د. سامان سوراني
من المعلوم بأن الأفكار الهامة الخصبة لا جنسية لها وأن العمل الفلسفي الهام يفرض نفسه علی كل ذات مُفكرة، بصرف النظر عن عصور المعرفة و عوالم الثقافة. الفلسفة تملك سلطة خفية، لأنها قادرة على أن تفتح حواراً حراً وعميقاً حول قضايا المستقبل وهي وحدها تستطيع إبداع إمكانيات أرحب للوجود، عندما تعيش المجتمعات بعيداً عن إضطهاد للفكر و إكتساح للطغيان و خنق للحرية وقتل للمدارك الطبيعية للبشر و بغاء للعقل و مطاردة للفلاسفة، الذين هم أصحاب الفكر الحر.
من يريد أن یمارس معارضة نظام إستبدادي، علیه أن يعمل علی ديمقراطية أفعاله وأفكاره وأقواله ليستطيع أن يُبَدَل بالحوار والتعددية والمشاركة سياسة الإستفراد و الإقصاء و بالصدق و الشفافية والمصارحة سياسة الكذب والتعتيم والتشويه و بالإنتخاب والمناوبة سياسة التوريث والتأبيد و بحسن النية والمكاشفة وقبول الآخر والمصالحة سياسة الاتهام والتشكيك والتخوين والتجريم. علیه إذن بأدوات و أساليب جديدة لتوظيف المعرفة الإنسانية الموجودة بشكل مسبق في ذهن أفراد المجتمع في العمل السياسي و إعادة بناء تلك المعرفة علی أسس متينة لإنتاج أفكار تهم كل ذي فكر، يخرج الفرد من قوقعته لكي يتعاطی مع ذاته بصورة مستقلة، حرة. فالتفكير الخلاق يتيح لنا أن نسهم في صنع حقيقتنا و الحضور علی مسرح هذا الكون علی الأقل علی مستوی الفكر.
وما الليبرالية السياسية إلا مدرسة تقام علی أساسها الحكومات التي تؤمن بالدور الفعلي للبرلمان و تتأكد علی حرية الصحافة و المعتقد السياسي و الديني والثقافي و لا تلعب بورقة الإمتیازات الطائفية و لا تسعی في سبيل إقصاء الآخر لقتل حقوق المواطنة والمساواة أمام القانون و إتاحة الفرصة للمشاركة السياسية الحقيقية المبنية علی قواعد التعددية و تداول السلطة أمام الجميع لتعطي في النهاية لنظام الحكم وجهاً إنسانياً ديمقراطياً.
نحن نعرف بأن البرابرة لا يأتون من خارج المدينة و لاهم من الخارجين عن المدنية، فهم ثمرة الحضارات و العقليات التي تؤمن بالتأله والجبر و بمنطق الإصفاء والتمايز أو بنزعة التفوق والتوسع، فالإنسان هو دوماً ضحية أفكاره المتجسدة في منظومات الإعتقاد و أنساق المعرفة.
التعليم السياسي في الشرق الأوسط لا يسعی الی إيجاد الفضائل النظرية في الأمم والمدن ولا يقوم بزرع القيم الحميدة في النفوس من أجل تربية أفراد المجتمع تربية سليمة متكاملة و لا يمارس سياسة فكرية جديدة تتعامل مع المعالجات والحلول بصفتها تخييلات خلاقة و تراكيب جديدة. فكل شيء في منهج ذلك التعليم يلغي سواه لينغلق علی الواقع و يتاجر بالحقيقة و يسّبح للأشياء و الذوات والأشخاص أو للأفكار والشعارات وهكذا يعمل علی إنتاج الإستبداد والإستلاب أو العماء والإرهاب أو الفساد والخراب.
والفلسفة هو التدرب على السؤل والتسائل والسؤال والمساءلة و إستعمال المفاهيم استعمالاً تقنياً و هذا يمكن ممارسته بعد أن زرعنا نبتة الحرية الفكرية المبنية علی قيم التنوير والحداثة في مجتمعنا و قمنا علی إنباتها والاعتناء بها و جاهدنا في بلورة معالم ثقافتنا وتجديدها. والفلسفة تحافظ على ما في الإنسان من نزوع دائم نحو ممارسة حرية التفكير والتعبير وتنتهج طريقاً مخالفاً للتفكير السائد إذ تقض مضاجع المستسلمين وتثور على الواقع لأنها في جوهرها تحاول الولوج إلى أعماق القيم والمعنى من أجل فضح كل أشكال الاستلاب التي يتعرض لها البشر.
ومن لا يقدر أن يقف موقفاً نقدياً من ذاته و مجتمعه و قيمه ولايقوم علی تفكيك البداهات المتراكمة في عقله، التي تحول دون قبل الآخر أو دون الإنفتاح علی ما يحدث، يفتقد الی أدنی القيم المدنية و لا يعرف حقوق وواجبات المواطنة، فكيف يستطيع به أن يصمد ويفعل و يحضر كهوية ثقافية و مساحة حضارية إذا لم يسهم بشكل فعّال و خلّاق في تكوين المشهد الثقافي والفكري علی الصعيد العالمي بتوليد فكرة خارقة لحواجر اللغة والعقيدة.
إنّ الجهل بمجريات الأحداث و آليات التغيير يعني التخلف عن الفكر و الجري بخطوات سلحفاتية وراء المجتمع. فما يجب السعي اليه هو العمل علی إبتكار إنسانية جديدة يدفعنا نحو إنتاج توازن بين الثقافة والحضارة و بين القيمة والأداة و بين الفكر والوسائط وبين الإنسان والطبيعة. والمواطن الذي يطلع علی المجريات و يحلل و يناقش لإتخاذ الموقف الذي تمليه علیه قناعاته، هو ذلك الإنسان الذي يترك الرعية التي تتلقی اليقينيات الدغمائية وتسمع التلفيقات الإيديولوجية أو تُؤمَر وتطيع.
و لا جدوی من العودة الی الوراء للبحث لدی الماضين عن حلول لمشكلاتنا المعاصرة، فلقد أثبتت التجارب الحياتية بأن الذي يسلك هذا الطريق يرقد في سباته العقلي ليعيش في مفهومات الهوية الضائعة و أطياف الذاكرة المثخنة و يزهر بالنتيجة علی أرض الواقع العنف و الخراب والدمار في غير مكان من العالم، لأن أحادية التفكير و فقر المعنی و ضحالة الخطاب يعني إفلاس العُدّة الفكرية و الإيمان بالنص الواحد والمعنی الوحيد و الزعيم الأوحد، و هكذا تتساقط المشاريع و تتراجع القضايا. المهم هو عدم معاداة الفهم و التشخيص أو جعل منطق الدعوة هو الغالب أو لغة البغض والحقد هو السائد أو منطق التشبيح والتهويم هو الجائر ، بل قراءة الوقائع و الإهتمام بتشخيص المشكلات لكي لا تحال الفلسفة الی منظومة لاهوتية أو الی أدلوجة كفاحية.
وختاماً يقال: "من يريد أن يكون مشاريعه لعقد من الزمان فما علیه إلا غرس الأشجار."
الدكتور سامان سوراني
كاتب سياسي و باحث أكاديمي
1593 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع