مهند العزاوي*
رهانات الشارع العراقي ورحلة البحث عن الهوية
شكل غزو العراق 2003 انعطافا تاريخيا في مسار السياسة الدولية ، وتجاوزا صارخ لمعايير القانون الدولي ، وتخطى الأعراف المنهجية في إرساء النظام السياسي بالعراق. فان الأمم المتحدة كانت ولاتزال مسؤولة بشكل مباشر عن تدمير العراق وشرعنه التدخلات الخارجية والإقليمية ، وقد ارست نظاما سياسيا مشوها في العراق بلا هوية وطنية ، يعمل على المحاصصة السياسية وتفكيك المجتمع العراقي لمذاهب واعراق واثنيات ، وهذا لا يتجانس فعليا مع حقيقة البيئة العراقية الاجتماعية المتماسكة كشعب واحد.
ولم يكن رفض الشعب العراقي للنظام الهجين محط اهتمام دولي او عربي ، ومارست الدول ومنظماتها الرسمية والأمم المتحدة حالة انكار والهروب الى الامام ، والمضي بدعم النفوذ الأجنبي الإقليمي على حساب سيادة العراق ، وتطلعات الشارع العراقي الباحث عن هويته الوطنية المفقودة . وخرج العراقيون منذ عقد واكثر رافضين الممارسات والإجراءات السياسية الطائفية، ومخرجاتها من فساد وفتنة وإرهاب منظم وحروب أهلية ، ادارتها الطبقة الفاسدة المرتهنة للخارج ، التي بددت خيرات وثروات واموال العراق دون فائدة للعراق وشعبه .
دستور معطل
ذكرت المادة الأولى من الدستور العراقي (( جمهورية العراق دولةٌ اتحاديةٌ واحدةٌ مستقلةٌ ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوريٌ نيابيٌ (برلماني) ديمقراطيٌ، وهذا الدستور ضامنٌ لوحدة العراق)) ومن واجب النظام السياسي تطبيق الدستور بدء من المادة الأولى والمتعلقة بالسيادة الكاملة والديمقراطية ووحدة العراق. ولم تنجح الطبقة السياسية الوافدة في بناء دولة يطبق فيها الدستور وتحقق فيه العدالة والديمقراطية وضمان السيادة الكاملة ، بل وعملت بعقلية المليشيا ورسخت سلطة مشوهة تعكس عقلية هذه الطبقة الوافدة التي خرجت من بوابة الجار الشرقي ، الذي بدروه اصبح يهندس العمل السياسي والعسكري والأمني ويبني كيانات موازية توافق عقيدته السياسية والعسكرية دون مراعاة مصالح العراق وشعبه .
وجرى بالفعل تعطيل كافة فقرات الدستور الساعية لتحقيق الديمقراطية ، ووحدة العراق وضمان سيادته ، مع تفعيل وقتي لبعض المواد التي تضمن التحايل والتلاعب القانوني لاحتكار السلطة، وتدوير الشخصيات الفاشلة والفاسدة في جسد النظام السياسي الذي ثبت فشله بالكامل طيلة الأعوام السابقة .
رحلة البحث عن الهوية
استفاق العراقيين على حقيقة البؤس والفوضى والفساد والدمار الذي حل بالعراق خلال السنوات الماضية ، وبحثوا عن سيادة وطنهم لم يجدوها ، و طالبوا بالديمقراطية وتلك انشودة السياسيين في كل خطاب سياسي وانتخابي لم يعثروا عليها، بل وجدوا ثيوقراطية قمعية تفوق الوصف، وفتشوا عن الوحدة الوطنية وجدوها في غرفة الإنعاش ينهش بها قطاع الطرق والمهربين والمليشيات من تجار الطوائف وعدد من شيوخ العشائر التابعين للأحزاب ، نعم انها الحقيقة المرة التي انتجت وطن مقسم وسلطة موازية وثروات مهدورة ومنظومة فساد كبرى تنهش الاقتصاد العراقي واموال العراق ومستقبله .
وقد خرج العراقيين بتظاهرات كبرى ضد الفاسدين والطبقة السياسية الفاشلة في أكتوبر الماضي للمطالبة بالهوية الوطنية ، وكان شعارهم (نريد وطن) ، وجسدت تلك التظاهرات التلاحم الوطني ، وكسرت قيود الطائفية ، وقد شارك فيها كافة الاطياف والمذاهب والاديان معبرين عن حبهم للعراق وتلاحمهم، وسعيهم لاسترداد العراق من مخالب الجار الشرقي الذي اوغل في طعناته المميتة له. وبالرغم من شرعية المطالب واحقيتها وضرورتها، الا ان المجتمع الدولي ومنظماته الأممية لم يتضامنوا مع مطالب الشعب العراقي ، وتلك إشارة فهمها سياسيو العراق على انها موافقة لقمع التظاهرات.
وبلغ عدد القتلى من المتظاهرين حوالي 485 شخصا منذ بدء المظاهرات، وأصيب أكثر من 17 ألف بجروح خلال المظاهرات ومن بينهم 3 آلاف "إعاقة" جسدية، فضلاً على اعتقال العديد من المحتجين، والحملات المنظمة للاغتيالات ضد الناشطين في بغداد والمحافظات الجنوبية المنتفضة، وعلى اثرها استقالت حكومة عبد المهدي رسميا مع بقائها لتصريف الأمور، ولايزال المتظاهرون يطالبون بحكومة خالية من الأحزاب السياسية التي أوصلت العراق الى الهاوية وهذ لم يستجيب له السياسيون ن اذا لايزالون يرشحون شخصيات تابعة لأحزابهم لرئاسة المرحلة الانتقالية والتي يرفضها الشارع العراقي .
رهانات الشارع العراقي
تبقى الرهانات الشعبية على التغيير قائمة انطلاقا من إرادة العراقيين الصلبة في استعادة سيادة العراق وانهاء النفوذ الغير شرعي الإيراني ، وتطبيق المادة (9) الفقرة ب من الدستور (يحظر تكوين ميليشيات عسكرية خارج اطار القوات المسلحة) ، واستعادة زمام المبادأة من قبل القوات المسلحة العراقية ، مع المضي بإجراءات حل البرلمان وتشكيل حكومة مؤقتة غير مسيسة ، تعمل على تحقيق مطالب الشارع العراقي لإرساء نظام سياسي وطني يعتمد الهوية الوطنية كمعيار أساسي للمواطنة ، واصبح من الضروري تغيير قواعد اللعبة السياسية ، واستعادة سيادة العراق من خلال حكومة وطنية يمثلها شباب العراق الواعي ، الذي قدم تضحيات كبيرة في محاربة الإرهاب والفساد والفاسدين والنفوذ الخارجي ، ويتطلع لمستقبل واعد.
الخميس، 26 كانون الأول، 2019
*مواطن عراقي
3210 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع