جيهان أبوزيد
كان يكفي أن أنظر للسماء لأعلم لما لا يرد شقيقي على الهاتف.
متحفزا. مكتملا. باهيا. كان قرص القمر في قلب السماء. متألقا وسط النجوم. مدركا حجم ضوئه وعمق أثره. مختالا بنوره الذي يوقظ كل الصحاري المعتمة ويرسل الخوف إلى أفئدة البشر. أجاب أخي بعد عدة أيام قائلا: إنه القمر وكنت في دوامته.
حِرتُ ولا أزال في مغزى هذا التحول الذي يصاحب اكتمال القمر. أخي يعتقد أنه يصاب بالتوتر والعصبية ويثقل رأسه وينام ساعات أطول من المعتاد. وصديقتي الأميركية ترى أنها تميل للاكتئاب وتتراكم عليها الأفكار المظلمة وتظل حتى ينكسر اكتماله.
والقمر هذا الذي تغنى به الشعراء وأيقظ العشاق مجرد جسم يدور في فلك الأرض تابع لها، ويصل قطره إلى ربع قطر كوكب الأرض. وبسبب انجذابه للأرض تحدث ظاهرة المد والجزر. ويواجه القمر الأرض بوجه واحد فقط . وأثناء دورانه حولها، فإن الشمس تضيء أجزاءً مختلفة من وجهه، ما يؤدي إلى ظهور الأطوار القمرية المختلفة. فهو يغيب من السماء ثم ينمو هلالا ثم يستدير في خجل وبطء حتى يكتمل في منتصف الشهر ضاربا بحضوره الأرض وما عليها.
هذا القمر أخبرنا بشأن الزمان، فمن عنده بدأ تقسيم الوقت إلى وحدات متساوية هي الشهور. تلك القوة الهائلة للقمر أسكنته الأساطير القديمة. ورفعته في معظم الحضارات القديمة إلى مرتبة التقديس، وقد ابتكرت الأسطورة الفرعونية تاريخا للقمر بدأ حين فقد الإله «رع» إحدى عينيه، فأرسل ولديه «شو» و «تفنوت» للبحث عنها. ولما طال غيابهما اتخذ لنفسه عينا أخرى، لكن العين الغائبة عادت لتجد «رع» قد اتخذ عينا أخرى. فحزنت وذرفت الدموع، فقام «رع» بترضيتها وطلب من الإله تحوت (إله الحكمة) أن يرفعها للسماء لتضيء الليل. وهكذا ولد القمر.
وقد افترض بعض العلماء أن هناك تأثيرا حقيقيا للقمر على عقول الناس. معللا وجهة نظره بتأثير اكتماله على حركتي المد والجزر لمياه البحار والمحيطات. وبما أن جسم الإنسان مكون من المياه بنسبة تصل إلى %80، فإن أعضاء الجسم لا بد أن تتأثر هي أيضا.
وقد بلغ التصديق في تأثير اكتمال القمر على الحالة النفسية والفكرية للإنسان حد أن سمح القضاء الإنجليزي في القرن الثامن عشر بتخفيف العقوبة على المجرم الذي يثبت تنفيذه للجريمة يوم اكتمال القمر. واستخدم المحامون تلك الزريعة لتبرير السلوك الإجرامي لموكلهم ملقين تبعية الفعل على القمر! ولم يراقب العلماء الإنسان فقط ليعلموا مدى تأثره باكتمال القمر، بل نالت الحيوانات الاهتمام أيضا. فوجدت دراسة إنجليزية أن احتمالات التعرض لعضات الحيوانات ترتفع في أيام اكتمال البدر لتصل إلى الضعف، لكن دراسة أخرى نفت تلك النتائج. ليستمر الجدل منذ مئات السنوات وحتى اليوم بين الباحثين الذين انقسموا إلى فريقين: أحدهما يدعم فرضيه تأثر الإنسان باكتمال القمر. والآخر ينفيها. على أن زاوية أخرى أثارت الباحثين إثر طرح واحد من الباحثين سؤالا ماكرا: أيمكن أن يكون الأمر مجرد رغبة بالتمسك في وجود قوة غامضة مُؤثرة مثل القمر تساعدنا في تفسير أحداث حياتنا؟
لم تُحسم الإجابة بعد وأظن أن السؤال سيظل مفتوحا لزمن. والواقع أن اكتمال القمر يصيبني بالصداع النصفي ويبعث لي المخيف من الأحلام كما يعصف بي الحنين لأبواي الراحلين ولصديقتي التي اغتالها الموت شابة في العشرين. وعلى ما يبدو فإن هذا القمر الذي يحسن الاستدارة كل شهر يظل يجمع الطاقة من كافة المدارات الأخرى ليلملم أطرافه فيبدأ هلالا صغيرا ثم يكبر ويكبر حتى تكتمل دائرته. وحينئذ يلقي الفائض لديه من الطاقة على رؤوسنا فتتكدر الأمزجة وتتلعثم الابتسامة. على أن القمر ذاته وفي لحظة ود نادرة باح لي بالسبب معترفا بأن الاكتمال عبء يفزعه وأن استدارته الكاملة تكاد تقلع قلبه كل شهر. وحاول الابتسام وهو يقول «في اكتمالي موتي. وبالنقصان أستعيد الحياة». القمر الهائل الكبير. مهيب الضوء والحضور كان مثلنا نحن البشر يهوى البقاء منتقصا. ينزعج من وهجه الفائض وينتظر اعتداله. هو مثلنا يعشق تحدي ذاته وهي طفلة صغيرة تحبو. يستيقظ في بادئ الأمر صغيرا ويظل يجمع في جسده وينمو فرحا بإنجازه الذي يثمر ويصنع الاستدارة، لكنه ولحظة أن يكتمل يغشاه الخوف من الرحيل.
هو مثلنا لا يرغب في الرحيل ولأنه غير عاقل فهو لا يعلم أنه عائد للضوء. أما نحن البشر فنعلم أننا لن نعود كما كنا، لن تتأتى لنا فرصة السعي للاكتمال. والفرح بالتقاط خيوط البدر. لن تتأتى الفرصة ثانية لنصالح أنفسنا على نواقصها، ونقبل بنا كائنا ناقصا ربما يأتي اكتماله في اللقاء بآخر غيره. وليس في السعي المميت لحصد المزايا على أمل الاكتمال. فكل المزايا تزوى بما فيها ذلك النور البهي الضارب في كبد السماء.
1507 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع