تعودنا نحن العرب، منذ أواسط القرن الماضي، أن تطلع علينا أجهزة المخابرات وأجهزة أمن الدولة أو الأمن السياسي بمختلف تسمياتها وعناوينها، في مختلف بلدان عالمنا العربي، ببيانات ثورية نارية صارخة بين آونة وأخرى عن إكتشاف (مؤامرة) أو (محاولة انقلابية) أو تفكيك (شبكات تجسس) أو (خلايا نائمة!) مرتبطة بقوى معادية، او دول إمبريالية، أو قوى الرجعية، أو غيرها من الجهات... بهدف إسقاط أنظمة الحكم الثورية التقدمية العربية، ولا تكاد تمضي أيام بل أحيانا ساعات حتى يظهر على شاشات التلفزة الحكومية، أشخاص يتم إنتقاؤهم من قوى المعارضة، يدلون باعترافات متلفزة معدة سلفاً، يُقرّون فيها بتدبيرهم واشتراكهم في مؤامرة استعمارية إمبريالية رجعية كبيرة، لقلب نظام الحكم الثوري.
وتتفنن أجهزة المخابرات وأمن الدولة العربية بكتابة سيناريوهات قصص ترتيبات المؤامرة وكيفية تصميمها واخراجها بالشكل الذي يقنع راس الدولة أو دكتاتورها وحاكمها المطلق، بأن جهازه الأمني المخابراتي واع ومُخلص ومُنتبه ويقض، ولن تمرّ أية مؤامرة كانت لأعداء الوطن والأمة مادام رأس جهاز المخابرات أو أمن الدولة، باق في موقعه وبكامل إمتيازاته. لايهمّهم كم من الأبرياء سوف يُظلمون وكم من المعارضين سوف يُسحقون، وسرعان ما تتشكل محاكم امن الدولة او محاكم الثورة أو المحاكم العسكرية الخاصة او محاكم الطوارئ لمحاكمة المتآمرين وفق السيناريو المعد من قبل الحواشي الامنية المخابراتية للحاكم المطلق والزعيم الاوحد والقائد الضرورة، وسرعان ما تصدر الاحكام ولايهم كم من الظلم والتعسف والانتقام يحصل وكم من الابرياء تسحق... فأمن القائد لا يعلوه أمن، وأمن الشعب والبلاد هو جزء من أمن القائد، لأن القائد هو الوطن وهو الشعب وهو الحاضر وهو المستقبل!!!... فلا شئ يعدل حياة القائد وسلامته لانه هو الحافظ للنهج الثوري وللمكتسبات الثورية التي تحققت بفضل حنكة قيادته وحكمة توجيهاته وأفكاره....
هكذا تعودت أجهزة المخابرات وأمن الدولة في وطننا العربي أن تتفنن في فبركة سيناريوهات المؤامرات، كي تثبت ولائها للقائد، ولأن هناك هاجساً أو احساساً أو شعوراً عاماً لدى رؤوس وقياديي هذه الاجهزة المتحذلقة بأن مرور أشهر أو سنوات من دون كشف مؤامرة معادية، أو من دون محاولة انقلابية معناه ان نظرة القائد لها سوف تتراجع، فلا ديمومة للمناصب الأمنية الا بافتعال المخاطر والتحدّيات وتصنيع الارهاب وفبركة المؤامرات.
لقد تَفوّقَت أجهزة مخابراتنا العربية على كُتّاب السيناريوهات التمثيلية والدراما وقصص المغامرات، في تدوين وتأليف وإنتاج قصص المحاولات الانقلابية والمؤامرات المُصنَّعة والمفبركة بحبكة درامية وباتقان لايُحسنه كبار كتاب الدراما التراجيدية والكوميدية!!!
وفي ظل انتشار ثقافة التعذيب في أجهزة القمع العربية، فمن الطبيعي أن يُعاون كتاب سيناريو المؤامرات في تنفيذ تلك السيناريوهات، زمر وفرق، وطواقم من كبار المتخصصين والخبراء في فنون التعذيب والذي لا تُحسنه وتتقنه سوى زنازيننا العربية، وعلى هوى ورغبة ورضا رؤوس تلك الاجهزة، وبما يعزز من مواقعها في عيون وقلوب الحاكمين، حيث تصدر الاعترافات من تحت السياط والنيران والسلاسل والغرف المنفردة والكيمياوي والكهرباء وغيرها من فنون الانتزاع وتلقين المساكين من قوى المعارضة، أو من يقودهم حظهم العاثر إلى تلك الزنازين، وغيرها، ليصاغ (سكريبت) الاعتراف الملقن، بما يعزز من إمكانات وقدرة تلك الاجهزة في كشف خيوط المؤامرة وتتبع حلقاتها.
فن صناعة المؤامرات او بالأحرى تصنيع المؤامرات، لاتتقنه سوى مخابراتنا العربية، حيث اصبحت تتوارث هذه الخبرات، بل إنّ الحق لابد أن يقال في أنّ التنسيق بين أجهزة مخابراتنا هو أعلى وأرقى من مستوى التنسيق بين حكوماتنا، وعلى أعلى المستويات، حيث صار هناك تنسيق وتبادل معلومات - حتى بين مخابرات الدول ذات النظم المتعارضة والمتعادية-، ظاهرا لكنها في التنسيق الامني والمخابراتي تكون في قمة التعاون والتنسيق.. وهذا الكلام لايقال من فراغ بل تأكد أن هناك تنسيق بين أجهزة الأمن السياسي والمخابرات العربية، حتى وإن كانت النظم السياسية تبدو مختلفة فيما بينها في الظاهر، واثبتت مسيرة العمل العربي المشترك ان التنسيق الثابت والدائم والمتميز بين البلدان العربية هو التنسيق المخابراتي والامني، على خلاف أوجه التنسيق الاخرى من تجاري واقتصادي وعسكري وتعليمي وصحي و..و,,و.. والتي تشهد تراجعاً وتردياً!!! حتى إن اللقاءات الامنية العربية حافظت على ديمومتها وثباتها ورسوخها.. وهذا ليس إفتراء ولا إفتئاتاً، ولا مبالغة، بل هو حقيقة ساطعة تدعمها شواهد لا نريد ان نحرج أحداً بها.
إن صناعة أو تصنيع المؤامرات المعادية، وشبكات التجسس، والخلايا النائمة، والمحاولات الانقلابية الوهمية، والتي باتت نهجا ثابتاً لدى اجهزة المخابرات والامن العربية، تشكل واحدة من كوارث حقوق الانسان في وطننا العربي، وهي تستلزم وقفة جادة من هيئات ومنظمات حقوق الانسان كي تتدخل عند حدوث اي واقعة ماساوية من هذه الوقائع، للتاكد من عدم وجود انتهاكات تعذيب وتلقين وفبركة لقصص المؤامرات، والتي تشكل للاسف لطخة عار في جبين من يلجأون لهذه الأساليب اللاإنسانية واللاشرعية واللاأخلاقية.
565 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع