كاظم فنجان الحمامي
قبل أن نخوض في تفاصيل هذه المعاهدة الغبية, وقبل أن نستذكر حيثياتها وتداعياتها, وآثارها الكارثية, وما جلبته لنا من هموم وويلات ومصائب ونكبات...
وقبل أن نتنبأ بنتائجها المستقبلية في السنوات القادمة, نذكر إنها لا تختلف كثيرا عن الظروف الغامضة, التي ولدت فيها نطفة خبيثة, تلاقحت في جحور الشياطين, بين جدران ودهاليز العهر السياسي, فحملت سِفاحاً في بطن الرذيلة حملا مشوها, نما في غفلة من الزمن في أحشاء الشر, ثم ولد في حاضنات التآمر بعملية قيصرية أجراها طبيب معتوه في يوم نحس داخل عيادة الأبالسة, فنشأ هذا الكائن المسخ في الأوساط العبثية بصورته البشعة, ليكدر حياتنا ويجلب لنا الهموم والأحزان قبل ولادته بنصف قرن, وحتى بعد ولادته عام 1975 على شكل معاهدة كانت هي السبب في استنزاف قوتنا وموت أبنائنا وإهدار ثرواتنا, وتمزيق أوصال وطننا وتقطيع لحمتنا, وكانت هي السبب في اندلاع كل الفواجع التي مرت بنا, ورافقت حروبنا ومعاركنا الخاسرة, وكانت هي الجرح النازف من قلب العراق وأحشائه حتى يومنا هذا, وربما ستكون هي القرين الملازم لنا في مسيرتنا السياسية المتعثرة وحتى قيام الساعة. .
ضياع شط العرب
كانت السنوات التي سبقت ولادة المعاهدة الهجينة حبلى بمشاكل التجاوزات الإيرانية الحدودية المتكررة, التي تصاعدت وتيرتها على يد الشاه محمد رضا بهلوي, فراح يمارس هوايته الاستفزازية بالضغط على العراق متجاوزا كل الصيغ التقليدية, اختتمها بعدوان مسلح شنته فلوله العسكرية على مراكزنا الحدودية عام 1974, وتمادى في عدوانه بمواصلة دعمه المسلح للقوى الكردية المناوئة للحكومة, وواصل دعمه المادي والحربي لقوى التمرد الأخرى, ما اضطر العراق لخوض سلسلة من المعارك الجبلية الخاسرة للمدة من آذار 1974 إلى آذار 1975 راحت ضحيتها الألوف المؤلفة من شباب العراق, حتى نفذت مخازن الأسلحة في قتال دامي بين صفوف الشعب العراقي, فجاء اليوم السادس من آذار عام 1975, ليعلن فيه العراق تنازله عن نصف شط العرب للجانب الإيراني, فارتكبت حكومة العراق وقتذاك حماقة تاريخية ما بعدها حماقة, ظهرت أولى ملامحها عندما فقد شط العرب اسمه بعدما صار يعرف في الخرائط الملاحية باسم (أرفند رود).
وفقد العراق سلطته المطلقة التي كان يبسطها منذ الأزل على مسطحات ومداخل ومخارج هذا النهر العراقي المولد العربي الملامح, وصارت السفن التجارية المتوجهة للعراق تنتظر الحصول على الأذن (والموافقات المشتركة) من الطرفين (العراق وإيران) قبل الشروع بالتحرك صوب ميناء المعقل بالبصرة, في الوقت الذي صارت فيه السفن الحربية الإيرانية تصول وتجول بالطول والعرض من جزيرة أم الرصاص وحتى رأس البيشة, ولم تنتبه الحكومة إلى حماقتها الثانية عندما وضعت المسار الملاحي لمدخل شط العرب إلى الغرب من الميناء العميق في خور العمية, ما أدى إلى إغراء إيران بالمطالبة بضم هذا الميناء النفطي العراقي إلى مياهها الإقليمية التي توسعت على حساب اضمحلال مياهنا المنكمشة نحو الداخل. .
الكارثة الأولى
لم تمض بضعة أعوام حتى تصاعدت لهجات الرفض لأحكام وبنود هذه المعاهدة, التي ضاع فيها شط العرب, فاندلعت حرب الخليج الأولى بين البلدين للمدة من 1980 إلى 1988 وخلفت ورائها نحو مليون عراقي ومليون إيراني قتلوا في جبهات القتال, وأكثر من مليونين معاق, وتهجير أكثر من عشرة ملايين أسرة من الطرفين, واستهلكت حوالي (21) مليون طن من المتفجرات, وخسائر مالية تقدر بحوالي (400) مليار دولار أنفقت معظمها لشراء الأسلحة من المصادر نفسها, ناهيك عن حجم الأضرار الفادحة التي لحقت باقتصاديات البلدين, بسبب تعطل عجلة التنمية الاقتصادية, ودمار البنى التحتية. .
ويكفي أن نقول إن معارك تحرير الفاو وحدها راح ضحيتها أكثر من ربع مليون إنسان من الطرفين, واستعملت فيها أكثر من ستة ملايين طن من القذائف والصواريخ والقنابل الثقيلة. .
اما الملاحة في شط العرب فقد توقفت كلياً, ما أدى إلى تردي أعماق الممرات الملاحية, وتراكم الترسبات الطينية, وغرق السفن والزوارق والمراكب, في حين زحفت الخطوط الساحلية باتجاه الأراضي العراقية بسبب عوامل النحت والتعرية, فأحرزت الخطوط الساحلية الإيرانية تقدما هائلا, كانت فيها إيران هي الرابحة, وصارت فيها هي المشرفة عمليا على تأثيث الممرات الملاحية بالفنارات والعوامات وحتى يومنا هذا. .
كانت هذه هي الكارثة الأولى لإفرازات وتداعيات أسوأ المعاهدات الدولية في تاريخ كوكب الأرض. . . .
الكارثة الثانية
واصلت أقطار الخليج العربي دعمها للعراق في حربه التي تفجرت من فوهات هذه المعاهدة السيئة الصيت, ووقفت الكويت في طليعة الأقطار الخليجية التي منحت الهبات المالية السخية للعراق بذريعة اتقاء المد الإيراني الذي بات يهدد أنظمتها الحاكمة خصوصا بعد أن صارت الكويت في مرمى المدفعية الإيرانية التي بسطت نفوذها العسكرية على مدينة الفاو وسواحلها المواجهة للكويت, وما أن انتهت الحرب حتى سارعت الكويت إلى الادعاء بأن الأموال التي دفعتها للعراق لم تكن من الهبات والمنح, وإنما من الديون المستحقة الدفع, ثم بادرت إلى بيع تلك الديون لأمريكا بفوائد مضاعفة, في الوقت الذي كان فيه العراق في أمس الحاجة إلى تقوية اقتصاده المنهار بسبب قيام الكويت بإغراق السوق بالنفط المسروق من الآبار العراقية, حتى صار سعر البرميل بستة دولارات, فتدهور الاقتصاد العراقي إلى الحضيض, وتفجرت بوادر الأزمة بين البلدين في تموز (يوليو) 1990 عندما وصلت محاولات التسوية إلى طريق مسدود بعد عودة وزير النفط السعودي هشام الناظر من بغداد, ولم تمض بضعة أيام حتى تكاملت حشود القوات العراقية المؤلفة من سبع فرق من قوات الحرس الجمهوري على الحدود المشتركة, فاندفعت جواً وبحراً وبراً لاجتياح الكويت, التي باتت في قبضة العراق في غضون بضعة ساعات, فأصبحت الكويت برمتها بعد الثاني من آب (أغسطس) 1990 من ضمن المدن العراقية المحررة. .
كانت هذه هي الكارثة الثانية لإفرازات وتداعيات أسوأ المعاهدات الدولية في تاريخ كوكب الأرض. . .
الكارثة الثالثة
وهكذا تصاعد عمود دخان البنادق من رماد المعاهدة التي أنجبت هذه الكوارث كلها, كارثة بعد أخرى, حتى وصلنا إلى يوم السابع عشر من شهر كانون الثاني (يناير) عام 1991, وهو اليوم الذي هبت فيه رياح هوجاء من كثبان حفر الباطن, فولدت عاصفة الصحراء من أوكار الرعب والتآمر, بمشاركة جيوش (34) دولة بقيادة الولايات المتحدة, وبمشاركة معظم الدول العربية, في معركة غير متكافئة استعملت فيها أقوى الأسلحة وأكثرها فتكاً, وخاضتها أحدث الجيوش وأكثرها تعداداً ضد العراق وحده, فانسحب العراق من الكويت مخلفاً وراءه حرائق غطت سحبها السوداء الخليج كله, على أثر اندلاع النيران في (727) بئراً نفطياً أشعلها العراق في عرض الصحراء. .
وانتهت الكارثة الثالثة من دون أن يعلم الناس إن كلفتها بلغت على الولايات المتحدة الأمريكية (61) مليار دولار, والمملكة السعودية (60) مليار دولار, وفرنسا (1,2) مليار دولار, وبلغت تكاليف الخراب في العراق, حوالي (300) مليار دولار لتدمير طاقته العسكرية, و(200) مليار دولار لتدمير بنيته التحتية, وراح ضحيتها أكثر من (250) ألف عراقي, و(200) ألف جريح, و139 طائرة مقاتلة, و(2085) دبابة, و(1140) قطعة مدفع, وغرق أكثر من (100) سفينة وزورق, وبلغت التعويضات التي دفعها العراق للكويت حوالي (200) مليار دولار. .
كانت هذه هي الكارثة الثالثة لإفرازات وتداعيات أسوأ المعاهدات الدولية في تاريخ كوكب الأرض. . .
الكارثة الرابعة
ثم حملت لنا الكارثة الثالثة أنباء القرار (833) الذي تبناه مجلس الأمن عام 1993 في خطوة غير مسبوقة بتاريخ كوكب الأرض, إذ لم يسبق لمجلس الأمن أن تبنى قرارا جائرا متعسفا كهذا القرار, الذي اقتطع مساحات شاسعة من العراق منحها للكويت في ظروف استثنائية قاهرة. .
وأصبح الترسيم الجديد للحدود مبنيا على المخططات البالية لخرائط قديمة تعود إلى عام 1932, رسمتها الشركات النفطية البريطانية الاحتكارية في الحقبة, التي كانت تبسط فيها هيمنتها المطلقة على منابع النفط. .
وليس هنالك أوضح وأدق وأشجع من موقف رئيس لجنة ترسيم الحدود السيد (مختار أتمادجا) في فضح ضلالة مجلس الأمن, عندما قدم استقالته إلى المستشار القانوني للأمم المتحدة, والتي بيّن فيها أن تخطيط الحدود البحرية ليس من اختصاص اللجنة, ولا من واجباتها, وان الإحداثيات في قطاع خور عبد الله لم تجر الإشارة إليها لا في المرتسمات القديمة, ولا في الجديدة.
وبناء عليه لم يأخذ القرار (833) بنظر الاعتبار مسارات خط الثالوك في خور عبد الله, ولم يعتمد على النقاط العميقة للمجرى الملاحي المشترك بين البلدين, بحيث صارت الممرات الملاحية العميقة كلها من حصة الكويت وحدها, فبسطت نفوذها على معظم المسطحات المائية لخور عبد الله, وأصبحت الممرات الملاحية المؤدية إلى أم قصر تمر عبر المياه الكويتية, وتخضع لسيطرة قوتها البحرية ومراصدها الساحلية, فتقلصت المسافة بين الحدود البحرية الكويتية الزاحفة نحو المياه العراقية بموجب هذا القرار الجائر, وبين الحدود البحرية الإيرانية الزاحفة نحو المياه العراقية بموجب أحكام المعاهدة الخبيثة الموقعة عام 1975. .
وكانت هذه هي الكارثة الرابعة لإفرازات وتداعيات أسوأ المعاهدات الدولية في تاريخ كوكب الأرض. . .
الكارثة الخامسة
كان من المفترض أن نتحدث عن هذه الكارثة قبل حديثنا عن عاصفة الصحراء, فكارثة البند السابع التي تأتي في تسلسل الأحداث المتعاقبة بعد الكارثة الأولى للمعاهدة الخبيثة, صدرت عام 1990 وفقا للقرار 678 بعد غزو الكويت, وتضمن أبقاء العراق تحت طائلة الضغط الدولي حتى يومنا هذا, ولن يفلت العراق من مخالب هذا البند حتى يذوق الموت غصة بعد غصة, وحتى يدفع آخر فلس من الأموال التي صرفت في الحرب المعلنة ضده فلسا فلسا, وجيب ليل وأخذ عتابة. .
ما يعني أن الشعب العراقي سيظل يدفع فواتير كل الكوارث التي مرت به بعد ارتكاب حماقة المعاهدة 1975 وحتى قيام الساعة. .
لم يتعرض أي شعب في كوكب الأرض الى العقوبات الدولية مثلما تعرض الشعب العراقي نتيجة الكوارث المتلاحقة, التي خنقتنا تباعا بعد التوقيع على المعاهدة المسخ, وسيبقى العراق محكوماً بعقدة نقص السيادة إلى ما لا نهاية ما لم يصار إلى رفع مقصلة الحقد السابع عن رقبته. .
وكانت هذه هي الكارثة الخامسة لإفرازات وتداعيات أسوأ المعاهدات الدولية في تاريخ كوكب الأرض. . .
الكارثة السادسة
استمرت العلاقات المتوترة بين العراق وأمريكا منذ الكارثة الثالثة عام 1991, على الرغم من تصدع التحالف الدولي الذي شارك فيها, وهكذا واصلت الطائرات الأمريكية تحليقها فوق العراق, ومراقبتها لمناطق الحظر الجوي, وأصدرت أمريكا عام 1998 قانون تحرير العراق, ثم جاءت أحداث 11 سبتمبر 2001 لتوجه أصابع الاتهام إلى العراق باعتباره المتهم الأول برعاية الإرهاب.
باشرت أمريكا بكتابة سيناريو احتلال العراق, فنشرت التبريرات, وسعت للحصول على الإسناد العالمي والدعم العسكري لتحقيق أهدافها التوسعية, فوقفت الأقطار الخليجية كلها مع الغزاة, واصطفت معهم في العشرين من آذار (مارس) 2003, وبدأت الصواريخ تنهمر على بغداد في الساعة 02:30 بتوقيت غرينتش بمشاركة وتأييد (49) دولة بما يسمى (ائتلاف الراغبين). وسقطت بغداد في التاسع من نيسان (أبريل) 2003, بعد معارك حامية الوطيس راح ضحيتها الآلاف من المدنيين, وانطلقت عمليات النهب والسلب على نطاق واسع في بغداد والمدن العراقية الأخرى, وتعرض المتحف الوطني العراقي للسرقات المنظمة, ففقد في ليلة وضحاها قرابة (170) ألف قطعة من أثمن القطع الأثرية وأندرها, زمن السرقات التي المثيرة للعجب سرقة آلاف الأطنان من الذخيرة الحربية من معسكرات الجيش العراقي, وسرقة مركز الأبحاث النووية في (التويثة), والذي كان يحتوي على (100) طن من اليوارنيوم, حيث قامت شاحنات بنقلها إلى جهات مجهولة. .
وكانت هذه هي الكارثة السادسة لإفرازات وتداعيات أسوأ المعاهدات الدولية في تاريخ كوكب الأرض. . .
وكأنك يا أبو زيد ما غزيت
لقد عادت بنا الكوارث في الألفية الثالثة إلى الزمن الذي سبق التوقيع على معاهدة الهفوة التاريخية المخزية, وأصبحت الأوضاع أكثر تردياً وخطورة من ذي قبل, فقد زحفت إيران نحو الحدود العراقية في أكثر من محور, وبسطت هيمنتها على شط العرب, فطمست اسمه تماما حتى لم يعد له وجود في معظم الخرائط العالمية, فالاسم الجديد هو (أرفند رود), وأقدمت على قطع الروافد النهرية المتدفقة نحو السهول العراقية, وزحفت حدودها البحرية كثيرا نحو المياه العراقية مستفيدة من النتائج الطبيعية لعوامل النحت والتعرية, حتى صارت قريبة جدا من الحدود الكويتية, ولم يعد للمعاهدة أي وجود في ظل المكتسبات الحدودية التي حققتها إيران بعد ربع قرن من الكوارث الكونية التي استهدفت العراق وحده, في حين بسطت الكويت سلطتها على الممرات الملاحية المؤدية إلى موانئنا, اما القوى الكردية التي كانت الطرف الفاعل في التوقيع على المعاهدة فقد حققت أهدافها الفيدرالية, وصار لها إقليمها المستقل وجيشها المستقل, وهي الآن مرشحة للانفصال عن جسد العراق, وباتت الفرصة متاحة لها أكثر من أي وقت مضى. .
وهكذا فقدنا السيطرة على شط العرب, وفقدنا السيطرة على المنطقة الشمالية برمتها, وخسرنا مواردنا النفطية كلها, وفقدنا فلذات أكبادنا, وصارت عندنا جيوش من الأرامل واليتامى والمفقودين والمهجرين والعاطلين والمعاقين, وتهدمت بيوتنا, وتحطمت منشأتنا, وتصدعت هياكلنا الإدارية, وصرنا مدانين مالياً لمن هب ودب بمليارات الدولارات بموجب أحكام البند السابع واللاسع والقامع, (فلا حظت برجيلها ولا خذت سيد علي), وتخلفنا كثيرا عن بقية الشعوب والأمم حتى لم يعد وراءنا وراء, وما خفي كان أعظم. .
اما المعاهدة الغبية المخزية فلم يسلم من شرها حتى الذين وقعوا عليها (محمد رضا بهلوي, وصدام حسين), وحتى الشاهد الوحيد الذي شهد عليها (هواري بومدين) فالأول مات غريباً بعملية جراحية غامضة, والثاني مات مشنوقاً, والثالث مات مسموماً بالثاليوم, لكنها ظلت كما هي حبر على ورق, ومافتئت تنذر بالشؤم والدمار, وتحمل بين سطورها المزيد من الكوارث والمصائب والنكبات. .
والله يستر من الجايات
1301 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع