القانون الدولي والعلاقات الدولية والمواثيق المتفق عليها بين الدول(حتى تلك التي تقود النظام الاستعماري)، بالإضافة أن تكون المعاهدة السرية قد تثير ضجة وتوسع من جبهة خصومها، ومثل هذه الاتفاقيات تبقى سرية ولا تعلن فقراتها الكاملة ومن أشهر تلك الاتفاقيات تلك التي عرفت فيما بعد واشتهرت بأسم " اتفاقية سايكس بيكو (Sykes - Picot)".
والاتفاقية التي نجد ضرورة في استعراضها بصورة سريعة، ومن خلالها ستتضح طبيعتها (التآمرية). والاتفاقية / المؤامرة، كانت وليدة مفاوضات دبلوماسية سرية قادها كممثلين لقوى عظمى عزمت على اقتسام الشرق الأوسط واستعمارها تمهيداً لوضعها كمناطق نفوذ لها. وقد ابتدأت المفاوضات الأولى بين الأطراف (بريطانيا / فرنسا / روسيا) بين أعوام 1915/ 1916 ، وقاد المفاوضات من الجانب البريطاني الدبلوماسي مارك سايكس(Mark Sykes)، ومن الجانب الفرنسي الدبلوماسي المختص بشؤون الشرق الأوسط فرانسوا جورج بيكو(Georges (Picot ، والدبلوماسي الروسي سازانوف Sazonov، وتوصلوا بتاريخ 16/ أيار ـ مايو / 1916 أي بعد ما يقارب العام من المباحثات السرية إلى عقد اتفاقية لتقاسم النفوذ في الشرق الأوسط، ستعرف فيما بعد باتفاقية سايكس ـ بيكو وذلك بسبب انسحاب الروس منها وقاموا بإعلان محتوياتها في 23/ تشرين الثاني ـ نوفمبر/ 1917 في صحيفة برافدا بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية.
ولكن تداول الاتفاقية / المؤامرة ظل سرياً وإن خرجت تلك النوايا والمخططات إلى النور في مؤتمر سان ريمو (San Remo Conference) بتاريخ 26/ نيسان ـ أبريل / 1920، ومن بعد في عصبة الأمم (League Nations) تلك المنظمة الدولية (يطلق عليها دولية جزافاً) التي استخدمت كمطية لتحقيق نوايا المستعمرين بإضفاء الشرعية الدولية عليها وتطويع (القانون الدولي) لتنفيذ مآرب تلك الدول التي تبنت المطامع الاستعمارية بإقرارها نظام الانتداب Mandat System بتاريخ 24/ تموز ـ يوليه / 1924.
إذن فلجوء الدول العظمى المنتصرة والمهيمنة بقوة السلاح أولاً إلى الشرعية والقانون، من أجل تسويغ طغيانها، ثم تشرعن ذلك في تحالفات / مؤامرات، وفي مؤتمرات استعمارية، وهي في ذلك تتسيد وتهيمن، وتفرض قواعد العدل وفق ما تره وتفسره، بل وتضع حتى مقاييس للأخلاق وللحقوق والالتزامات في إطار قوانين وقواعد واتفاقيات إرغام يفرضها الأقوياء والمنتصرون وليس بالاتفاق والتوافق كما يشير عنوانها، وما عصبة الأمم إلا منظمة أسسها المنتصرون لتقرير ما سيكون عليه الحال بعد نهاية الحرب، وإسباغ (شرعية وصفة القانون واحتكار تفسيره) على عملية إعادة التقسيم بين المنتصرين وسلب الخاسرين حقوقهم وحتى ممتلكاتهم.
المؤامرة الدولية (Complot) إذن هي أتفاق سياسي بين دولتين أو عدة دول، أو بين أفراد وشخصيات اعتبارية، ولكن الفرق بينها وبين المعاهدات والاتفاقات المعروفة في الحياة السياسية الدولية ويقرها القانون الدولي، لذلك لا يصح تسميتها معاهدة أو أتفاق ذلك لأن الأطراف الموقعة عليه وبأعتبار أنها موادها تخالف قواعد القانون الدولي والعلاقات بين الدول، ترغب في الحفاظ بها سرية، وأيضاً لأنها قد تستفز دولا ً كثيراً وتعقد من طبيعة الموقف السياسي.
هل هناك ما يميز المؤامرات جديدها وقديمها ..؟
تبدأ سيناريوهات المؤامرات الدولية التي نعرفها غالباً هكذا :
أولاً ـ دولة لها مصالح إستراتيجية (غالباً دولة عظمى) + دولة محلية لها مصالح محلية توسعية على صعيد المنطقة + دولة هدف للمؤامرة بسبب معطيات سياسية / اقتصادية ومصالح مختلفة.
ثانياً ـ دولة عظمى (أو عدة دول) تطمح إلى خلق وضع جديد يضمن مصالحها العالمية + دولة محلية لها هواجسها الأمنية + قوة محلية(أو قوى) تريد أن تبرز على صعيد المنطقة فتقبل بالأدوار الثانوية (فتقبل أن تكون مقراً أو ممراً للعدوان والتوسع) على أمل أن تنال حصة في الترتيبات النهائية.
ثالثا ـ قوة عظمى تطلب هدفاً استراتيجياً وتترك ما دونه + قوة محلية (أو قوى) تريد أن تمثل الدولة الهدف قوة تنافسها + قوة (أو قوى)محلية تقبل الاشتراك في المؤامرة.
والأساس في تشكل أطراف المؤامرة هو:
ــ وجود قوة عظمى ضامنة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً للمؤامرة.
ــ وجود مصالح سياسية مشتركة كأهداف استراتيجية (خصم متفق على إزالته، أو تدميره أو إضعافه).
ــ يشترط وجود تفاهم بدرجة عميقة لدرجة التنسيق الاستخباري المباشر.
ــ القبول بتضحيات محدودة / باهظة.
ــ رسم خارطة طريق تخضع لها الأجهزة السياسية والعسكرية والإعلامية، تمارس بحذاقة.
ــ وجود غرفة عمليات مشتركة لمتابعة الهدف.
ــ القبول بفترة غير محدودة قد تستغرق سنوات عديدة لتحقيق الهدف النهائي.
ــ عدم الخروج عن النص الذي يحدد مهام كل طرف من أطراف التحالف(المؤامرة)، والخروج عن النص، يتحمل تبعاته الطرف الخارج عن النص، دون أن يتأثر الهدف الأساسي..
ــ وضع آليات يحتكم إليها الأطراف في حال نشوب خلافات فرعية.
ــ التفاهم على مدى بعيد (بعد بلوغ الأهداف المشتركة).
ويشهد العصر الحديث مؤامرات / تحالفات، معاهدات إرغام، لا تتفق مع شكل وجوهر المعاهدات إلا شكلياً، وهي أشد خبثاً وأوسع مدى من (مؤامرة) سايكس بيكو التي يخجل الموقعون عليها من الاعتراف بها إلى يومنا هذا على الرغم من ذيوع أمرها، وشيوع أسرارها. وما قيمة مؤامرة قتل القيصر يوليوس حيالها .. تلك المؤامرة التي برع في إخراجها وتمثيلها دهاقنة السياسة وفرسانها في أروقة الحكم في روما القديمة، ثم أخرجت في النهاية من وراء الكواليس إلى العلن، بل وتم تمثيلها على المسرح (ويليام شكسبير) وتمثيلها في السينما، مؤامرة قذرة أشترك فيها خصوم القيصر وحلفاؤه، لاغتيال القيصر (في آذار من عام 44 ق. م) انشقت الدولة العظمى على أثره، ولكن القيصر القتيل مظلوماً أستطاع أن يوجه الاتهام كأبرع مدع عام، وشكل المحكمة وأصدر حكمه قبل أن يتهاوى على رخام سلالم مجلس الشيوخ ويلفظ أنفاسه الأخيرة عندما أطلق قولته الشهيرة: حتى أنت يا بروتوس ...! ، وكانت إدانته الشهيرة التي ذهبت مثلاً إلى يومنا هذا دليلاً على وضاعة التآمر.
والقيصر الذي كان يمثل الشرعية موجود دائماً، والمتآمرون موجودون كذلك دائماً سواء تمثل بالخائن بروتس أو بأسم آخر ... وهناك دائماً صديق يخون الثقة، أو قائد يخون مسؤوليته، ولن يصعب عليه إيجاد الذرائع، أو عصبة متآمرون يتفقون بما يسميه القانون اتفاقا جنائياً على تقاسم السلطة وأعتبار البلاد مغنم من المغانم.
* * * *
وفي كل مؤامرة هناك طرف قائد لها، وأطراف تلعب دور توافق المصالح (Consensus interests)، وتقر الأطراف الأخرى بمشروعية مطالب القوة العظمى بوصفها عمود الارتكاز في التحالف (المؤامرة)، وقد تنشب خلافات جانبية بين الأطراف الصغيرة (القوى المحلية) بسبب تغلب الأطماع على ما متفق عليه على الورق، ولكن الاتفاق بتفاصيله وصفحاته العديدة، ينطوي على آليات لحل التناقضات الثانوية حيال الأهداف العظمى التي تبقي روح التحالف قائماً.
ولا بد من الاعتراف بأن التاريخ القديم والحديث على ثراء صفحاته، لم نشهد أو نقرأ عن مؤامرة حيكت خيوطها بدقة ومهارة كالمؤامرة التي تديرها الولايات المتحدة ضد أمن واستقرار أقطار الشرق الأوسط، بغايات وأهداف غامضة، وتشر دلائلها إلى غايات وأهداف خطيرة. التي تحاك خيوطها منذ زمن بعيد وتنفذ بمراحل وعلى درجة عالية جداً من الصبر وعمليات التمويه المتقنة (Camouflage) التي قد تكلف مواقف سياسية وتضحيات مهمة، ولكن على أمل أن تكون النتائج الأخيرة تكافئ التكاليف. دول تمثل قوة عظمى، وقوة دولية محلية، وقوة محلية تتوق للعب دور القوة المهيمنة .
العقل السياسي الأمريكي، هو عقل يتقبل أسلوب المؤامرة، بل يفضلها ويستحسنها على غيرها. والتحالف / المؤامرة الجديدة على الشرق الأوسط، وتحديداً على الأقطار العربية، تحالف / مؤامرة بصيغة متطورة
عن صيغة سايكس بيكو، بالنظر لأختلاف الظروف والمعطيات السياسية عن تلك التي سادت في مرحلة مطلع القرن العشرين .
والبراغماتية (Pragmatism) هذه هي ذروة ما بلغه العقل السياسي في تطويره للميكافيلية، في تخل كامل عن الأخلاق في السياسة، وهنا أجاز العقل السياسي الأمريكي البراغماتي، التآمر وكافة صنوف اللعب وراء الكواليس. الأمريكان برغماتيون .. ومن هم أكثر منهم براغماتية ... بل هم من طور البرغماتية المعاصرة من ميكافيلية عصر النهضة.. ومن أولى مبادئها: أن لا أخلاق في السياسة، بل هي لعبة مصالح .. والنتائج تثبت صحة الأساليب. ووجدت البراغماتية في أمريكا (الولايات المتحدة)، وجدت المناخ المناسب (وتلك ليست مصادفة !) لتطوير الأفكار البراغماتية، ثم كان وليم جيمس (James (1842 - 1910 William أحد أبرز مفكري هذه المدرسة التي أطلق عليها البرغماتية، أي المذهب العملي. وقد وجدت هذه الأفكار إيضاحا لها عند الفيلسوف الأمريكي تشارلس ساند بيرس (- 1839 1914) الذي أعتبر العمل مبداً مطلقاً بإعلان هذه القاعدة (أن تصورنا لأي موضوع هو تنبؤنا لما قد ينتج عن هذا الموضوع من آثار عملية لا أكثر). ولكن علماء آخرون في منح هذا المذهب الانتهازي، ألاعتدائي القائم على مبادئ القوة والغلبة في منحه أبعاد فلسفية عميقة باستعارات من فلسفات أوربية مثل جورياروس الأمريكي (1855- 1916)، والاهم كان الأمريكي جون ديوي ((1859 - 1952.
أركان المؤامرة هذه لا يريدون إعلانها مؤامرة شاملة، فالأمر بهذه الحالة سيوسع من طول الجبهة وعرضها وعمقها .. سيسيئ وينهي الرمز الباعثي (Motivation) لبعض للمشاركين ويؤدي إلى المزيد من العزل وهو ما لا يريده المخرج الكبير، تجنباً لإحراج صغار اللاعبين والمقاولين الثانويين في الساحات التي تدور فيها جوانب من الحلف / المؤامرة، فتحترق أوراق قائد ميليشيا هنا أو زعيم محلي هناك، وتختلق المعارك، وتنشب صراعات، إلا أنها بين ممثلين ثانويين وخيوط اللعبة في الأخير هي في يد من يدير اللعبة.. فليصدق من يصدق، وليصم أذنيه من يريد، أو ليطلق التصريحات الباردة .. ويعبر عن تأييده هنا، وعن شجبه هناك، ولكنه لا يلعب إلا ضمن الخطة وهنا لا يسأل أحد عن المنطق ... المنطق السليم هي فقط في النتائج التي سيجنيها التحالف ..
هذا هو الأسلوب الجديد الذي اكتشفته الولايات المتحدة، بالأحرى أجهزتها السياسية والعلمية والأمنية. (الفكر الموجه لأجهزة الأمن خبراء وبروفسورات) قادة سياسيون إغراق المنطقة برجال حكم وفاعليات تعمل ولها ميليشيات، وشخصيات سياسية نافذة تمثل مفاتيح العمل السياسي وغير السياسي، أنشطة من ضمنها الاغتيال والإبادة والترحيل والتهجير فهو أسلوب معتمد منذ أن رحل الشعب الفلسطيني من دياره، هو أسلوب لا يعارض حقوق الإنسان وفق القاموس السياسي الأمريكي، وفق منطق : حسناً أنتم لا تحسنون الاستماع لبعضكم، فلتتقاتلوا إذن، والكل يعمل تحت إرشادها، ويتصارعون كذلك ..!.
رئيس جمهورية هو نفسه زعيم ميليشيا، رئيس الوزراء يقود ميليشيا تابعة له، وهناك شخصيات متنفذة لها ميليشيات تفرض وزراءها، في النظام الديمقراطي الجديد زعيم ميليشيا آخر يتحدى الأكثرية ويرفع بوجهها السلاح ... من الإرهابي هنا ومن هو الديمقراطي حتى العظام ...! من هي القوى الواعدة ..؟، حديث عن أكثرية يختلط بأزيز الرصاص وهدير المدافع، أين القانون، ها هي ديمقراطية مسلحة أمامك، تقتل وتذبح وتبيد، ولكن بأرتباطها بخيوط واضحة أو خفية بالخارج يحميها، والخارج يتآمر ويدي لعبة التوازنات الهشة، يتحالف، يتفاوض، يساوم، أما الحراس من قادة الميليشيات فيقبضون رواتباً وبعضهم من جهتين أو أكثر ... وأنت إذ تشاهد قطعة فاخرة من خشب المهاغون (Mahagony) لا تنسفه بمفرقعات ، بل بحفنة واحدة من النمل الأبيض (الأرضة) فيصبح كومة من التراب... وهناك أنواع كارثية من الأرضة ..!
أنا لا أعمل مع الموساد، ربما ...ولكن من يدفع له راتبه يفعل ذلك سراً وعلناً ....أنا ضد الأمريكان.. زعماً ولكن مرجعيته التي يأتمر بأمرها تتفاوض مع الأمريكان (على زعم أنها تتمتع بالدهاء!) وتنسق الجهود
معها هنا وهناك في أكثر من ساحة.. وكأن لبنان في المريخ وليس على مبعدة مرمى حجر .. وليس نادراً أن تتلقى الأطراف المتحاربة الدعم المالي والسياسي والعسكري من طرف واحد ..!
والحق أن هذا الأسلوب ليس بجديد كلياً، فالتخابث والتآمر، هو فن يجيده الاستعمار القديم والجديد، أيما إجادة، والإمبريالية الحديثة العولمة (Globalisation) وتاريخهم يشهد وقائع الصراعات السياسية والعسكرية في البلقان (الحروب البلقانية 1912 / 1913)، تقاتل فيه البلقانيون عرقياً وطائفياً، فيما أطلق عليه (بالبلقنة ــ balkanism )، ثم شيئ مماثل في الفيثنام، بين شمال وجنوب وخطوط عرض ابتكروها بين شعب واحد وجعلوهم يتقاتلون سنين طويلة فيما يعرف (بالفثنمة ــ Vithnamisation )، وليتكرر هذا بين الأطراف اللبنانية التي تتقاتل منذ 1974 وحتى يومنا هذا وخيوط العملية تدار من فوق وتذكى النيران ليتواصل الحريق فيما أطلق عليه سياسياً (اللبننة). وها أن المؤشرات تشير أن سوريا تتجه بنفس الاتجاه (السورنة) .
فسوريا بالمؤشرات الواقعية ستعيش صراعات مسلحة بين قوى محلية زمناً مقبلاً يصعب تحديد أمده، فالوجود الروسي صار شرعياً يفاوض ويفرض، ويهدد بالحرب، وهذا ليس بمجاني، وإيران تلتهم أراضي ومناجم الفوسفات، والأمريكان سيشكلون بدورهم منطقة يديرها نفوذهم عبر ميليشيات وزعماء أشبه بالمقاولين، ولا أريد التشاؤم لأقول أني أخشى على (تعريق) الصراع، أي تتولى جهات عراقية بالتناقض لدرجة الصراع، وتتولى جهات المؤامرة بالسيطرة على منسوب الصراع بحسب معطيات غير دولية أو اقليمية ولكنها ليست عراقية.
هذه التفاهمات، والتحالفات الطويلة الأجل منها والقصيرة ستفضي في النهاية إلى دول لا هي مستقلة ولا مستعمرة، لا جائعة ولا شبعانة، تديرها مراكز نفوذ وقى، ومعظمها يوجه من الخارج، أو يؤثر الخارج عليها بدرجة تفقدها استقلالية قرارها، وصدقيته، و"دول" وشعوب همومها بسيطة جداً ولكنها صعبة وتجعلها صعبة المنال : كهرباء، ماء، مواصلات، هاتف، مجاري، أمن مفقود، اغتيالات مجانية أو بثمن زهيد، شخصيات كاريكاتورية ... تذهب وأخرى تأتي في مسلسل لا نهاية له !
من المؤسف القول ختاماً، أن دعوات مخلصة للأتحاد والتجمع والإنقاذ توجه للحركات السياسية الغارقة في الصراعات وطغيان ثقافة الثأر والكراهية والانتقام، المتأصلة في جذور مجتمعاتنا، لا تلغيها ثقافات معاصرة، وشيوع لغة الشتائم البذيئة ويتصاعد التصرف الشرس وتجاهل حقوق واعتبارات الآخرين، والمبالغة بفرض الأمر الواقع بالقوة المفرطة، لقطع دابر أي محاولة للتفكير والتصرف السياسي المتوازن الذي ينطوي على حكمة، ورؤية بعيدة، بحيث يبدو من يدعو الناس للوحدة والاتحاد والتضامن الجمعي بوجه التفتيت، مدعاة للسخرية، وسط قعقعة السلاح التي يرحب بها ويطرب على وقعها كبار قادة التحالف التآمري.
متى ترتاح هذا الأوطان المتعبة .. متى سيتجه الأطفال للمدارس بأمن، متى يستطيع أن يأمن المواطن على حياته، وهل هناك من يأمن على حياته وسط مسرحية القتل الاستعراضية هذه ..؟ إذا كان الرصاص قد جندل قائد لواء حماية رئيس الوزراء، وضاع دمه بين قبائل الميليشيات ..!
أن نتعلم ونتفهم هو أمر جيد ولكن أخشى ما أخشاه أن لا يكون متأخراً، حين لا يعد هناك وقت لإعادة النظر .
في ألمانيا قال القس مارتن نيمولر (Martin Niemöller) حكمة بليغة : " في ألمانيا عندما اعتقلوا الشيوعيين لم أبال لأنني لست شيوعياً، وعندما اضطهدوا اليهود لم أبال لأنني لست يهودياً، ثم عندما اضطهدوا النقابات العمالية لم أبال لأني لم أكن منهم .. بعدها عندما اضطهدوا الكاثوليك لم أبالي لأني بروتستنتي.. وعندما اضطهدوني.. لم يبق أحد حينها ليدافع عني "
أيها الناس أحذروا ...
3238 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع