بقلم د. زكي الجابر
تمكين المرأة بين صدق العمل وأكذوبة القول
إعداد: د. حياة جاسم محمد
هذه هي صورتُها في نَصٍّ بابِليٍّ ينتمي إلى الألفِ الأوّلِ قبل الميلاد:
لا تَعشَقْ يا سيّدي، لا تَعشَقْ،
فالمرأةُ حَجَرٌ أو حُفرَه،
هاويةٌ، فَخٌّ، مَصِيدَه،
المرأةُ خِنجَرٌ حَديديٌّ مَسنونٌ يَقطَعُ رَقَبَةَ الرَجُل
وذاك هو واقِعُها لَدَى فِرعونَ وقَومِه، يفيضُ النيلُ ويَشتدُّ غَضَبُهُ، يُغرِقُ ما حَوالَيهِ مِياهاً وزَبَداً، ولا يهدأُ لهُ قرارٌ حتَّى تُلقِيَ في أحضانِهِ فتاةٌ بنَفسِها ونَفيسِها، شَيِّقَةً يَحتَويها شَيِّق!
وذاك هو واقِعُها أيضاً لدَى الإِغريقِ، يَركبونَ البحرَ غازِينَ وتُجّاراً حتّى إذا هبَّتِ الريحُ العَصُوفُ على سَفائِنِهم لَجؤوا إلى إِلقاءِ فتاةٍ في اليَمِّ الهائجِ اعتقاداً مِنهم بأنّ العاصفةَ ستَهدأُ، وتعودُ الريحُ تُداعِبُ وُجوهَهُم وشُعورَهم لِيُعاوِدا السُكْرَ والغَزْوَ والغَزْوَ والسُكْر. وإذا ما هاجَ البَحرُ عاصِفاً تارةً أُخرَى فَثَمَّةَ فتاةٌ جميلةٌ أُخرَى تُقَدَّمَ قُرْباناً جميلاً يستريحُ إليها شَبَقُ الريحِ المُفتَرِس.
وتلك عادتُها، لا تعرفُ الوفاءَ لِمَن يَمنحُها الوفاء. خانتْ أَباها فباحَتْ بالسرِّ الذي يفتحُ الأسوارَ لقائدٍ غازٍ يُريدُ أن يَكتَسِحَ مَملكةَ أَبيها نافِذاً عَبْرَ أسوارِ عاصمتِها الحَضَر عند مَوصِلِ العراق. تلك عادتُها، الغَدْرُ والخيانَةُ ونَكْثُ العهود. أَلَمْ يَقُلْ فيها شاعرٌ كبيرٌ من شعرائِنا الفُحول:(1)
إذا غَدَرتْ حَسناءُ وَفَّتْ بعهدِها
فَمِنْ عَهدِها أَلَّا يَدومَ لها عَهدُ!
وفي الأدبِ المسرحيِّ اليوغوسلاڤيِّ الحديثِ(2) كان المهندسُ يبني الجِسرَ بدِقَّةٍ وحِرصٍ، حتّى إذا استقامَ على دعائمِه انهدَّ وتَبعثَرَ، فكان أن ساورَتْهُ الهَواجِسُ بأن يَضعَ جَسدَ زوجتِه بين طَيَّاتِ الحَجَرِ، وتحوَّلَتِ الهواجِسُ إلى واقعٍ ونامَتِ المرأةُ نَوْمَتَها الأَبديَّةَ بين حِجارَةِ الجِسرِ الذي انتصبَ شامِخاً تقطعُه العرباتُ والدوابُّ وما عليها، وتعبرُ السَفائِنُ تحت قوسِه سابحةً فوق مِياهِه.
وصورتُها هي في أدبِنا المعاصرِ، أدبِ نجيب محفوظ كما عَكَسَتْها روايتُه ’’بداية ونهاية‘‘، الفتاةُ عاثِرةُ الحظِّ تُعيلُ الأُسرَةَ وتُمِدُّ أخاها بالمالِ ليَتخرَّجَ ضابِطاً، وكان طريقُها إلى ذلك بيعَ جسدِها. وكان أنْ وَقعتْ في قبضةِ الشرطةِ، وقد آن الأوانُ ليُستَرَدَّ الشَرفُ الرفيعُ، فيقودُها أخوها الضابطُ الشَهمُ لتُلقِيَ بنفسِها في النيلِ لتَحتضنَها وتحتضنَ عارَها أمواجُه، ويرفعُ الضابطُ رأسَه نَقِيَّ الجبينِ، فَلا مَن رأى ولا مَن سَمِعَ، وليس على كَتِفِه المُرصَّعِ بالنُجومِ لَطخَةُ عار!
وصورتُها هي ’’حميدة‘‘، المرأةُ اللَعوبُ في رائعةِ محفوظ الأخرى ’’زقاق المدق‘‘، تُغرِي ولا تُغرَى (بفتح الراء) وتَفتِنُ ولا تُفتَن (بفتح التاء). وبعد ذلك فهي الراقصةُ الشرقيّةُ في أفلامِنا، فِتنةُ العُرْيِ وإِغواءُ الهَزِّ.
وأخيرا، صورتُها هي ’’أمينة‘‘ في قِمَّةِ إبداعِ محفوظ، ثُلاثيَّتِه، ’’أمينة‘‘، المرأةُ الوديعةُ المُسالِمةُ الخائفةُ التي لا تملِكُ الجُرأَةَ حتّى على تَخَطِّي عَتَبَةِ البابِ لزيارةِ سيّدِنا الحسين، وحين فَعلتْ ذلك وانكسرت كَتِفُها بسببِ حادثٍ عارِضٍ طَردها ’’سي السيّد‘‘، زوجُها الذي يلبسُ لِباسَ الوَرِعِ التَقِيِّ مع الناسِ في واضِحةِ النهارِ، حتّى إذا جَنَّ الليلُ هرعَ إلى مَواخيرِ ’’العَوالِمِ‘‘ ليَكْرَعَ بِنتَ الحانِ ويُمارِسَ الرَقصَ والغِناءَ وما هو أكثرُ وأقبحُ. وفي حقلِ الإنتاجِ الفنيِّ أجادَتْ ’’أمينة رِزق‘‘ تمثيلَ دورِ أمينة سينمائياً، كما أدَّتِ الدَورَ نَفسَهُ ’’هُدى سلطان‘‘ فأبدعتْ تَلفَزِيَّاً أَيَّما إِبداع.
وأخيراً صورةُ المرأةِ الريفيّةِ التي اقترنتْ في الفيلمِ المصريِّ بالبلاهةِ والغباءِ و’’الغَلابَة‘‘، وفي ظَنِّي أَنّكَ شاهدتَ هذه الصورةَ في أكثرِ من فيلمٍ فرَثَيتَ لِبَلْواها وتألَّمتَ لِشَكواها.
أسوقُ إليكَ هذا الحديثَ ما دامَ ثَمَّةَ حديثٌ حولَ موضوعِ ’’تَمكينِ المرأةِ‘‘ يدورُ هنا وهناكَ في المحافلِ الدوليَّةِ ومؤسَّساتِ المُجتمعِ المَدَنِيِّ ودوائرَ أخرى مَسؤولةٍ مَعنِيَّةٍ بتطويرِ الشأنِ الاجتماعيِّ، وهو موضوعٌ يَجْدُرُ بنا تَلَمُّسُهُ والعملُ من أجلهِ على صَعيدِ الواقعِ بِقَدْرِ ما يُثيرُ فينا تَلَمُّسُهُ على صعيدِ الفنِّ من إحساسٍ بالشفقةِ والأسَى. وتمكينُ المرأةِ يعني الانتقالَ بالمرأةِ من صورتِها تلكَ، الصورةِ التي تعكسُ واقعَ الضَعفِ والاستسلامِ والغِوايةِ والتخلُّفِ إلى واقعِ المَكانَةِ والفعلِ والتقدُّمِ، واقعِ تمكينِ المرأةِ من الاختيارِ والوصولِ إلى مراكزِ النفوذِ، وذلك ينطوي على تَعلُّمِها والارتفاعِ بمستوَى دَخْلِها والتوفيقِ بين العملِ خارجَ المنزلِ والعِنايةِ بشؤونِ الأسرةِ والتَخَلِّي عن النظرِ إليها على أَنَّها معملُ تفريخٍ وتربيةِ فِراخٍ، ولا تستحقُّ إلا النظرةَ الدُون.
قد تكونُ لغةُ الأرقامِ أبلغَ أحياناً في التعبيرِ عن الوصفِ برَصْفِ الكلماتِ والعبارات. فبالرغمِ من التقدُّمِ الذي حصلَ في مجالِ تشغيلِ المرأةِ في الوطنِ العربيِّ خلالَ الفترةِ الواقعةِ ما بين 1970 و 1991 فإِنَّ تقريرَ برنامجِ الأممِ المتَّحدةِ للتنميةِ (1995) يَنُصُّ على أَنَّ 17 بالمائةِ فقط من النساءِ العَرَبيّاتِ يُساهِمْنَ في العملِ النظاميِّ، ولا تحتلُّ النِسوةُ إلا أربعةً بالمائةِ من المقاعدِ تحت ظِلالِ قِبابِ ما يُعرَفُ بالپرلمانِ، وهي نِسبةٌ تقِلُّ عَشْرةً بالمائةِ عن المعدَّلِ المألوفِ في العالَمِ النامي.
لقد نشرتِ الوكالةُ السويديّةُ للتنميةِ الدوليّةِ في جريدتِها ’’تحقيقُ تَوازُن‘‘ وصفاً ليومِ أسرةٍ تعيشُ في مكانٍ ما في أفريقيا، كان يومُ المرأةِ فيه يأخذُ منحَىً رَتيباً لا يتغيّرُ حتى إذا كانتْ حامِلاً. إنها أوّلُ مَن يستيقظُ في الأسرةِ، تُوقِدُ النارَ، تُرضعُ وليدَها من ثَديِها، تُهيّئُ الإفطارَ، تأكلُ، تُحَمِّمُ الصغاَر وتُلبِسُهُم، تَقطعُ ما يَقْرُبُ من كيلومترٍ لِجَلبِ الماءِ وتعودُ لِتُطعمَ الماشِيةَ وتَسقيَها، تُنظّفُ القُدورَ، تَجلِبُ الماءَ مرّةً أخرَى، تَغسِلُ الملابسَ، تُرضع طفلَها، تَقطعُ مسافةَ كيلومترٍ حاملةً الطعامَ لِزوجِها، تعودُ لتقطعَ مسافةَ كيلومترٍ آخرَ إلى الحقلِ، تُقصِي الأعشابَ الضارّةَ، تُرضِعُ طفلَها، تجمعُ الحطبَ وهي في طريقِ العودةِ إلى البيتِ، تصلُ البيتَ بعد قَطعِ مسافةِ كيلومترٍ، تُهشِّمُ الذُرةَ، تَقطعُ مسافةَ كيلومترٍ آخرَ لجلبِ الماءِ، تعودُ إلى البيتِ لتوقِدَ النارَ، تُعِدُّ الطعامَ، تأكلُ، تُرضعُ وليدَها، تُرتِّبُ البيتَ، يَحينُ وقتُ النومِ، وهي آخِرُ مَن يَأوِي إلى الفراش.
إن الذين ينادونَ بتَمكينِ تلكَ المرأةِ يَرَونَ أنَّ عمليّةَ التمكينِ يجبُ أنْ تقومَ المرأةُ نفسُها بدورٍ فاعلٍ فيها لا أن يُنجِزَها الرجلُ ويُقدِّمَها طَبخَةً جاهزةً، ذلك أَنَّ التمكينَ عمليّةٌ مَصيريّةٌ، وعليها، أَيْ المرأةِ، أن تُساهِمَ في صُنعِ قراراتِ هذه العمليةِ باعتبارِها تَشكيلاً لِحَياتِها ورَسْماً لمُستقبَلِها في الأسرةِ والمجتمع. والعمليةُ هذه مصيريّةٌ لأنّها تتَّصلُ بزيادةِ الإنتاجِ وبإزالةِ الحواجزِ التي تقفُ دونَ مُشاركَتِها في البناءِ الاجتماعيّ،ِ كما تتّصلُ باستمراريّةِ تَوَفُّرِ الاختياراتِ لتَنْعَمَ الأجيالُ القادمةُ بِحُريّةِ الإرادةِ والمكتَسَباتِ الاقتصاديّةِ والاجتماعيّةِ. إِنّ أهمَّ مِيزاتِ المجتمعِ المتحضِّرِ مِيزةُ الاختيارِ، ولا ينبغي أن تُحرَمَ المرأةُ مِنه.
رُبَّما تقولُ: نَعم، تلك صورةُ المرأةِ التي تكوَّنتْ عّبْرَ أعوامٍ طِوالٍ من القَهْرِ واللامُساواةِ وفُقدانِ الاختيارِ، وذلك هو واقِعُها الأليمُ الذي تجلَّتْ انعكاساتُه على تلك الصورةِ، وإِنّ تمكينَ المرأةِ باتَ ضَرورةً، ولكنْ كيف؟
لقد اعتمدتِ الجمعيةُ العامةُ للأممِ المتحدةِ في كانون الأول 1979 اتفاقيّةَ القضاءِ على جميعِ أشكالِ التمييزِ ضِدَّ المرأةِ، وأصبحتْ نافذةَ المفعولِ في أيلول 1981، وقد تضمَّنتْ تلك الاتفاقيةُ التوصيةَ بتشكيلِ لجنةٍ دوليّةٍ لِمُتابعةِ تنفيذِ الدُّوَلِ المصدِّقةِ عليها لِما وردَ فيها من شَجْبٍ لِجميعِ أشكالِ التمييزِ واتخاذِ المُناسِبِ من التدابيرِ، تشريعيةً وغيرَ تشريعيةٍ، لِحَظْرِ كلِّ تمييزٍ، ووضعِ شروطٍ متساويةٍ في التوجيهِ الوظيفيِّ والمِهَنِيِّ وكَفالةِ حقِّ المرأةِ في العملِ والحقِّ في حريّةِ اختيارِ المِهنةِ والحقِّ في المساواةِ في الأَجْرِ والحقِّ في الوِقايَةِ الصِحيّةِ وتوفيرِ حِمايةٍ خاصّةٍ للمرأةِ أثناءَ فترةِ الحَمْلِ في الأعمالِ التي يَثبُتُ أَنّها مُؤذّيةٌ لها. وثَمَّةَ بُنودٌ أُخرى مُماثِلةُ تضمَّنَتْها الاتفاقيّةُ تُساهِمُ في تمكينِ المرأةِ إذا ما كُتِبَ لها أن تُطَبَّقَ بِشكلٍ فاعِلٍ. إنَّ القولَ بتطبيقِها بِشكلٍ فاعِلٍ يعني تمكينَ المرأةِ بكلِّ ما يعنيه التمكينُ من مَعنىً، فلا تتحوَّلُ إلى ’’ديكورٍ‘‘ يُزينُ المؤسَّسات.
فَلْيَكُنِ المُنطَلَقُ هو الاتفاقُ على ضرورةِ تمكينِ المرأةِ، ومن ثُمَّ الاعترافُ بوجودِ تقاليدَ موروثةٍ تفرضُ وُجودَها ولا يُمكِنُ تَخَطِّيها، ومن بعدِ ذلك لِتَكُنْ لِكُلِّ دولةٍ عربيةٍ استراتيجيَّةٌ مُحدَّدَةٌ تُشاركُ المرأةُ في رسمِها وتنفيذِها، آخذةً بنظرِ الاعتبارِ التقاليدَ والمَوْروث. وإذا ما توفَّرتِ الإرادةُ الحازمةُ، ومن ورائِها النِيَّةُ الحَسَنَةُ والعقلُ المفكِّرُ المُدَبِّرُ فإِنَّ كلَّ استراتيجيَّةٍ ينبغي أن تتوفَّرَ على مُحاوِرَ واضحةِ المعالمِ وخُطواتٍ تنفيذيَّةٍ مُبَرْمَجَةٍ زَمنياً، ومن ثُمَّ مُتابَعَتُها خلالَ عَمليّاتِ التطبيق. وبِخِلافِ ذلك تُصبحُ موضوعةُ ’’تمكين المرأة‘‘ شِعراً جميلاً نترنَّمُ به لِشِعْرِيَّتِهِ وحُسْنِ وَقْعِهِ. وقديماً قِيلَ: ’’أَحسَنُ الشِعرِ أَكذَبُهُ‘‘، وشَتّانَ بينَ صِدقِ العملِ وأُكذوبةِ القَولِ:
’’وإِنَّ أَحْسَنَ بَيتٍ أنتَ قائِلُهُ
بَيتٌ يُقالُ إِذا أَنْشَدْتُهُ صَدَقا‘‘
ذلك ما كان يقولُ ’’زُهيرٌ‘‘ وأقولُ ونقول!
1- الشاعر هو المتنبّي (ديوان المتنبّي، الجزء الأول، ص 250، شرح وهوامش مصطفى سبَيتِي. بيروت: دار الكتب العلمية).
2- المسرحية هي جسر على نهر درِينا للكاتب المسرحي اليوغوسلاڤي ’’إيڤو أندرتش‘‘.
**********************
نشرت في صحيفة ’’العَلَم‘‘ (المغرب)، 4-4-2000.
1107 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع