نزار جاف
من أوراق العمر.. أستاذان -(٣ـ ٣)..أ
في السعدية، حيث قضيت أهم الاعوام التي ساهمت ببلورة بدايات نوع من الرٶية الفکرية لي للعالم، کان لي أبن عمتي الساکن في قرية"زاوية" التي کانت تبعد بضعة کيلومترات عن مدينة السعدية، وکان له منزلا عامرا في وسط بستان لأشجار النخيل والبرتقال والليمون والتوت وماإليه، وکان له أربعة أبناء وبنتين وقد ربطتني علاقة قوية بهم وبشکل خاص بأبنه"ثروت"، الذي کان شغوفا بالمطالعة کوالده وبقية أخوانه، لکن الذي ميزه عنهم إنه کان دقيق الملاحظة وذو حس نقدي مرهف، في هذه الدار کانت هناك مکتبة کبيرة عامرة بمختلف أنواع الروايات العالمية المشهورة، وأکثر شئ کان يلفت نظري إنني کلما کنت أذهب هناك أجد کل واحد منهم بيده کتاب يقرأه وصمت لذيذ يلف کل رکن وزاوية في ذلك البيت يتخلله زقزقة العصافير وصياح الديك، وکانت زوجة أبن عمتي تنبه الجميع عند حلول وقت وجبات الطعام.
کنت مواظبا للذهاب الى الزاوية على دراجتي الصفراء التي کنت أعشقها لحد الجنون، وکنت أحرص على الذهاب عصر کل يوم خميس وأعود للبيت يوم الجمعة عصرا إضافة الى ذهابي الى هناك أيام العطل الرسمية ناهيك عن إنني وخلال العطلة الصيفية وعطلة نصف السنة کنت بمثابة مقيم هناك، والحقيقة إنهم کانوا يلحون کثيرا على زيارتي وبقائي عندهم وخصوصا"ثروت"، في هذا البيت ومن تلك المکتبة نهلت من مروج الادب والثقافة الکثير والذي کان يظهر واضحا وفي ذلك الوقت على مواضيعي الانشائية.
في الصف الثاني المتوسط کنت عندما تشرفت برٶية أستاذي الکبير محمد حسين آل ياسين، والذي کانت له کاريزما خاصة إذ کان الصمت والرهبة تطغي على الصف کله مع دخوله وکان يتکلم لغة فصحى محببة للجميع، خصوصا وإنه کان يحرص على عدم إستخدام الکلمات الغريبة والصعبة على الفهم، وقد إنتبه لي جيدا عندما قرأ أول موضوع إنشائي طلبه منا، إذ بادرني بسٶال وهو يعطيني دفتر الانشاء الخاص بي قائلا: لمن تقرأ؟
فأجبته وقد کادت الفرحة أن تطير بي، بأنني أقرأ لميشال زيفاکو وبلزاك وهمنغواي ونجيب محفوظ، وقد کنت أقرأ لأميل زولا وبلزاك لکنني لاأقرأ لهم منذ العام الماضي؟
فسألني: لماذا لم تعد تقرأ لهم؟
فأجبته بأنني عملت بنصيحة الاستاذ عبدالرزاق! فهتف محتجا؛ ومن يکون عبدالرزاق حتى يمنعك عن قراءة کتب؟ فقلت متلعثما؛ استاذ اللغة العربية الذي سبقك.
فقال بصوت سمعه الصف کله؛ حتى لو کان أکبر فطحل وعلامة في اللغة فليس له الحق بذلك، أطلق العنان لذهنك کي يرتشف من کل مصدر وکلا مايقع بين يديك ودع ذهنك ومستواك الثقافي هو الذي يحدد من تقبل ومن ترفض! الحق لابد من الاقرار بأنني قد أخذت برأيه وأنهيت الفترة"العبرزاقية" بقرار حاسم وحازم!
حبي وشغفي للغة العربية وتعلقي الشديد بها جعل الاستاذ آل ياسين يمنحني إهتماما واضحا بحيث صار الجميع يلاحظه ولعل أجمل ذکرى أحملها عنه تجلت في ذلك اليوم عندما جاء طالب من الصف السادس الادبي يقرع باب صفنا وإستأذن من المدرس بأن الاستاذ محمد حسين آل ياسين يريد الطالب نزار جمال لدقائق، وذهبت معه لأجد الاستاذ يطلب من أمام طلاب الصف السادس الادبي أن أقوم بشرح مطلع قصيدة بشارة الخوري"الاخطل الصغير" (عش أنت) والتي يقول فيها:
عش أنت أني مت بعدك. فأجبته الشاعر المسيحي هنا يخاطب حبيبته المسلمة التي ترقد بسلام في قبرها، أي المخاطب"بضم الميم" ميت! ففاجئني قائلا: أخبرهم نزار کيف توصلت لمعرفة ذلك؟ فقلت تتبعت ذلك حتى حصلت على الجواب، فأردف متسائلا: وکيف عرفت إن حبيبة الشاعر مسلمة؟ فقلت هو"أي الاخطل الصغير"، يخاطبها في أحد أبيات القصيدة(وحياة عينك وهي عندي مثلما القرآن عندك) ولکن الموسيقار فريد الاطرش غير هذه الکلمة في عندما غناها وإستخدم کلمة"الايمان" بدلا عن"القرآن" إجلالا له. فخاطبهم قائلا: هکذا کونوا لاتقرأوا شيئا إلا تفهموا مقاصده ومعانيه.
في مدينة السعدية، کنت على علاقة قوية مع بعض من أقربائي ممن کانوا في سني حيث کنا نلتقي دائما في دار ذات طراز قديم کانت للمرحوم"علي بگ رضا جاف" ومن ضمنهم قريبي وصديقي العزيز هيوا علي جاف الذي إستفدت کثيرا وهو من زودني بصور عن السعدية ومعلومات أخرى کنت قد نسيتها، هذه الدار التي کانت عامرة الى الثمانينيات من القرن الماضي، إستملکتها الدولة فيما بعد لقيمتها الاثرية. وکان هناك وعلى بعد 200 متر تقريبا الجامع الکبير، الذي بناه جدي الاکبر محمود باشا الجاف، نتردد عليه ونصلي بعض الفروض صلاة جماعة، وفي هذا المسجد صارت لي علاقة صداقة مع شاب طرح علي فيما بعد أن أصبح درويشا على الطريقة النقشبندية التي لم أکن أعرف عنها شيئا وقتئذ، وفي أحد الليالي ذهبت الى حلقة کان فيها شيخ شاب وحضور من مختلف الاعمار رغم إن الذين کانوا في سني حينئذ کانوا يشکلون الاکثرية، وبقينا الى ثلاثة ساعات ونحن في حلقة ذکر حيث نهز رٶوسنا ذات اليمين وذات الشمال وکان البعض تنتابه حالة أشبه بالصرع، والحقيقة أتذکر جيدا بأنني عندما نهضت صباح اليوم التالي وذهبت الى المدرسة کانت الآثار ظاهرة على وجهي ولاسيما عيوني، يومها بادرني الاستاذ آل ياسين بأن لو کنت مريضا أو مرهقا فبإمکاني أن أستسمح المدير لأعود للبيت، فقلت له لا لقد کنت في حلقة ذکر! ورأيت الدهشة والامتعاض معا في عينيه عندما حدق مليا وسکت وبعد إنتهاء الدرس طلب مني الذهاب معه الصالة التي کانت فيها غرفة المدرسين وغرفة الادارة، وقال لي: مالك وماللذکر؟
فقلت؛ لقد أعلنت توبتي! فإرتسمت إبتسامة ساخرة على وجهه وقال لي جملة واحدة جعلتني أترك حلقة الذکر تلك وأجعلها طي النسيان: من ماذا تتوب؟ أترك هذا الهراء وعد لنفسك قبل أن تضيع! وللحديث صلة
4850 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع