من حكايات جدتي ... الثامنة والتسعون
الرجـل الفـقير والـغولة
في هذه الليلة تذكرت حكاية لجدتي عن الأمانة التي كانت منتشرة في أيام زمان، تقول جدتي: في قديم الزمان كان هناك في بغداد سوق اسمه سوق مدحت باشا أو السوق الطويل، وكانت العادة أن توضع الأمانات من أموال وذهب عند أول دكان في هذا السوق، ويغادر صاحبها إلى الحج، وعند عودته يمر على صاحب الدكان ويأخذ أمانته ويمضي إلى بلده.
في أحد الايام جاء رجل من خارج بغداد يحمل صرة حمراء وتوقف عند أحد الدكاكين وأعطى صاحب الدكان هذه الصرة طالبا منه أن يودعها عنده أمانة إلى حين عودته من الحج.
وافق صاحب الدكان بعد أن تأكد من عددها البالغ ثلاثة آلاف درهم، وتعرف عليه وغادر الرجل إلى الحج بعد عدة أشهر عاد الرجل ودخل إلى الدكان فلم يجد صاحبها، فسأل عنه فقال له العمال إنه في البيت وسيعود قريبا انتظره حتى عاد صاحب الدكان، وعند عودته طلب منه الرجل ماله.
سأله: كم أودعت لدينا؟
أجاب الرجل: ثلاثة آلاف درهم.
سأله: ما اسمك؟
رد عليه بهدوء: اسمي فلان ألا تذكرني.
سأله: في أي يوم كان.
أجاب بثقة وجدية: يوم كذا وقبل سفري للحج.
وبدأ الرجل يرتاب من الأسئلة.
سأله صاحب الدكان: ما لون الصرة التي وضعتها بها؟
أجاب بثقة عالية: صرة حمراء.
قال له: اجلس قليلا وأمر بإحضار طعام الغداء واستأذن منه بأن عنده أمر ضروري وسيعود على الفور.
انتظر الرجل وقت ليس بالقصير وإذا بصاحب الدكان قد جاء حاملا معه صرة حمراء وفيها ثلاثة آلاف درهم عدهم الرجل وتأكد منهم وقال لصاحب الدكان: جزاك الله خيرا وحمل صرته وانصرف.
وبينما الرجل يمشي في السوق وإذا به يرى شيئا غريبا اقترب ليتأكد منه فدخل إلى دكان آخر وكانت المفاجأة هذا هو الدكان التي وضع أمانته فيه.
قال لصاحب الدكان: السلام عليكم.
رد صاحب الدكان: وعليكم السلام ورحمة الله. تقبل الله منك الحج والحمد لله على سلامتك. هذه أمانتك يا حاج فأعاد له صرته وفيها ثلاثة آلاف درهم.
أصاب الرجل الدهشة فقص عليه ما حصل، وأنه أخطأ في الدكان ودخل عند جاره فأعطاه المال ولم يشكك بكلامه. ذهبوا إليه وسألوه كيف تعطي الرجل المال وهو لم يضع عندك أمانته في الأصل.
فقال لهم: إني لم أعرفه ولم أتذكر أن لديه أمانة عندي، ولكن لما رأيت أنه واثق من كلامه معي، وأنه غريب عن هذه البلاد، فكرت أني إن لم أعطه أمانته سيذهب مكسور الخاطر وسيحدث أهله ويقول سرقت أمانته منه في سوق بغداد وسيذيع الصيت عن أهل العراق كلهم، وليس عن الشخص الذي سرق منه الأمانة. فذهبت وبعت بضاعة كانت عندي بألف درهم فلم تكف لسداد الأمانة واستدنت من صديق ألف وخمسمائة درهم، وكان معي خمسمائة أكملتهم له، واعطيته ما طلبه.
أتذكر كلام جدتي وهي تقول: اين نحن من هذا في زمن أصبح أكل أموال الناس بالباطل، مذهب وشطارة وأصبح الأمين عملة نادرة وشيء غريب بين الناس.
نعود لحكايتنا اليومية: كان يا ما كان في قديم الزمان، كان هناك رجل فقير الحال، له زوجة وسبعة أولاد وكان يعمل ليلا نهاراً حتى يؤمّن لقمة العيش لعائلته، ويبيع الفجل على حماره في المدينة المجاورة لقريته، ويبقى طوال النهار ينادي على الفجل ويبيعه حتى يهدّه التعب والجوع، فينام على ظهر حماره، ويعود به الحمار إلى البيت، فيفتح له الأولاد الباب وينزلون والدهم، ويضعونه على المطرح ويتابع نومه، حتى ينهض من النوم ويأكل ويسهر قليلاً، وينام حتى الصباح.
في أحد الأيام نام الرجل على ظهر الحمار آخر النهار، وعطش الحمار وصار يفتش عن الماء، فطرق أحد الأبواب فتحت الغولة الباب والتي هي صاحبة البيت، ورأت أمامها الحمار والرجل نائم عليه، أنزلته وأدخلته إلى البيت، وسقت الحمار الماء وأطعمته، وعندما نهض الرجل رحبت به كثيراً وقالت له: أين هذه الغيبة يا ابني انتظرتك طويلا بعد أن تزوجت ورحلت عني؟ ووضعت له أطيب الطعام والشراب أكل وشبع وحمد الله كثيراً، وسألته عن أحواله أخبرها عن فقره وتعبه وشقائه في الحياة. أظهرت حزنها لما سمعت حسرتها على عيشته، وطلبت منه أن يحضر عائلته للعيش معها، فخيرها كثير وأموالها لا تأكلها النيران، ففرح بكلامها وأحسّ أن الفرج جاءه أخيراً وسيرتاح ويتمتع بالدنيا.
عاد الفقير إلى بيته وجمع أولاده وأخبرهم الحكاية، فأنكرت زوجته هذا الكلام الذي لا يدخل في العقل، وقالت له: إن أمّه ماتت من زمان، أسكتها وقال لها: أنت لا تعرفين أمي أكثر مني.
ثم حزموا أمتعتهم ورحلوا من وقتهم إلى بيت الغولة، رحبت بهم وحضنتهم وأظهرت لهم الحب والحنان، وقدمت لهم الطعام والشراب والحلويات والفواكه، حتى شبعوا لأول مرة في حياتهم، ومدّت لهم الفرش الصوف، وناموا في هناء وسعادة حتى الصباح، نهضوا من النوم فرحانين وكأنهم في حلم، غير مصدقين ما حصل لهم، وقبل أن تخرج الغولة إلى عملها أعطت مفاتيح أبواب البيت للزوجة، وقالت لها: البيت بيتك افتحي جميع الأبواب ما عدا هذا الباب، وتركتهم ومضت في حال سبيلها.
بقي الرجل وزوجته يتنعمون بالخيرات، وينامون في أحسن حال إلى يوم من الأيام، حدّثت المرأة نفسها أن تفتح
الباب الذي منعتها الغولة من فتحه، وبعد تردّد فتحته، وإذا هي في برية قفرة، لا فيها وحش يسير ولا طير يطير، وفيها مغارة اقتربت منها رأت الغولة تأكل ولداً صغيراً وترمي عظامه في حفرة، رجعت مسرعة وقد اصفرّ لونها وانقطع حيلها، وأخبرت زوجها بما حصل ضحك منها، وقال: لا بدّ أنك رأيت مناماً في الأحلام، ولما عادت الغولة سألها الرجل: أصحيح أنك غولة يا أمي؟ وتأكلين الأولاد كما تقول زوجتي؟، ضحكت ضحكة أرعدت لها الأرض وقالت له: هل شكلي شكل غولة؟ وهل تصدق أن أمك تأكل الأولاد؟ فلا بد أن زوجتك رأت مناماً وتهيأ لها فلا تشغل بالك، قم أنت والأولاد لتناول الطعام، والبسوا الثياب الجديدة التي أحضرتها لكم من السوق وانشغل الأطفال بالملابس الجديدة والهدايا والطعام، أما الأم بقيت خائفة ومشغولة البال.
عرفت الغولة أن المرأة قد فتحت الباب الذي منعتها منه واكتشفت حقيقتها، فقرّرت أن تأكلهم هذا المساء، قالت للمرأة: أنها ستحّمم الأولاد ووضعت قدراً كبيراً من الماء على النار، حتى أصبح يغلي ويتصاعد منه البخار.
أدخلت الأولاد إلى الحمام دخلت معها الأم لتراقبها وتحمي الأولاد منها، وقررت سراً أن تحتال عليها وتتخلّص منها، وبينما الغولة تخلع ملابس الأولاد، وتتحسّس لحمهم الطري وقد سال لعابها لالتهامهم، قالت لها الأم: انظري يا خالتي ما سقط في القدر؟ فاقتربت الغولة لتنظر فيه وانحنت عليه كثيراً، فدفعتها المرأة وسقطت في قدر الماء المغلي، فماتت من ساعتها وفرحت المرأة بخلاصها وخلاص أولادها من الغولة الشريرة، وعاشوا في بيت الغولة يتنعمون بخيراتها مبسوطين وطيب الله عيش السامعين.
1561 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع