علي محمد فخرو
أيديولوجية إزاحة السياسة
منذ أربعة عقود تقريبا شهد العالم بداية مسلسل التساقط المذهل للأيديولوجيات الشاملة الكبرى التى كانت تؤمن بأن العمل السياسى، سواء على مستوى مؤسسات نظم الحكم المختلفة أو على مستوى النضال الجماهيرى المدنى المنظم وغير المنظم، هو الطريق الأسلم والأجدى لمواجهة جميع مشكلات المجتمعات وتغييرها نحو التقدم والتنمية والتحضر الإنسانى.
كان ذلك العمل السياسى سيشمل وجود الدساتير والقوانين العادلة وبرلمانات منتخبة بنزاهة وحكومات خاضعة للمحاسبة وحريات عامة ومؤسسات سياسية ونقابية وأهلية مستقلة ومشاركة فى الحياة العامة. وكان ذلك العمل السياسى، ستحكمه القيم الإنسانية الكبرى والمبادئ الأخلاقية السامية، وفى مقدمتها عدالة توزيع الثروة المادية والمعنوية بإنصاف وتعاضد ووجود مساواة فى الفرص الحياتية.
اليوم، وكجزء من الأيديولوجية النيوليبرالية الرأسمالية العولمية، تسعى مؤسسات وشركات ونخب المال والاقتصاد إقناع العالم كله بأن الطريق لمواجهة وحل مشكلات المجتمعات يبدأ من قيم السوق واستعمال الأساليب التى تحكمه وتنظمه، وليس من خلال العمل السياسى ذاك.
القادرون على حل مشكلات الفقر وتراجع خدمات التعليم والصحة والضمانات الاجتماعية المختلفة وازدياد الفجوة بين الغنى الفاحش والفقر المدقع وتقلص فرص العمل والعمالة المستقرة ومشكلات البيئة المعقدة، القادرون على حل كل ذلك هم رجال الأعمال الأغنياء الذين نجحوا وأبدعوا وغامروا، وهم شركات الاستشارات المالية والإدارية، وهم مؤسسات البحوث والدراسات الاقتصادية والمالية. هؤلاء لن يستعملوا أنظمة وأساليب السياسة، المتهمة بأنها هى التى ساهمت فى وجود المشكلات المجتمعية، وإنما سيستعملون أنظمة وأساليب وقيم السوق المختلفة والعمل التطوعى من قبل أصحاب الثروات والوجاهة.
يسأل الإنسان، وكيف سيتم ذلك؟ والجواب: عتاة وقادة الرأسمالية أولئك سيقومون بمساعدة المحتاجين والضعفاء بأشكال مختلفة وسيساهموا فى حل مشاكل المجتمعات وقيادتها نحو الأفضل، ولكن بشرطين:
أن يحصلوا على جزء من أرباح وخيرات تلك العمليات، وألا تمسُ مصالحهم وامتيازاتهم وثرواتهم بأىّ شكل من الأشكال، بما فيها عدم زيادة الضرائب.
نحن هنا أمام عمل خيرى نفعى انتهازى: أصرف جزءا من ثروتى لمساعدة الآخرين أو حل بعض المشكلات المجتمعية أو البيئية وآخذ مقابلا أكبر يزيد من ثروتى من جهة ويجعلنى وشركاتى وشركائى مالكين للنفوذ والسلطة بحيث تكون لنا كلمة مسموعة فى تقرير نوع مسارات المجتمعات ونوع الأنظمة التى ستحكم تلك المجتمعات.
شعار هؤلاء واضح: ساهموا فى التغييرات السطحية التى فى الواقع لا تغير الأعماق وتبقى التوازنات الحالية التى تحكم المجتمعات كما هى ودون أى تغيير حقيقى يذكر. وحتى تلك التغييرات السطحية يجب أن تتم بأساليب صديقة للسوق، أى للنظام الرأسمالى الحالى المتوحش، ولا تخضعه للمساءلة أو التقنين أو الانضباط القيمى الأخلاقى.
المشكلة الكارثية هى أن هذه الإيديولوجية الجديدة، أيديولوجية « تربح ــ أربح »، أيديولوجية معالجة أعراض الأمراض الاجتماعية دون إزالة أسبابها وإزاحة مسببيها الجشعين الفاسدين المتسلطين، أيديولوجية الثقة العمياء فى قدرات الأغنياء والمؤسسات الخاضعة لنفوذهم هذه الأيديولوجية فى صعود وانتشار وتبنى عبر العالم كله، سواء من قبل الكثير من المسئولين، والقادة السياسيين أو من قبل الكثير من مؤسسات المجتمع المدنى. ولها كتبتها وإعلاميوها ومنظروها الداعمين لها.
الكثيرون من هؤلاء فقدوا الثقة فى المؤسسات والقيادات السياسية الكلاسيكية. وبدلا من النضال الدائم من أجل إصلاح تلك المؤسسات واستبدالها بمؤسسات ديمقراطية حقيقية شعبية فضل هؤلاء عيش اللامبالاة وقبول ما يفرضه الواقع الظالم. وهكذا يريدون إقناع العالم بقبول حكم وقيادة الثعلب فى حراسة وتسيير أمور الدجاج.
ما يهمنُا، نحن الشعوب العربية، الرازحة تحت مظالم سياسية واقتصادية واجتماعية لا حصر لها ولا عد، هو اقتناع الكثير من حكوماتنا وبرلماناتنا وأحزابنا ونقاباتنا بهذه الأيديولوجية الانتهازية واستعمال الكثير من رجالاتها وشركاتها الاستشارية فى وضع الحلول لأمراض مجتمعاتنا.
انظر حولك، عبر الوطن العربى كله، وسترى تواجد خبراء تلك المدرسة الأيديولوجية وشركاتها الاستشارية وبنوكها الدولية فى ساحات الاقتصاد والاستثمار والتعليم والصحة والبيئة والأمن وبناء البنية التحتية وغيرها، يقدمون الحلول التى يدّعون بأنها ستكون نافعة بينما تبقى الأمور كما هى ولا تغير الأعماق ولا تزيح المتسببين.
هذا بالضبط ما يريده المتسلطون الفاسدون الناهبون فى أرض العرب للإبقاء على امتيازاتهم غير المستحقة.
583 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع