بقلم أحمد فخري
قصة قصيرة تك تك البرق و قلب الاسد
انتهت آخر منازلة للملاكمة وبرز الفائزون الثلاثة الاوائل. وضعت لجنة نادي الشباب ثلاث منصات لتكريم الفائزين وجاء مدير النادي كي يقلدهم الميداليات. اعلن عريف الحفل قائلاً، "الفائز بالمرتبة الثالثة الحائز على الميدالية البرونزية الملاكم نشأت الجباري" تقدم نشأت الى الامام وسط تصفيق الجمهور واعتلى المُدرّج الايمن. جاء مدير نادي الشباب فصافحه ووضع الميدالية البرونزية على صدره. بعد ذلك نادى عريف الحفل، " الفائز بالمرتبة الثانية الحائز على الميدالية الفضية الملاكم احمد محمد القرغلي" فاعتلى احمد المدرج الايسر فالبسه المدير الميدالية الفضية على صدره وصافحه، ثم بعد ذلك نادى عريف الحفل قائلاً، " الفائز بالمرتبة الاولى الحائز على الميدالية الذهبية الملاكم صلاح مهدي الجنابي". فصعد الملاكم صلاح مهدي الجنابي وتقلد الميدالية الذهبية. كان الجمهور في هيجان كبير وهم يصفقون ويهللون مهنئين الابطال الثلاثة لفوزهم على زملائهم بهذه المباريات التي دامت اسبوعاً كاملاً. رجع الملاكم احمد القرغلي الى بيته وهو منهك القوى بعد المباراة النهائية التي كان سيفوز بها على الجائزة الاولى لولا اختلاف الحكام بخصوص نقطتين فقط ادت الى فوز صديقه صلاح الجنابي لكنه لم يحقد على صاحبه ابداً فقد ربطتهما زمالة متينة لوقت طويل منذ ان ابتدأوا التدريب على الملاكمة قبل خمس سنوات. حالما دخل احمد بيته توجه الى غرفته في الطابق العلوي كي ينام الا انه سمع صوت والده ينادي،
ابو احمد : احمد، يا احمد اين انت؟
احمد : انا هنا يا ابتي. هل تريد شيئاً؟
ابو احمد : اجل يا ملعون. اريد ان اعرف النتيجة. هل فزت بالمُبارَيات ؟
نزل احمد الى الصالة وجلس كي يتحدث مع والده وكان مُطأطِئ الرأس.
احمد : الفضية يا ابتي، الفضية.
ابو احمد : ولماذا انت حزين؟ هذا يعني انك الثاني. لماذا تقولها وكأنك خسرت الباراة.
احمد : كنت سافوز بالذهبية لولا اختلاف الحكام. نقطتان فقط حالت بيني وبين صلاح الذي حاز عليها.
ابو احمد : لا عليك يا ولدي، المهم انك شاركت وفزت. بنظري انت الذي فزت بالذهبية.
احمد : شكراً لك على ثقتك بي يا ابتي.
ابو احمد : اردت ان اعلم منك عن مخططاتك للمستقبل. هل قررت ان تدخل كلية العلوم؟
احمد : كلا يا ابتي. وماذا كنت ساعمل بعد ان احصل على الشهادة؟ هل ساقوم بفتح ݘمبر ثقافي علمي؟
ابو احمد : انت محق يا ولدي. وماذا ستفعل إذاً؟
احمد : اريد ان اشتري تك تك واشتغل عليه. ان كلفته معقولة إذ بامكاني ان اقترض المال من بعض الاصدقاء ثم اقوم بتسديد المبلغ عندما اعمل عليه.
ابو احمد : فكرة صائبة لكن التك تك خطر يا بني. لماذا لا تفتح مثل باقي زملائك في المنطقة؟
احمد : الݘمبر يا ابي ممل جداً. فالوقوف به لساعات طوال اترشف كؤوس الشاي الواحدة تلو الاخرى في امل ان يأتي زبون كي يشتري مني قطعة ملابس داخلية. لا يا ابتي، انا لا استطيع تحمل ذلك. التك تك اكثر اثارة ومتعة.
ابو احمد : كما تشاء يا ولدي ولكن الافضل ان تدرس المشروع من كل جوانبه. فانا لست قادراً على دعمك مادياً لاني كما تعلم قد أحلت على التقاعد مؤخراً ونزل مرتبي الى 550 الف وهذا بالكاد يكفينا لنقتات عليه علماً اننا لا ندفع ايجار لمنزلنا.
احمد : اعلم ذلك جيداً لكني قررت قراراً نهائياً يا ابتي.
ابو احمد : حسناً. بالتوفيق يا حبيبي ولكن، كن حذراً في سياقته. مفهوم؟
احمد : مفهوم يا استاذ محمد، انت تامر فقط.
صعد احمد الى غرفته في الطابق العلوي والقى نفسه على السرير وانكفأ على وجهه كالقتيل. باليوم التالي خرج مبكراً الى الشارع كي يصطحب صديقه فريد.
ضغط باصبعه على جرس الباب فخرجت فلاڤي شقيقة فريد الى الخارج مرتديةً قميص نوم منزلي ثخين من نوع بازة ونادت من وراء الباب،
فلاڤي : من الذي يدق الجرس؟
أحمد : انا احمد يا فلاڤي افتحي الباب.
فلاڤي : اهلاً حمادة. كيف حالك؟ لقد اشتقنا اليك كثيراً لانك لم تأتي منذ اكثر من اسبوعين.
أحمد : اسبوعاً واحداً فقط يا فلاڤي، لا تبالغي. انها المباراة النهائية. لقد حزت على الميدالية الفضية.
فلاڤي : واو، انت بطل إذاً يا حمادة وانا فخورة بك. لولا ان اهلي جميعهم بالبيت لادخلتك الى احدى الغرف وقبلتك قبلة تليق بمقامك يا سوپرمان.
أحمد : ساطالبك بها بوقت لاحق. والآن، اين فريد؟
فلاڤي : انه بالداخل. تفضل حبيبي.
أحمد : أعجبتني كلمة حبيبي. ساخطفك يوماً ما وساتزوجك رغماً عن انف والدك السيد جوزيف الابرص.
فلاڤي : لا تتحدث عنه هكذا ارجوك. انه انسان طيب.
أحمد : لكنه يعارض زواجنا.
فلاڤي : انت تعلم مشكلة اختلاف الاديان. لكننا سنعمل ما يحلو لنا بالنهاية، فقط اعثر على عمل مناسب، وسوف نتزوج فوراً.
أحمد : لقد قررت ان اشتري تك تك كي اعمل عليه. ذلك افضل بكثير.
فلاڤي : حسناً فعلت ولكن يجب ان تكون حذراً.
أحمد : هذا ما قاله والدي. هيا نادي لفريد لو سمحتِ.
فلاڤي : ها هو آتٍ اليك. اراك لاحقاً.
أحمد : وداعاً يا حبيبتي.
فريد : كم انت سافل يا احمد. تنادي اختي (حبيبتي) بحضوري؟
أحمد : طبعاً، الم تُعَرّفنا على بعضنا البعض لاول مرة قبل خمس سنوات؟ كانت قرونك ماتزال صغيرة لانها لم تكتمل بعد.
ضحك الصديقان وخرجا متجهين نحو السوق. وعندما بلغاه صارا يتجولان ويتفحصان اسعار التك تك الجديدة منها والمستعملة. بقي احمد يتابع المواصفات والسرعة والسعر حتى استقر رأيه اخيراً على تك تك جديد هندي لونه احمر وبه جميع الامتيازات التي يريدها بالاضافة الى السعر الذي بلغ ثلاث ملايين وستمائة الف دينار والذي وجده مناسباً للمبلغ الذي سوف يقترضه من معارفه. اما فريد فقد كان خياره مشابهاً لما اختاره صديقه احمد ما عدى اللون. فقد اختار تك تك اصفر اللون صيني الصنع لانه اقل ثمناً إذ بلغ ثلاثة ملايين ومائتا الف وهو مغطى بسقف من جلد قهوائي. رجع الصديقان ادراجهما وكل واحد منهما يسبح باحلامه وتطلعاته المستقبلية. عندما وصلا الى حارتهما توادعا حيث ذهب فريد كي يهيء المال الذي قام بجمعه بينما غير احمد ملابسه في بيته وخرج ثانية كي يعمل جولة على زملائه الذين قطعوا عليه وعداً بان يقرضوه المبالغ. وعندما فرغ من جمع المبالغ المطلوبة عاد الى منزله واتصل بهاتفه مع صديقه فريد فاتفقا على العودة للسوق باليوم التالي كي يشتريا التك تكين الذين قررا شرائهما.
باليوم التالي استيقظ احمد بوقت مبكر وخرج من الدار مسرعاً دون ان يتناول وجبة الافطار. نادته والدته كي يتمهل وياكل شيئاً قبل الخروج الا انه لم يسمع ما قالته امه واغلق الباب ورائه. حالما وصل الصديقان الى السوق، توجها الى التك تكين الذين ارادا شرائهما بالامس فوجد احمد زبوناً يتفحص التك تك الاحمر الذي اراد شرائه. ذهب اليه وقال له،
احمد : هذا التك تك مباع. انصحك ان تنظر بعيداً.
الزبون : ولكن ليس هناك ما يثبت انه مباع.
احمد : انه لي، لقد ساومت البائع بالامس واليوم جئت لاستلمه.
الزبون : لكنك لم تأخذه بعد، وانا اريد شرائه.
احمد : وهل لديك ثمنه؟
الزبون : كم هو ثمنه؟
احمد : 4 ملايين دينار.
الزبون : قلت 4 ملايين؟ حسناً سانظر الى التكا تك الآخريات في المعرض.
سار الزبون بعيداً فقصد احمد البائع وقال له،
احمد : لقد جئتك بالامس كي اشتري منك هذا التك تك وطلبت مني ثلاث ملايين وستمائة الف وها انا اليوم قد احضرت لك المبلغ.
البائع : حسناً اعطني المال والتك تك لك. تعال معي الى المكتب.
دخل احمد والبائع الى المكتب وصار يملأ اوراق العقد والملكية ثم قدمها لاحمد الذي قام بالتوقيع عليها وخرج من المكتب مبتسماً. نظر الى صاحبه مستفسراً فوجده يلوح بمفاتيح تك تكه هو الآخر ويقول،
فريد : لقد اشتريته.
احمد : وانا كذلك. دعنا نعود بهما الى بيوتنا. ما رأيك بسباق؟
فريد : كلا يا احمد. هل جننت؟ اريد ان اسدد ثمنه قبل ان اموت.
احمد : كم انت جبان يا فرّودي.
سار الصديقان بعربتيهما الجديدتان ورجعا بها الى منزل فريد اولاً. حالما دخل فريد كي يستدعي عائلته، خرجت فلاڤي اولاً وهي ترتدي سروالاً احمراً وقميصاً ابيضاً عليه نقشات حمراء موردة فقالت،
فلاڤي : مبروك حبيبي. هذه اول خطوة نحو زواجنا.
احمد : لقد وعدتك بذلك وها انذا انفذ وعدي. اريد قبلة.
فلاڤي : لا تكن معتوهاً يا احمد. اهلي كلهم سيخرجون بعد قليل. اعدك بقبلة فيما بعد عندما نكون بمفردنا.
احمد : حسناً سانتظر.
خرج والدا فريد الى الخارج كي يتفحصا التكا تك وصارا يدوران حول الاثنين ويبديان رأيهما. فقال السيد جوزيف،
جوزيف : لماذا اخترتما هذه الالوان الكئيبة؟
فريد : وماذا كنت تريدنا ان نختار يا ابتي؟ وردي او بنفسجي او اخضر مثلاً؟
احمد : لقد اخترنا الالوان المرغوبة يا عمي.
جوزيف : حسنا ولكن فكروا كيف ستسددون الدين قبل ان تتمتعوا بسياقتها.
فريد : اطمئن يا والدي، سنسدد اثمانها باسرع وقت.
احمد : هيا دعنا نخرج جميعاً بجولة قصيرة.
جوزيف : كلا اذهبوا انتم. انا اريد ان اسمع الاخبار. يقولون ان هناك مظاهرة سوف تلتأم قريباً بساحة التحرير.
فلاڤي : انا ساتي معكما. مع من اركب؟
فريد : اركبي مع احمد يا فلاڤي وستركب امي معي.
احمد : كلام جميل. تعالي يا فلاڤي.
ركب الجميع وانطلقوا بشارع فلسطين ثم عرجوا نحو زيونة حيث كانت عيونهم تتمتع بالمناظر الجميلة والمحال التجارية العامرة بشارع الربيعي. وعندما انتهت الجولة رجع الجميع الى منزل فريد وانزلوا الركاب ثم ودعهم احمد وعاد الى منزله. وحال دخوله المنزل وجد والده جالساً وحيداً امام شاشة التلفاز يستمع الى الاخبار. رفع رأسه فشاهد احمد وهو يدخل الى الصالة فسأله،
ابو احمد : ماذا فعلت يا ولدي؟ هل اشتريت التك تك؟
احمد : اجل يا ابتي. انه في الخارج. اتريد ان تشاهده؟
ابو احمد : اجل، اجل بالتأكيد. نادي لوالدتك كي تعاينه هي الاخرى.
خرج الثلاثة الى خارج الدار وصاروا يدورون حول التك تك الجديد ويسألون الاسئلة حول ثمنه وسرعته ومدى سهولة قيادته. اجاب احمد على اسئلتهم جميعهاً كما لو كان في امتحان الباكالوريا. ثم دخل الجميع لتناول وجبة الغداء فقالت والدة احمد،
والدة احمد : يجب عليك ان تذبح دجاجة وتلطخ عجلات التك تك الجديد بدمها يا ولدي.
احمد : وهل ما زلتِ تؤمنين بهذه الخزعبلات يا امي؟ انها عادات وثنية متوارثة منذ ايام البابليين.
والدة احمد : كلا يا ابني. نحن نسميها جريان دم وهي مهمة بالدين. وان لم تتوفر لك الدجاجة فبامكانك ان تفقس بيضة.
احمد : إن كان ذلك يسعدك فساجلب بيضة من الثلاجة وافقسها على العجلة.
بعد ذلك دعا احمد والديه كي يخرجا معه بجولة الا انهما اعتذرا منه واجلوها ليوم آخر. باليوم التالي خرج احمد كي يبدأ اول يوم عمل على التك تك. سار بزقاق بيتهم حتى بلغ شارع فلسطين فعرج يميناً وهناك لاحظ امرأة مسنة ترتدي عبائة سوداء وتشير اليه كي يقف فوقف بجانبها وقال،
احمد : اسعدت صباحاً يا خالتي.
المرأة : صباح الخير يا ولدي. اريد ان اذهب الى ساحة بيروت. كم الاجرة؟
احمد : ستكون مجانية يا خالتي لانك اول زبونة عندي.
المرأة : اول زبونة لليوم؟
احمد : كلا، اول زبونة في العمر واريد ان انقلك مجاناً.
المرأة : هذا لا يمكن.
احمد : إذاً اعطيني ما يحلو لك يا خالتي.
المرأة : ساعطيك 2000.
احمد : اركبي يا خالة.
انطلق احمد بالراكبة المسنة واوصلها الى ساحة بيروت ثم اعطته المبلغ فنزلت وهي تتمنى له ان يبارك الله بعربته الجديدة.
اما فريد فقد توجه شمالاً نحو كلية الاداب وصار يسترزق بتك تكه من هناك. وعندما التقى الصديقان في الساعة الثالثة ظهراً كانا قد جمعا مبالغ لم يكونا قد تخيلا ان يجمعاها بيوم واحد. ذهب الصديقان الى بيت فريد وتوقفا امامه. قال احمد،
احمد : ادخل ونادي لاختك يا فريد.
فريد : حسناً انتظرني قليلاً.
ما هي الا دقائق وخرجت فلاڤي مبتسمة وقالت
فلاڤي : آن الاوان ان تأخذني الى ساحة بيروت وتشتري لي "دوندرمة:
احمد : كما تأمرين يا اميرتي. ساشتري لك اطيب دوندرمة.
فلاڤي : اتعرف النوع الذي احبه؟
احمد : الشكلاطا طبعاً.
فلاڤي : اجل حبيبي، انت تعرف ذلك. وانت تحب الڤانيلا.
احمد : اجل يا روحي. اركبي ودعنا ننطلق.
ركبت فلاڤي مع حبيبها احمد وانطلق بها نحو ساحة بيروت. بقيت جالسة في التك تك بينما نزل هو الى بائع المثلجات واشترى كأسان يحتويان على الدوندرمة. وبعد ان انتهوا من تناولها قال لها،
احمد : انا جداً سعيد يا فلاڤي. الآن يجب ان نجمع المال كي نبني مستقبلنا يا روحي وتبقى مشكلة والدك الكبش العنيد.
فلاڤي : لا تقلق من ذلك، ساقوم انا باقناعه، وإن فشلت فستقنعه امي لانها تعرف كيف تسيّره، ولان امي تحبك كثيراً.
أرجع احمد فلاڤي الى بيتها وودعها ثم عاد يعمل بجولته الثانية. وبينما هو يتنقل بالشوارع وينقل الركاب، صعد معه شاب بمنتصف العقد الثالث. سأله احمد عن وجهته فقال،
الراكب : خذني الى ساحة التحرير.
احمد : حسناً.
الراكب : عفواً ولكن، الا تشارك معنا؟
احمد : اشارك معكم بماذا؟
الراكب : تشارك معنا بالمظاهرة. اليوم هو الاول من تشرين وقد قررنا ان نقوم بمظاهرة احتجاج سلمية ضد الحكومة.
احمد : لقد سإمت المظاهرات، فقد شاركت فيها ايام المالكي واعتقدت انها ستطلع بنتائج طيبة للشعب العراقي. الا ان المالكي اطلق علينا كلابه المصعورة وصاروا يضربوننا فتفرق الشباب وهرب الباقي وماتت المظاهرة بعد ايام قليلة. لماذا تعتقد انها ستنجح هذه المرة بعد 16 سنة من الظلم والاضطهاد والنهب والفساد؟
الراكب : هذه المرة مختلفة تماماً يا اخي. المتظاهرون كلهم من الشباب الذين جاءوا ماقتين للطائفية وكارهين للنظام السياسي الفاسد وعازمين على تحطيم المحاصصة المقيتة التي تركتها لنا امريكا كي تخرب البلد برمته. ولكي تطمئن على ما فعلت، تركت حثالة الارض كي يتصرفوا بمصائرنا وينهبوا مصادرنا الطبيعية، علماً منها انهم سوف لن يخدموا سوى جيوبهم.
احمد : ليس لدي اي ثقة بالشباب المتظاهر. يجب علي ان اقتنع تماماً كي اقوم بالتظاهر من جديد.
الراكب : حسناً، انا لا استطيع ان اجبرك على شيء لكن القرار سيكون قرارك اولاً وآخراً.
قاد احمد مركبته واوصل الراكب الى ساحة التحرير فلاحظ حشداً كبيراً من الشباب يهتفون "بالروح بالدم نفديك يا عراق" سمع هذه الكلمات واندهش. نظر الى يمينه فوجد مجموعة اخرى حاملة يافطة كتب عليها "دمي يرخص لك يا عراق". نزل من التك تك وصار يسير على قدميه ويتفحص الشباب الذين يهتفون بكل جوارحهم في كل زاوية. البعض منهم فقد صوته من كثر الهتاف فصار يحمل العلم ويسير مع مجموعته. شاهد بنات بالخامسة عشر والسادسة عشر من العمر يرسمون رسوماً جميلة على جدران النفق. رأى طالبات جامعة يمسكون بمكانس وينظفون الشوارع والارصفة، شاهد صبية يسيرون ويهتفون "لعراق سنة وشيعة، هذا الوطن ما نبيعة" وآخرين يهتفون "كلا كلا للاحزاب"، هنا سمع صوتاً رفيعاً خلفه فادار رأسه ليرى طفلاً ذو الاربع سنوات يحمل علماً ويهتف "الشعب يريد اثقات النذام". رأى سيدة فقيرة تبيع الطعام فصارت توزع الشطائر على المتظاهرين وعندما وصلت لاحمد اعطته شطيرة. مد يده في جيبه واخرج 3000 دينار ليعطيها لكنها رفضت وقالت،
البائعة : انها مجاناً.
احمد : اجل لكنها كلفتك مبلغاً من المال اليس كذالك؟ وعليك ان تحصلي على ثمنها.
البائعة : ليس هناك ثمن للوطن يا اخي. انا واولادي كلنا فداء له.
هنا تذكر احمد قصيدة الجواهري التي كان والده يرددها دائما والتي تقول، "سينهض من صميم اليأس جيلٌ مريـدُ البـأسِ جبـارٌ عنيد يقـايضُ ما يكون بما يُرَجَّى ويَعطفُ مـا يُراد لما يُريد".
رفع احمد رأسه فنظر الى نصب التحرير ذو التماثيل الاربعة عشر وصار يتأمله وهو غير قادر على ان يتماسك اكثر من ذلك. وقف مشدوهاً بينما صارت دموعه تنهمل على وجنتيه كما لو كانت انهاراً جارية. ادار رأسه فشاهد اربعة متظاهرين يحملون احد الصحفيين المصابين ويهتفون "بالروح بالدم نفديك يا عراق". ترك احمد كل شيء وركض نحوهم وكانه يريد ان يحمل المسؤولية عنهم إذ قال،
احمد : الا سمحتم لي ان اساعدكم؟
متظاهر : ابحث لنا عن تك تك كي ينقله للخيمة الطبية البعيدة هناك عند ساحة النصر.
احمد : لدي تك تك يقف قريباً من هنا. ساجلبه وانقل الصحفي المصاب به.
متظاهر : إذاً استعجل يا اخي هيا.
ركض احمد نحو تك تكه وقاده وعاد اليهم فادخلوه بالتك تك فسألهم،
احمد : الا تأتوا معي؟
متظاهر : كلا يا اخي. هنا يجب ان يعتمد كل فرد على نفسه. خذ المصاب فوراً ولا تكثر الكلام، انه ينزف بغزارة.
انطلق احمد بسرعة فائقة نحو الخيمة الطبية فوجد مجموعة من الممرضين والاطباء يعملون هناك. حالما وصل الخيمة ركضوا نحوه واخرجوا المصاب من التك تك وقالوا له "ارجع واجلب لنا المزيد من المصابين" فقال "حسناً، سافعل"
رجع الى الساحة فوجد المزيد من المصابين يحملهم زملائهم، فوقف بجانبهم وصار ينقل المصابين الى الخيمة الطبية. نظر اليه احد الاطباء الشبان وقال له،
الطبيب : انا اسمي الدكتور قيس. اعمل هنا مع اخي الدكتور سمير. اجلب لنا ماء مغذي لانه نفذ من مخزوننا.
احمد : واين اجده؟
الطبيب : في خيمة المعدات الطبية بالقرب من ساحة النصر، اتعرفها؟
احمد : اجل بالطبع.
ادار احمد محرك تك تكه وسار مسرعاً نحو ساحة النصر. سأل عن خيمة المعدات الطبية فادلوه. وعندما ابلغهم بطلب الدكتور قيس، اعطوه 8 صناديق ملئى بالمعدات المطلوبة وقالوا له. اذهب فوراً، فهم بحاجة اليها الآن. خرج احمد مسرعاً وعاد الى الخيمة الطبية في التحرير ثم انزل الصناديق. قال له الدكتور،
د. قيس : لقد انقذت الكثير من الارواح بهذه المعدات اليوم يا بطل. ما اسمك؟
احمد : اسمي احمد وهذا اسمه البرق.
قالها وهو يشير الى تك تكه الاحمر.
د. قيس : وهل لديك نقود كي تشتري البانزين؟
احمد : اجل، اجل لدي الكثير، لا تقلق من اجلي. الآن اشعر بتعب كبير واريد العودة الى بيتي كي آخذ قسطاً من الراحة فالساعة الآن قاربت من الثانية عشر بعد منتصف الليل.
د. قيس : بامكانك النوم هنا إن اردت. فهناك الكثير من المطارح والاغطية والمخاديد.
احمد : كلا ساذهب الى بيتي الآن ثم اعود غداً عند الصباح الباكر.
ركب احمد تك تكه ورجع الى بيته مسرعاً. وكلما شاهد راكباً بالطريق يشير اليه بالوقوف كان يتجاهله ويسير في طريقه. ولما وصل الدار وجد الباب مغلقاً. اخرج مفتاحه من جيبه وفتح الباب. صار يفتش عن والديه فوجد قصاصة ورقية تركها له والده على طاولة الجلوس. التقطها وقرأها،
ولدي العزيز،
لقد خرجنا انا وامك الى ساحة التحرير
كي نعبر عن احتجاجنا.
نأمل ان تنضم الينا عندما تشاهد هذه الرسالة.
والدك ابو احمد
انهملت دموع احمد وهو يقرأ رسالة ابيه. دخل المطبخ وفتح الثلاجة فوجد فيها بعض من العروگ فتناول البعض منها ثم اوى الى فراشه فدخل دنيا الاحلام.
باليوم التالي استيقظ احمد وعاد فتناول بعض من قطع العروگ ثم خرج الى الخارج وقاد تك تكه متجهاً نحو ساحة التحرير.
وفي الطريق شاهد شباباً يشيرون اليه كي يقف، فسألهم عن وجهتهم، قالو له "ساحة التحرير" قال سأخذكم الى هناك مجاناً. اركبوا معي.
وعندما وصل حديقة الامة ادهشه عدد المتظاهرين الكبير الذي صار في تزايد مستمر. انزل الركاب وراح مباشرة الى خيمة المنظمين بساحة التحرير وسأل،
احمد : اسمي احمد ولدي تك تك اسمه البرق. هل تحتاجون لخدماتي؟
منظم : اجل اركب البرق واذهب به الى الخيمة الطبية. خذ منهم بعض ادوات التضميد واوصلها الى جبل احد.
احمد : جبل احد؟ اين يقع هذا الجبل؟ بالسعودية ههههه؟
منظم : المطعم التركي يا رجل. الا تعرفه؟
احمد : اهي العمارة التي بالقرب من جسر الجمهورية؟
منظم : اجل اجل هي بعينها.
احمد : ساذهب فوراً.
منظم : توقف يا احمد. لماذا تسمي تك تكك بالبرق؟
احمد : لانه اسرع تك تك في ساحة التحرير.
منظم : حسناً في رعاية الله.
قاد التك تك نحو الخيمة الطبية فوجدهم ينتظرونه بالمعدات المطلوبة. حمّلها بعربته وانطلق عائداً بها باقصى سرعة وعندما دان من جسر الجمهورية صارت القنابل الصوتية والغازية تنهال على عربته الصغيرة وتصدر اصواتاً عالية حينما تصطدم بمعدن البرق لكنه لم يأبه بذلك. بقي يسير بخط متعرج كي يتفادى الاصابة المباشرة. لكن احدى القنابل الغازية اصابت كتفه الايسر فصار الدم يسيل منها. الا انه لم يكترث لما اصابه وواصل سيره السريع نحو جبل احد. وعندما وصل هناك وجد بعض الشباب في انتضاره. قاموا بانزال جميع الصناديق التي جاء بها احمد فقال لهم،
احمد : انا عائد الى التحرير الآن، اترغبون بشيء آخر؟
المتظاهر : ما هذا الجنون؟ انت مصاب يا اخي، دعنا نعالجك.
احمد : هذا لا يهم، انه مجرد خدش بسيط بكتفي سيعالجونني هناك بالتحرير.
المتظاهر : كلا يا اخي. لا يمكنك ذلك فلو اصبت بيدك اليمنى اثناء رحلة العودة فسوف لن تتمكن من قيادة التك تك.
احمد : حسناً واين يمكنني ان اتعالج؟
المتظاهر : اصعد الى الطابق الاول بجبل احد وستجد طبيبة وممرضة هناك سيقومان بعلاجك على الفور.
احمد : حسناً انا ذاهب الآن.
صعد احمد الى الطابق الاول فوجد ما يشبه المستشفيات الميدانية التي يشاهدها بالافلام الامريكية. هناك وقفت طبيبة ملثمة ترتدي صدرية بيضاء ملطخة بالدم ووقفت الى جانبها ممرضة ملثمة هي الاخرى. "يا الهي، هؤلاء حقاً ابطال. كيف استطاعوا ان يفعلوا كل ذلك؟"
امرته الطبيبة كي يستلقي على سرير الفحص. اطاع احمد امر الطبيبة واستلقى على السرير فقامت الممرضة بوضع المغذي بذراعه بينما قامت الطبيبة بحقنه بابرة الكزاز (التيتانوس) ثم قالت للممرضة "ساعود بعد قليل. ضمدي جرحه بسرعة وابقي المريض مستلقياً كي لا يصاب بالدوار"
خرجت الطبيبة فبقي احمد مع الممرضة الملثمة وصار ينظر الى عينيها بفضول كبير. هناك شيء غريب بتلك الممرضة لا يعلم ما هو. دنت الممرضة منه برأسها وقبلت فمه من وراء لثامها. مسك بها احمد من كتفيها ودفعها الى الخلف ثم قال،
احمد : ماذا تفعلين يا اختي؟ هل انت تمازحينني؟ ارجوك لا تقتربي مني اكثر ولا تقبليني فانا لدي حبيبة احبها كثيراً وسوف اتزوجها عن قريب بعد ان يلين رأس اباها البغل.
رفعت الممرضة لثامها وقالت له،
الممرضة : احسنت يا حبيبي. نجحت باختبار الاخلاص. انا فلاڤي وابي ليس بغلاً.
احمد : فلاڤي؟ أحقاً هذا انتِ؟ يا الهي لا اصدق. تعالي اذاً وقبلي حبيبك المجروح.
قبلته قبلة من شفتيه فاعطت له كل القوة والقدرة على التحمل والاصرار كما لو كانت حقنته بدواء منشط (ستيرويد) وعندما توقفا عن التقبيل قالت له،
فلاڤي : يبدو انك قد شفيت يا احمد. هيا يا بطل عد الى عملك ودعنا نلتفت نحن الى عملنا.
نهظ احمد من السرير وسحبها اليه ثانية ثم قبلها قبلة ساخنة كادت تفقدها الوعي فسمعته بعدها يقول،
احمد : ساراك فيما بعد يا حبيبتي. ساتزوجك حتى لو كنت ابنة ذلك الوحش جوزيف.
خرج احمد من الجبل وقاد البرق نحو ساحة التحرير. وعندما التقى المنظم قال له،
المنظم : لقد بلغنا ان هناك مصابين بطلق ناري في شارع الرشيد. ارجوك اذهب هناك واجلب معك المصابين.
احمد : بالتأكيد. ساذهب فوراً.
حالما وصل بداية شارع الرشيد رأى رجلاً طويلاً بسير على قدميه ويحمل حقيبة خشبية طويلة ومستطيلة الشكل اثارت فضوله. اراد ان يعرف محتواها فتابع الرجل من بعيد حتى لا يشعر به. وعندما دخل احدى الازقة هناك تبعه احمد سيراً على الاقدام فشاهده يدخل احدى البنايات القديمة المهترية. انتظر احمد قليلاً ثم تبعه بداخل البناية فوجد سلماً حجرياً مكسراً امام المدخل مباشرة فصعد عليه الى الطابق الاول وهو يتتبع اصوات خطوات الرجل المجهول ثم صعد للثاني ثم الثالث وبعدها وصل سطح البناية. وعندما تسلل بهدوء تام شاهد الرجل يثني ركبته على الارض ويفتح الحقيبة الخشبية كي يخرج بندقية قنص من داخلها ثم يثبت عليها كاتماً للصوت. وقتها علم احمد يقيناً ان الرجل هو قناص وهدفه اصطياد المتظاهرين من على سطح البناية، وبتلك اللحظة اصدر احمد صوتاً بحذائه عن غير قصد فاحس القناص بوجوده. اسرع بحشو رصاصة ببندقيته كي يطلقها عليه. علم احمد انه سيقتل بالحال إن لم يهاجم الرجل ويجرده من سلاحه. ركض احمد نحوه باقصى سرعته وضرب البندقية بقدمه فسقطت من يد القناص. الا ان القناص قام بلكم احمد فاسقطه ارضاً. شعر احمد باللكمة القوية على وجهه الا انه لم يكترث بل تبسم وقال للقناص،
احمد : أتريد ان تلاعبني بلعبتي يا معتوه؟ إذاً تعال ونازلني، اهلاً وسهلاً.
هجم القناص على احمد وكأنه ثور هائج ولكمه لكمة قاتلة الا ان احمد كان اسرع منه فتفاداها وابعد رأسه الى اليسار. عاد القناص ولكم احمد بيده الثانية الا ان احمد عاد وتفاداها وقبل ان يسمح له بالضربة الثالثة، قام بالرد عليه وذلك بتسديد لكمة احترافية بيده اليسرى ادت الى اصابة القناص بالدوار فوقف كالغبي مشدوهاً وفاقداً توازنه. اغتنم احمد الفرصة وارسل بيده اليمنى لكمة جديدة كانت كالقنبلة ادارت رأس القناص فوق كتفه، وبعد ان استعاد القناص سيطرته اخرج خنجراُ من خصره وانطلق باتجاه خصمه. رفع الخنجر الى الاعلى وسدده على وجه احمد الا انه لم يصبه لان احمد ابعد رأسه وسدد لكمة قوية جداً بقبضته اليمنى اسقطت القناص ارضاً. هنا وقف القناص ثانية فهجم عليه احمد، هذه المرة سدد له ثلاثية احترافية تبدأ باليمين وتنتهي باليمين فوقف القناص وكانه قد ضُرِب بمكوى حديدي على رأسه. بدأ يرجع للخلف ببطئ شديد وهو يترنح فتعثر بسور العمارة الواطيء وسقط من اعلى العمارة نحو الشارع. تقدم احمد الى السور ونظر من السور فشاهد القناص مستلقياً على ظهره في الشارع ووجهه الى الاعلى يسبح ببركة من الدماء. نظر حوله وتفحص الحقيبة الخشبية فوجد فيها بعض الاوراق وإذا به يعثر على هوية كتبت باللغة الفارسية. علم وقتها ان القناص كان ايراني الجنسية. فتح الكاتم من البندقية ووضع كل شيء بمحله ثم اغلق الحقيبة ونزل الى الشارع. نظر الى القناص وهو يمر بالقرب من جثته فكان يبدو عليه انه قد مات بدون شك فقال في سريرته "الى جهنم وبئس المصير يا حقير، جئت لتقتل ابناء بلدي لكن القدر اخذك الى الموت، يحيى العراق"
ركب البرق وعاد الى خيمة المنظمين وسلم الحقيبة الخشبية ثم قص عليهم قصة القناص وما دار بينهما من قتال ادى الى موته. هنأوه على سلامته وطُلِبَ منه ان يبتعد عن المشاكل في المرة القادمة إن امكن. ودعهم احمد وقال بانه سيعود الى منزله كي يستحم ويغير ملابسه.
ركب البرق ورجع به الى شارع فلسطين ودخل المنزل فوجد والديه جالسان امام التلفاز يتابعان الاخبار. سأله والده،
ابو احمد : هل عدت من ساحة التحرير يا ولدي؟
احمد : اجل يا ابتي.
ابو احمد : وهل وقع لك شيء يذكر؟
احمد : اجل يا ابتي، لقد نازلت قناصاً ايرانياً والقيت به من سطح بناية فمات على الفور.
ابو احمد : يا الهي. ذلك شيء فظيع. وهل اصابك مكروه؟ هل انت بخير؟
احمد : كلا يا ابتي. انت تعرفني جيداً، فانا كالقطط بسبعة ارواح. نازلته فوق السطوح وسقط بنفسه من هول لكماتي القوية.
ابو احمد : لقد رعبتني يا ولدي. ارجو ان تتوخى الحذر حبيبي.
احمد : لا تخف علي ّ يا والدي فانا ابنك. انا ذاهب للحمام.
صعد احمد الى الطابق العلوي من داره واخذ حماماً ثم غير ملابسه ونزل الى الطابق السفلي حيث جلس والداه في غرفة الجلوس.
ابو احمد : اجلس يا ولدي ولا تخرج الليلة الى ساحة التحرير.
احمد : لماذا يا ابتي؟ المظاهرات ما زالت قائمة. دوري لم ينتهي بعد.
ابو احمد : اعلم ذلك لكننا ذهبنا الى ساحة التحرير بالامس واليوم كذلك وقد ادينا دورنا كمواطنين صالحين مخلصين للوطن. لكن يجب ان نترك المجال لغيرنا كي يكملوا المسيرة.
احمد : هذا مستحيل يا ابتي، انا ذاهب الآن. سامحني.
وقف احمد وتوجه نحو باب الدار الخارجي فناداه والده للمرة الاخيرة وبصوت عال قائلاً،
ابو احمد : الى اين انت ذاهب يا ولدي؟ انا امرك ان لا تذهب.
تسمر احمد في مكانه. ثم ادار رأسه الى الخلف ببطئ شديد ونظر الى والده قائلاً،
احمد : طالع آخذ حقي
خرج من الباب واغلقه ورائه. وصل احمد الى ساحة التحرير وكانت الامور هادءةً نسبياً هناك. فالساعة كانت تشير الى العاشرة ليلاً توجه احمد مباشرة الى جبل احد وبحث عن فلاڤي فوجدها جالسة مع مجموعة من زميلاتها من كلية التمريض وهم يغنون اغاني وطنية. حياهم وجلس معهم فاعطوه شطيرة بيض باللحمة وزجاجة ببسي. جلس بجانب فلاڤي يتناول شطيرته ويستمتع بالاغاني الوطنية التي تغنيها الشابات. بقي الحبيبان يتسامران حتى بزوغ الفجر. في صبيحة اليوم التالي استيقظ احمد على دوي صوت انفجار قنبلة صوتية بعيدة اطلقت على جسر الجمهورية فنظر حوله واذا به الوحيد من النائمين. كل من كان نائماً حوله قد نهظ وصار يعمل عمله. كان المنظر جميلاً للغاية لانه اشبه بخلية النحل. وقف وفتش عن فلاڤي فوجدها منهمكة في تضميد جريح. راح اليها وقبلها من كتفها ثم قال،
احمد : ساعود الى عملي يا حياتي.
فلافي : حرستك مريمانة، "دير بالك على نفسك"
احمد : "بس الخاطرݘ عمري راح ادير بالي"
خرج من الجبل وتوجه الى خيمة المنظمين فوجد احدهم يقول له،
منظم : اعتقد ان اليوم ستقع مواجهة كبيرة بيننا وبين قوات المكافحة على جسر الجمهورية.
احمد : وما الغرابة في ذلك؟ انها تحصل كل يوم.
منظم : كلا يا احمد. يبدو لي ان اليوم سيكون يوماً يختلف عن باقي الايام لاني شاهدت استعدادات وتعزيزات كبيرة من قبلهم.
احمد : دعهم يفعلون ما يشاؤون لاننا نحن ايضاً لدينا سلاحنا. العلم العراقي وروحنا الوطنية واصرارنا وعنادنا.
منظم : بوركت يا احمد. بالمناسبة، هل شاهدت القنابل التي اعددناها؟
احمد : قنابل؟ ظننت ان تظاهراتنا سلمية ولا نستعمل اسلحة ضدهم.
منظم : هذا صحيح. ولكن الشباب جمعوا كمية كبيرة من قنابل الغاز الفارغة التي اطلقت على المتظاهرين واعطوها لطلاب كلية العلوم فرع الكيمياء فقاموا بتعبئتها بغاز خاص يدعى الهايدروجين سلفايد وهو غاز كريه الرائحة جداً يشبه الروائح التي تجدها في المستنقعات. وقد عبئوها في دوارق زجاجية صغيرة بداخل القنبلة بحيث تنكسر عند ارتطامها بشيء صلب فتتفاعل المواد ويخرج الغاز المقزز.
احمد : وهل يتسمم من يستنشق ذلك الغاز؟
منظم : كلا، لانه ليس بتركيز عالٍ. لكن رائحته لا تطاق. والجميل في الامر ان الاقنعة الواقية التي ترتديها قوات الامن ومكافحة الشغب لا تمنع من دخول الرائحة لمرتديها. لذلك فهي تزعجه كثيراً لكنها لا تضره ولا تسممه. لقد صنع اشباب آخرون مقلاعاً خاصاً بامكانه قذف هذه القنابل على مسافة 300 او 400 متر. اي خلف السواتر الكونكريتية.
احمد : يا سلام، الشباب العراقي عبقري حقاً. هذا خبر رائع. ارجو ان نتمكن من تجربتها اليوم.
منظم : سيقوم الشباب باستعمالها فقط عند اللزوم.
وبهذه الاثناء وصل الى مسمعهم ضجيج مدوي واصوات قنابل صوتية كثيرة. خرج المنظم الى خارج الخيمة وسأل احد المتظاهرين فقال له ان قوات مكافحة الشغب صارت تطلق الصوتيات والمسيلة للدموع على المتظاهرين. سار احمد والمنظم سوية نحو جهة الجسر فشاهدا مجموعة من الشباب ممن حملوا قنابل غاز حية واعادوا رميها على قوات المكافحة. وبهذه الاثناء صارت مكافحة الشغب تطلق الرصاص الحي على الشباب. هنا حمل متظاهران قنبلتي غاز حية وركضا بها باتجاه الساتر كي يرجعانها عليهم. الا ان القوات اطلقت عليهما النار فسقطا بمنتصف الطريق. كانا ما زالا حيان ولكنهما مستلقيان على الارض وينزفان بغزارة. قفز احمد وقال،
احمد : ساذهب لاحضارهما، جهز قنابل الرائحة العفنة.
امر المنظم اعداد القنابل العفنة كي تطلق خلف الساتر. وصاروا يطلقون تلك القنابل العفنة على القوات الامنية، فاوطأ الرجال رؤوسهم كي يتفادوا القنابل الكريهة. وبهذه الاثناء ركض احمد نحو البرق وقاده باتجاه المصابين. نظر احد المتظاهرين ممن يتابعون المنظر وقال للمنظم،
متظاهر : هذا الشاب متهور جداً سيتعرض للاصابة.
المنظم : بل هو شجاع جداً ولديه قلب كالاسد. سنسميه قلب الاسد من الآن فصاعداً.
اطلق المتظاهرون ستة عبوات عفنة على قوات الشغب فتوارى الجنود منها فاستغل احمد ذلك وسار بالبرق بسرعة عالية، وعندما وصل الى المكان الذي سقط فيه الجريحين ونزل من البرق ثم سحب الجريح الاول وادخله بالبرق وعاد فزحف نحو الجريح الثاني وامسك به وقال له، "سانقذك يا اخي لا تخف"
وبينما هو يسحبه نحو البرق اصابت احمد رصاصة في ساقه فسقط ارضاً وصار ينزف بغزارة. عاد وتمالك نفسه فاستمر بالزحف نحو الجريح وصار يسحبه ثانية. وقبل ان يضعه في البرق بمسافة نصف متر اصيب برصاصة ثانية في كتفه الايسر. الا ان ذلك لم يمنعه من ادخال الجريح الثاني في البرق. ركب البرق وادار المحرك ثم توجه به نحو ساحة التحرير، وقبل ان يصل التحرير اصيب احمد برصاصة ثالثة في ظهره. لكنه استمر بقيادة البرق حتى وصل الى الخيمة الطبية. وحال وصوله هناك تلقفه المسعفون فاخرجوه واخرجوا معه المصابين.
دخل المنظم خيمة المسعفين واستفسر عن المصابين فقال له الطبيب،
الطبيب : لقد تمكنا من انقاذ اثنين لكن الثالث قد استشهد.
منظم : ومن هو الذي استشهد؟
الطبيب : انه سائق التك تك.
منظم : انه قلب الاسد. لقد استشهد قلب الاسد. واحسرتاه.
دخل عدد كبير من المتظاهرين وحملوا رفيقهم الشهيد احمد وهم يهتفون
"بالروح بالدم نفديك يا عراق"
دخلت فلاڤي وهي تبكي وتولول وتصرخ، "قبل قليل استشهد اخي فريد والآن احمد ماذا سافعل الآن يا ناس؟ اثنان بيوم واحد"
فهتف الجميع،
"بالروح بالدم نفديك يا شهيد" "بالروح بالدم نفديك يا شهيد" "بالروح بالدم نفديك يا شهيد"
حملوا جثمان الشهيد احمد القرغلي على اكتافهم وخرجوا به الى ساحة التحرير كي يشيعوه.
الثورة باقية حتى يطيح ذلك النظام العفن.
1844 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع