لؤي عبد الإله
العراق... بلاد الفرص المهدورة (2)
تحالف نوري السعيد مثل فاوست مع الشيطان لتحقيق حياة أفضل على الأرض... وما كان هذا الشيطان إلا بريطانيا آنذاك.
في مقابلة أجرتها معه مجلة "التايم" الأميركية، قال رئيس الوزراء العراقي آنذاك، نوري السعيد، إن أهم إنجاز حققه في حياته السياسية المديدة، تأسيس "مجلس الإعمار" وتخصيص 70 في المئة من واردات النفط لمشاريعه.
ولم يكن قد مضى على إنشائه أكثر من ست سنوات، لكن ما حققه خلال تلك الفترة الزمنية القصيرة، شكّل قفزةً نوعيةً في تطوير البُنى التحتية للعراق، لم يشهد مثيلاً لها طوال تاريخه، ولو أُتيح له البقاء عشر سنوات أخرى لربما أصبح البلدُ اليوم منافساً لبعض النمور الآسيوية، إن لم يكن أكثر تطوراً منها.
فخلال تلك الفترة القصيرة، وبدخل سنويّ متواضع مخصص لمشاريع "مجلس الإعمار" لا يزيد على 50 مليون دينار عراقي، تم بناء 16 سداً في شتى أنحاء البلاد، اُفتتح بعضٌ منها بعد مقتل صاحب فكرة إنشاء "مجلس الإعمار" عام 1958، من أبرزها إنشاء سدّ وبحيرة الثرثار على نهر دجلة، وآخر على نهر الفرات، مع ربطه بمنخفض أُطلق عليه اسم "بحيرة الحبانية"، وبذلك انتهت الفيضانات التي ظلّ العراق يعاني منها منذ قرون كل سنة.
يقول نوري السعيد في تلك المقابلة التي تحمل عنوان "العراق: الباشا"، وتحتها سُجّل يوم وتاريخ صدورها: الاثنين 17 يونيو (حزيران) 1957 "لا يمكن تغيير حياة وعقول الناس بسرعة. أنت لا تستطيع أن تُرزق وليداً عمره يومان بإبرة، وجعله يصبح ابن عشر سنوات، بل حتى لو نجحت بشكل ما فإنه لن يكون أبداً إنساناً طبيعياً. علينا أن نضع في حسابنا دائماً الحاجة إلى الوقت في كل شيء".
غير أن الحاجة إلى وقت أطول عادةٌ تكتسبها الشعوب حين تكتسب مبدأ العمل التراكمي الجمعي الذي يتنامى جيلاً بعد جيل، مثلما هو الحال في لعبة سباق البريد، أما تلك الشعوب التي أُقصيت عن الإسهام في صياغة مستقبلها فتظل عاجزةً عن فهم هذا السيل المتدفق للحياة، فلا إرث تبني فوقه ما يؤمّن مستقبلها الذي يظل مرهوناً بقدوم بطل أسطوري من خارج سياق التاريخ، وهذا هو الحال مع العراق آنذاك.
لذلك لم تمنح النخبة السياسية المعارضة وخلايا الضباط السرية نوري السعيد وقتاً أطول، بل راحت تتكاثر بصمت، وفي داخل كل فرد من أفرادها سكن شعورٌ عميقٌ بأنه هو البطل القدري الذي تنتظره أعداد كبيرة من الشباب المتعلم، وأنه سيهبط على أرض الواقع وبيده مصباح علاء الدين السحري، فيقيم جنة عدن على صحارى وبوادي العراق بلمسة بسيطة من إصبعه.
كم تشبه شخصية نوري السعيد، تلك الشخصية الأسطورية التي بنى عليها الشاعر الألماني غوته ملحمته، وحملت اسمه "فاوست"، فهو تحالف مثل فاوست مع الشيطان لتحقيق حياة أفضل على الأرض، وما كان هذا الشيطان إلا بريطانيا آنذاك.
يقول نوري السعيد مفنّداً فكرة "الحياد الإيجابي"، التي انتشرت آنذاك بين العديد من بلدان العالم الثالث "يمكن للحياد أن يكون كارثياً... التاريخ سيلعنني إذا أرضيت عاطفة الجماهير على حساب المصلحة الوطنية. فلبلد صغير، يمكن للحياد أن يكون كارثياً. فالعراق ليس قادراً على مواجهة الشرق أو الغرب عسكرياً، أو على استغلال نفطه. إذا أردنا أن نكون محايدين فإن نفطنا سيبقى تحت الأرض، والفاقة ستنتشر فوقها...".
كان الأسبوع الأول من شهر أبريل (نيسان) 1956 متميزاً عن غيره، ففيه حصد العراق بعضاً من ثمار تأسيس مجلس غير مسيس، يضم ستة خبراء استشاريين، أربعة منهم عراقيون والآخران خبيران أحدهما أميركي والثاني بريطاني، ولهذا المجلس الذي ترتبط به شبكة من الهيئات والمؤسسات وزير هو الآخر خبير، ويضم في عضويته رئيس الوزراء ووزير المالية.
خلال أسبوع الإعمار الأول في ذلك الشهر افتتح الملك الشاب فيصل الثاني، عدداً محدوداً من المشاريع المنجزة، أبرزها سد وبحيرة الثرثار، وسدة الرمادي وبحيرة الحبانية.
كانت فكرة توجيه مياه الفرات عند ارتفاعه صوب منخفض الحبانية من مقترحات مهندس الري البريطاني، وليام ويلكوكس (1852-1932)، الذي زار العراق في أوائل القرن العشرين، وعند افتتاح الملك هذا المشروع دُعيت ابنة المهندس ويكلوكس تقديراً لجهوده تجاه العراق.
كانت حصيلة إنجاز مجلس الإعمار خلال عمره القصير الذي لم يتجاوز سبع سنوات، تنفيذ مئات من المشاريع الاستراتيجية المتكاملة، فعلى صعيد توسيع الأراضي الصالحة للزراعة ازدادت مساحتها بنسبة 40 في المئة، وفيها استقرت 20 ألف عائلة (150.000 شخص).
أما على الأصعدة الأخرى، فقد بني العديد من مصافي النفط ومصانع النسيج والسكر في شتى أنحاء العراق، وخلال الفترة القصيرة نفسها ازداد عدد المدارس الابتدائية من 1070 إلى 1748 (أي بنسبة 60 في المئة)، والثانويات من 108 إلى 152 (أي بنحو 70 في المئة)، والمستشفيات من 82 إلى 121 (أي بنسبة 68 في المئة)، وكان بناء الجامعة على وشك الانتهاء في بغداد.
كأننا ونحن نتابع حديث "باشا بغداد" نراقب عن كثب ما كان يجري وراء ظهره: في الأقبية المظلمة كانت خلايا "حركة الضباط الوطنيين" تتزايد يوماً بعد يوم، تجمعها فكرة تنفيذ انقلاب عسكري يُقضى فيه بشكل متزامن على الثالوث الذي يقف عليه النظام الملكي: الملك، وولي العهد، ونوري السعيد.
ومع دعم زعماء الأحزاب المجمّدة منذ عام 1954، وبالخصوص زعيم الحزب الوطني الديمقراطي، كامل الجادرجي، "حركة الضباط الوطنيين" للقيام بانقلاب عسكري، وتشجيع الأحزاب المناهضة للسلطة على تشكيل ائتلاف عُرف باسم "الجبهة الوطنية" ضمّ بين صفوفه الشيوعيين والبعثيين، أصبحت كل تلك الإنجازات الاقتصادية والتعليمية والصحية التي مهدت الطريق لبروز عراق مزدهر يجمع بين الاكتفاء الغذائي وثروة النفط، لا أهمية لها بالنسبة إلى الانتلجينسيا العراقية اليسارية والزعماء "الوطنيين" والضباط "الثوريين".
لقد منع الموروث المتجذر لديهم من رؤية الإيجابيات التي تراكمت منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921، وتزايدت بشكل هائل خلال سنوات الخمسينيات.
فوجود حكم مدني، وقضاء مستقل، وفّر للمجتمع قدراً كبيراً من السلم الأهلي، وبدأت المكونات الدينية والإثنية تشارك عبر أفرادها في إدارة دفة الدولة، عبر تأهيلها الأكاديمي.
حين سأله المحاور عن الشخص الذي له أكبر تأثير على تفكيره، حكى نوري السعيد عن أستاذه الألماني في مدرسة الأركان العسكرية بإسطنبول. كان ذلك قبل نشوب الحرب العالمية بفترة قصيرة. فخلال تمرين داخل الدرس اختار الكولونيل فون لوسو مجموعة من طلابه كي يدافعوا عن بلدة ذات تحصينات دفاعية محددة، ومجموعة أخرى لمهاجمتها. غير أن الطالب الذي اختير لقيادة الفرقة المدافعة عن البلدة أعلن أن تحصيناتها متقادمة إلى الحد الذي لا يمكن الدفاع عنها، ولذلك فهو سينسحب كي يعثر على مكان آخر يقاتل العدو فيه.
قال نوري السعيد "أوقف الكولونيل التمرين ثم حاضر فينا لساعتين ونصف. وقال إن التحصينات دائماً متقادمة. حتى لو حُصّنت بلدة اليوم بأكثر الطرق الحديثة فإنها ستصبح باليةً غداً بسبب الأسلحة والتكتيكات الحديثة. أخبرنا أن الروح الصحيحة للآمر للقيام بمهمته هي في المصادر المتوفّرة. إن واجبه هو استخدام عقله وطاقته بما هو متوفّر في اليد، حتى لو أن البلدة ستسقط بعد نصف ساعة، وبعدها سيُقاد إلى محكمة عسكرية ويُعدم رمياً بالرصاص".
ردّد السعيد قائلاً بصوت غليظ إن ذلك الضابط الألماني "أعطاني فكرة بقيت اتبعها طوال حياتي، أن أكون عملياً لا مثالياً. يريد منتقديّ دائماً المثالي. لو أن كل شيء يأتي مثلما تريد، ما الجدوى من القابلية؟ هذه هي نظريتي: لا تكن أبداً مثالياً، استخدم ما هو متوفّر، ولا تنتظر حتى يصبح كل شيء كاملاً فتضيّع فرصتك".
لكأنه من دون أن يعلم يقارن حالة العراق بالبلدة المحاصرة (افتراضياً)، فمن الشمال والشرق تحدّانه دولتان قويتان وواسعتان بعدد سكان يزيد كثيراً على سكان بلده، إضافة إلى أن كل المياه التي تدخل وادي الرافدين تنبع من أراضيهما، فهل هناك أمامه خيار سوى قلب العلاقة بهما: بدلاً عن أن يكون العراق ساحة صراع بينهما مثلما كان لقرون، يصبح حليفاً لهما ويستفيد من موقعه بينهما.
ولعل ذلك وراء تشكيل حلف عسكري معهما، فهو بهذه الطريقة ضرب عصفورين بحجر: إنهاء مبرر وجود المعاهدة مع بريطانيا طالما أنها أحد أعضاء هذا الحلف، الذي كان مركزه بغداد، والثاني توفير علاقات تعاون جذرية لن تؤثر مستقبلاً على المياه القادمة منهما، وعلى أمن الحدود الطويلة بين العراق وبين الجارين الكبيرين.
في الوقت نفسه، كان بقاؤه مسؤولاً عن هذه البلدة أشبه بقدر لا فكاك منه، فهو بقي صمام الأمان لعراق ظل على حافة الاضطراب وفقدان سترة الأمان من الغرق، بفضل نجاح الزعماء "الوطنيين" (وخصوصاً الشيوعيين) في تهييج الشارع والدفع باتجاه الفوضى كلما استتبت الأوضاع، فيدعوه البلاط لتشكيل حكومة جديدة واستخدام أساليبه في إعادة الاستقرار للبلد.
ومع هذه الخطوة منح "الثوار" و"الوطنيين" ورقةً إضافيةً لاغتياله وتشويه صورته أمام الأجيال اللاحقة إلى الأبد.
جاءت ثورة 14 يوليو (تموز) (وأنا أعتبر أي حدث يجعل العودة إلى الوراء مستحيلاً مثل الثورة الرقمية وثورة وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها ثورة) لتدفع بالقطار الذي كان يسير بسلاسة نحو تطور اجتماعي واقتصادي وثقافي وازدهار لا نظير له في المجالين الزراعي والصناعي، للخروج عن سكّته. وإذا كان ركّابه لم يشعروا بهذا الخلل، فإن الأجيال اللاحقة عاشت مصائب هذا القطار عند انقلابه.
770 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع