بقلم ليث رؤف حسن
الرحلة الأولى للدكتوراة
مضت الأعوام الأربعة السابقة بسرعة البرق وها هو العام الخامس يوشك على الإنتهاء وكنت حينها غاطسا إلى أذني في حب لم ولن أتصورأن ينتهي, أمامي التحضير لرسالة البحث العلمي وأخذ الشهادة, ستة شهور, لم أشعر كيف إنتهت بين أوراق وخرائط وبحث عن معلومات في أرشيف الدولة وووكثير من الهموم قبل الرحيل.
وجاء اليوم وجدت نفسي مرتديا بدلتي السوداء التي أحتفظت بها للإحتفالات الرسمية والإمتحانات (وكنت أسميها وما زلت عدَّة الشغل).
علقت الرسومات على الحائط وها أنذا أقف أمام لجنة الإمتحان في الجامعة 6-6-1967. مرَّ يوم 5 حزيران 1967 , في الليلة السابقة لمقابلة لجنة الإمتحان, وكانت مشحونة بالأحداث والصخب المتوالي من الراديو والأنباء تتوالى كالقصف والرعد من أراضي الوطن العربي. التشويش الإذاعي والأخبار المزعجة وصوت المذيع من راديو صوت العرب يقرقع في أذاننا . نسمع حديثاً عن إنتصارات عربية مصرية لم نكن نحلم بها أو نصدقها للتهويل الإعلامي المصري بقيادة المهرج أحمد سعيد. كل هذا المنغصات تضاف لتحضير الرسومات والأوراق والكلمات التي سوف نقولها والقلق والترقب ومقابلة لجنة إمتحان الدراسة جعلت كل واحد من المتقدمين للإمتحان يصاب أشبه بالمغص المعوي والإسهال!!
في 6 حزيران1967 يوم عيد ميلادي الثالث والعشرين نودي علينا لدخول القاعة بعد أن أخذت لجنة الإمتحان أماكنها في القاعة. بعدنا دخل الطلبة المتفرجون وكنا أربعة طلبة نقدِّم بحوث الدراسة في ذلك اليوم.
دخلنا القاعة وعرَّفنا المشرفون على الإمتحان بأعضاء اللجنة, أربعة من أساتذة الجامعة ومعهم أستاذان من خارج الجامعة وثالثهم وزير في ولاية موسكو كان رئيس اللجنة الإمتحانية.
جاء دوري ثانيا أو ثالثا وبدأت الحديث وهدرت الكلمات وإنتهت العشرين دقيقة بسرعة البرق وشعرت بأنني مسيطر على الوضع وأطير في سماء النجاح
لبلاغتي بالتحدث باللغة الروسية وحسن تلفظي وإتقاني للغة الروسية بطلاقة, بالإضافة لقوة البحث الذي قدمته .
كنت أشعر من وجوه الأساتذة الغرباء بقوة حججي وعرضي و جاء دور الأسئلة وقرَّب على ألإنتهاء وهنا سأل رئيس اللجنة سؤالاً فنيا تحذلقت في الرد عليه في الوقت الذي لم أكن مضطراً للجواب !!! خرجت من القاعة وخرج بعدي الأستاذ العلامة يوري فاسيليفيتش فلاسوف و قد إحمرَّ وجهه وأصبح بلون الطماطم . نظر إلي مباشرة إلى عيني حتى كأني شعرت بحرقتها ثم أردف بعصبية إتبعني!!
وهكذا فعلت ودلفت معه إلى غرفته وإذا به يلتفت إلي ويصرخ بي, متى أصبحت غبيا لتناظر وزيراً في الدولة؟؟ عرفت عند ذلك بأن الحصول على النجاح والشهادة على المحك الآن. خرج فجأة وقبل أن يعرف جوابي ودخل القاعة لمداولة الأساتذة. مضت دقائق ودقائق طويلة كنت أحسبها كالدهر. كنا ننتظر خارج القاعة للدخول وسماع النتيجة. فُتِحَت الباب وأذنوا لنا بالدخول فدخلت مطأطأ الرأس لسماع الحكم على رسالتي.
ليث رؤف حسن ناجح بدرجة جيد جداً!! وكنت أصغر خريج في دفعتي لذلك العام الدراسي.
كنت أتوقع الدرجة النهائية بإمتياز ولكن هذا الإمتياز طار لجرأتي في تحدي سؤال الوزير. خرجت فرحا وحزينا في آن واحد ولحق بي البروفيسور العظيم أرتيم إيفانوفيتش آفاكوف, عالم وأكاديمي كبير والأستاذ الذي علمني كل فنون العلم والإدارة وكل شئ يَمُتُّ للهندسة المدنية منذ أن بدأت المحاضرة الأولى وإلى ألإمتحان النهائي. قال لي بصوته العميق ووقاره ونظارته ترقص جيئة وذهابا وهي مشبوكة على أنفه المُزْرَقّ, إتبعني!!!
تبعته بينما أخذت الأفكار تدور في رأسي, تُرى ما الذي يدور بخلده بعد أن أنهيت الدراسة وأريد أن أحتفل وأرتاح!! لحقته بخطوات متثاقلة بعد البهدلة التي أهداني إياها فلاسوف إلى أن دلف إلى قسم مواد البناء الذي يديره ودخل غرفته وجلس خلف مكتبه ولأول مرة خلال أربع سنوات دعاني للجلوس وعندما جلست بخشوع أمام أحد أعظم علماء البناء في العالم, قال لي أريدك أن تفكر بتكملة الدراسة تحت إشرافي للحصول على الدكتوراة. أرجوك أن تأخذ وقتك في الإجابة وعندك يومين أو ثلاثة تجيب فيها على عرضي.
جاءت هذه الكلمات كمن صَبَّ علي كلاما من نار وثلج وتيزاب ومواد مشعة في آن واحد. سأساعدك في البقاء في الجامعة بزمالة دراسية تحت إشرافي تنهي فيها الدكتوراة وتصبح مرشح علوم خلال كم سنة!!!
نكست رأسي وصارت الأفكار تقدح كالشرار في مخي المُعَطَّل أصلا, بسبب الحب والأحلام بالزواج من حبيبة القلب ولقاء الأهل بعد غيبة طويلة وإقنعهم
بقبول فكرة الزواج والنجاح فيها والبحث عن وظيفة والعمل وووو ثم إنتبهت بأن علي أن أجيب البروفيسور على سؤاله ولو بتعليق وشكر بسيطين!!!
لكني تحذلقت كالعادة وقلت له, بأنني أفضل ألعمل مدة لا تقل عن عامين قبل الدخول في دوامة الدراسة مرة أخرى. فقال لي قرار جيد ولكنك ستندم ولن تستطيع بعدها الرجوع. قلت في نفسي للمرة الأولى, طز بالدكتوراة أمامي حياة أحياها قبل شهادة الدكتوراة. وكانت الأولى في حياتي.
غادرت الجامعة في رحلة الحياة الشاقة, المرة والحلوة. أخذت تذاكر الطائرة مع فاطمتي عبر القاهرة والتي أصرت والدتي بموافاتنا إلى هناك على أمل غسل شهادتي المصنوعة في موسكو الشيوعية الحمراء بغسيل من الصابون القومي العربي في أمِّ الدنيا القاهرة. وهكذا بدأت رحلتي الثانية مجرجرا رغما عني برغبة الوالدين لأكمل الدكتوراة هناك وأغسل الحمرة عن شهادتي!!!
ودعت حبيبتي إلى مطار القاهرة بعد أن قضت معنا يومان, على أمل أن تتعارف المرأتان اللتان ستكونان محور حياتي القادمة وطيلة العمر, رمقت والدتي الحبيبة فاطمة بنظرات كلها شرر مملوءة خوفا وحذر على وليدها الذي تكاد هذه الغريبة أن تأخذه للأبد وكان قلبي تعتصره لوعة الحب وتتجاذبه الأماني بالزواج من طرف والدخول إلى الجامعة ودراسة الدكتوراة وتلقي صنوف العذاب على يد أساتذة لا أعلم عنهم شيئا من طرف آخر. وهكذا كانت بداية الطز الثانية.
الطز الثانية للدكتوراة لم تكن سريعة. قضيت الأربعة شهور التالية وأنا أتنقل بين دوائر شئوُن الطلبة والإتحاد الإشتراكي وجامعة القاهرة للحصول على قبول سريع لأن والدتي جلبت لي معها من بغداد توصية راقية من الدكتور محمد بن النحاس باشا الوزير السابق للتربية رسالة إلى عميد جامعة القاهرة محمد حلمي مراد (الذي أصبح وزيرا في حكومة السادات) ورسالة إلى وكيل وزارة التعليم العالي. وهكذا بدأت الرحلة بصحبة الوالدة, التي أصرت على المجيء معي لزيارة رئيس جامعة القاهرة.
دخلنا غرفة الرئيس وكانت عبارة عن صالون ضخم وأبهة بطول لا يقل عن عشرين مترا وعرض عشرة أمتار وسقف عال كسقوف الكنائس وليست كتلك الغرف لعمادات الجامعة البسيطة في موسكو, بعد إلقاء التحية والمجاملات العقيمة رحب بنا الرئيس وقدمت له الوالدة الرسالة من محمد باشا النحاس, بعدها أكلت أول بهدلة من رجل غريب, إلتفت لي العميد وقال بالحرف الواحد مش عيب عليك ياباشمهندس تتعب الماما معاك وتأتي بها إلى الجامعة وهي تعبانة وإنت راجل كبير!!!
أجبته بكلام رجل مكسور الجناحين ولا حول له ولا قوة أمام الوالدة التي لم يكن ليجاري جرأتها غيري أنا وبنفس العنجهية أجبته, إسألها هي لماذا أتت معي!!!
ضحك ثم حول أوراقي لإدارة الوافدين وعميد الهندسة للمتابعة. دخلت في دوامة البيروقراطية في مصر ومر شهر وإثنان وثلاثة وأنا أدور بين المؤسسات والدوائر في حلقات مفرغة وقاسية وشاقة ومُرَّة لأرجع يوميا إلى الشقة في العجوزة الدُرِّي وأنا منهك نفسيا وكان الأصدقاء العراقيين معي في السكن يواسونني مرة بالذهاب والسهر بصحبة البيرة الستيلا في كازينو قصر النيل مع عشاء إسكالوب من البتلُّو المصري وأخرى في جلسة كونكان مع عبد الرزاق العطار وصبري الموصلي وحسن الصراف وآخرون وثالثة بصحبة بنات الهوى (اللاتي لم أقربهن لا قبلاً ولا بعد ذلك في حياتي) في الشقة الفاخرة في شارع الدُرِّي بالعجوزة. ولم أستطع تحمل الإنتظار, إنتظار القبول والإنتظام في الدراسة التي بدأت بالفعل وإنتظار الحب والحبيبة فاطمتي!!
نفذ صبري وصار قلبي يدق بشدَّة كلما قَرُبَ موعد إنتهاء المهلة القانونية في تذكرة السفر التي حجزتها من موسكو ثم فجأة طَزَّيت بالكتوراة للمرَّة الثانية وهربت من الجامعة ومن أهلي وشددت الرحال إلى الكويت ليلتحق نصف قلبي ببقيته التي ذهبت قبلي إلى هناك.
نزلت من الطائرة مساء يوم من أيام تشرين الباردة وإلتيقت الحبيبة في المطار ورحت أحلم وأحلم برحلة جميلة طويلة, حلوة ومرَّة إمتدت للعمر كله. وهكذا إستلمت الدكتوراة الأولى بالحب مع فاطمتي وإختفيت من حياة والديَّ وعائلتي الكبيرة التي صارت تبحث عني في البلدان لتجد مستقري. أصيب والديَّ بخيبة أمل كبيرة لعصياني أوامر والدي لأول مرة في حياتي وتخطيطاتهم لحياتي المستقبلية, وعصيت وتمردت على أوامر الوالدة ووقفت ضد إرادتها وهي التي لا يمكن لأحد ما أن يقول لها كلا!!! ما عداي أنا.
الطز الثالثة للدكتوراة جاءت في عام 1972عندما عملت في إدارة المنطقة الصناعية في الشعيبة في الكويت وكنت مشرفا على قسم الصيانة للمباني والمنشآت الصناعية بعد رحيل المهندس المعماري المصري صبري (وكان لا يحمل الإختصاص الهندسي المطلوب). ومن ضمن مسؤوليات القسم إضافة للصيانة, كان عليَّ مراقبة الميناء الذي يُشَكُّ بتأثره وتحركه بحركة المد والجزر. وكنت أتابع الدراسة وأخذ القياسات بإنتظار لجنة من أستاذين للهندسة الأول بريطانياً والآخر أمريكيا للبت بها لإعطاءنا الحلول الهندسية الملائمة له ونطبقها.
فجأة مات البروفيسور البريطاني وبقي البروفيسور جورج أوستربيرگ السويدي الأمريكي وكان يرأس قسم الهيدرولوجيا (علم المنشآت المائية) بالإضافة إلى عمادة كلية الهندسة في جامعة (نورث ويسترن) في بوسطن ماساتسوتش.
معلومات عن الجامعة: تأسست جامعة الشمال الشرقى Northeastern University كجامعة خاصة في بوسطن، ماساتشوستس؛ في عام 1898. تقدم الجامعة مجموعة من البرامج الدراسية الجامعية وبرامج الدراسات العليا والدكتوراه. وتنقسم البرامج الأكاديمية بين عدة كليات، مثل كلية بوفيه للعلوم الصحية، وكلية الآداب والعلوم، وكلية إدارة الأعمال، وكلية علوم الحاسب الآلي، وكلية العدالة الجنائية، وكلية الهندسة، وكلية القانون، إضافة إلى كلية الدراسات الفنية وكلية الريادة التكنولوجية.
حضَّرت المعلومات التي قمت بها خلال الشهور القليلة التي سبقت حضورالبروفسور أوستربيرج وأعجب بالقياسات التي أُخذت للموقع وبجرأتي في قوة الطرح والبحث الذي قمت به إضافة لما كان مطلوبا. ثم طلب مني إثبات ما أدعيه.
أخذته في يوم قائض ورطب من أيام أيلول وذهبنا في نزهة عمل بحرية لمدة يوم كامل كنا نعصر فيه ملابسنا من شدة الحر والتعرق الذي أصابنا أنا والبروفيسور المسكين ذي الإثنان والستين عاما إلى أن إقتنع بوجهة نظري التي ذكرتها بالتقارير. في اليوم التالي فوجئت به أثناء الإجتماع وقد أعلن فشل الدراسات السابقة وبعد التأكد من طرحي أقر به وطلب من وكيل الوزارة المساعد (سليمان خالد الحمد) بأن أصحبه إلى الدنمارك لتقديم البيانات والنتائج الختامية للبحث لمصمم الميناء (شركة كامبساكس) وغلق الموضوع ووافقت الوزارة على عجل بإيفادي مع البروفيسور وأنا مثل الأطرش بالزفة لا أعلم لماذا قرر أخذي معه؟؟؟
ركبنا الطائرة المتجهة إلى كوبنهاجن والبروفيسور يحدثني عن كلية الهندسة والدكتوراة والحياة والعمل في الحرم الجامعي. فجأة نظر إلي وقال: ليث, هل ترغب بإنهاء دراستك في الدكتوراة؟؟ سأعطيك مقعداً دراسيا لإنهاء الدكتوراة مع منحة حكومية أمريكية.
نعم بودي كان جوابي سريعا, و جالت في رأسي أسئلة كثيرة, أين القبول والموارد المالية وماذا سيكون رد فعل حبيبتي أم العيال وإبنتي الصغيرة لبيبة التي بلغت الثلاث سنوات من العمر؟؟
كان كعسكري محنك, حاصرني من كافة الجوانب وأخذ ينصب الشباك الواحدة تلو الأخرى بطرق عجيبة وعلى مدار عشر ساعات والحديث يدور ويرجع حول الدكتوراة,. شرح لي كيف سيضمن الفيزا من لندن فورا ويحصل القبول للدراسة في الجامعة وكيف سيعفيني من إمتحان التوفل و أخيرا قال لي : لقد تركنا إبني أنا
وزوجتي وذهب للعيش بمفرده وبقيت وزوجتي بدون ولد يؤنس وحدتنا وبما أنك شاب, أقترح عليك القدوم معي إلى إمريكا والعيش معي في بيتي كإبن لي!!! ماذا عن عائلتي الصغيرة ؟؟
أنت وعائلتك تستطيع العيش معنا في البيت الكبير. كيف أستطيع أن أقرر مصير عائلتي بدون إستشارة؟؟ كيف أهرب من العمل؟ ماذا سأقول لفاطمتي بعد أن شقيت كثيرا عرقا وجهدا للوصول للوظيفة المرموقة؟؟ مئات من الأفكار والأسئلة تدور في مخي بسرعة البرق ولا أجد لها جوابا آنيا شافيا.
أخيراً طرأت علي فكرة المماطلة, حتى أستطيع إقناع فاطمة والإستقالة من الوظيفة واللحاق به فسألته وماذا عن أخلاق المهنة وكيف سأترك رؤسائي الذين رعوني في الكويت وأترك الوظيفة هربا وبدون إعلام ووو العديد من الأسئلة التعجيزية.
أمامك يومان لتفكر. خذها أو لا!!! لكنك ستندم على ذكر أخلاق المهنة, وقد ندمت بعد عامين لأني طزيت بالدكتوراة المرة الثالثة.
الطز الرابعة بالدكتوراة.
جاء عام 1974 وذهبنا كالعادة للمعالجة والتصييف في لندن مع فاطمتي ولبيبة الصغيرة, وجاء لزيارتي من سوانزي صديقي وأخي عباس الصائغ, وكان يحضر للدكتوراة في جامعة سوانزي بويلز البريطانية وأخذني مع الأهل لرؤية مقاطعة ويلز والعاصمة كارديف والمدن والريف الخلاب وصحبنا إلى مباني الجامعة ورغبت بزيارة القسم المدني والتعرف إلناس هناك عسى أن تحصل لي فرصة جديدة لدراسة الدكتوراة !!! بعد إنتظار ساعات طويلة أمام مكتب رئيس قسم الأبحاث والدراسات المدنية ولأن جدول البروفيسور مشحونا للشهر القادم كله أقنعت السكرتيرة بعنادي العراقي بأن تخبر البروفيسور بطلب مقابلة عاجلة!!!
قالت لي بعد إستشارة البروفيسور, خمسة دقائق فقط! وافقت فورا وقدمت نفسي للأستاذ وبقيت واقفا فطلب مني الجلوس وصرنا نتحدث والسكرتيرة تروح وتغدو ونحن نتحدث ونتسامر ومرت ساعتان وأنا اقول له بأن السكريرة أعطتني بكل صرامة خمسة دقائق ويمدد لي وهو يضحك!! أخيرا إتفقت معه بأن الدكتوراة يجب أن تكون مع قسم آخر وليس عنده لأنه إختصاصي في علم تحليل العناصر المنتهية وهي طريقة تحليل عددي لإيجاد حلول تقريبية للمعادلات التفاضلية الجزئية بالإضافة إلى الحلول التكاملية والتي كان هو مخترعها قبل أن يهاجر من بولندا.
طلبت منه أخيرا وبكلمات مباشرة بأن يطلب من رئيس قسم الهندسة الصناعية مقابلتي بالواسطة, بعد أن توثقت علاقتي الشخصية معه وصرنا نتبادل القفشات والمزاح, والسكرتيرة كانت ستنفجر من الغضب , كيف أصبحت الخمس دقائق أكثر من ساعتين بعدئذ يتوسط لي لدى قسم آخر وأبقى معهم للسادسة مساء الذين ألقيت عليهم قنبلة من العيار الثقيل وطرحت عليهم أفكاري وقلت لهم بكامل العنجهية العراقية الروسية المزدوجة وطلبت منهم أن يعطوني منحة دراسية مجانية لأرسل لهم بالمراسلة البحوث التي أقوم عليها بالتخطيط لتوسعة منطقة الشعيبة الصناعية والموانئ التابعة لها في الكويت. وكنت أطبق المثل الكويتي طرار ويتشرَّط!!! والعراقي - هَمْ نِزِل وهم يدبچ فوق السطح !! بالطبع جوابهم فوراً كان بكل عنجهية الإنكليز, كلا . أعطيتهم مهلة ليتصلوا بي تلفونيا إن غيروا رأيهم!!! ولم أسمع منهم أبدا أي جواب. وهكذا كان الطز بالدكتوراة للمرة الرابعة.
الطز الخامسة للدكتوراة:
بقيت مسألة الدكتوراة تؤرقني بين الحين والآخر لعدة أعوام وأخيرا في عام 1975 قررت نهائيا العودة لسوانزي لألتحق مع صديقي عباس وأنهي هذه الملعونة شهادة الدكتوراة.
وقبل مدة كتبت هذه الرسالة لشاب عزيز طلب إستشارتي حول دراسة الدكتوراة في روسيا.
عزيزي, شهادة الدكتوراة هذه الأيام مهمة جداً وتفتح أبواب كثيرة أمام المهندس والباحث الذي يريد التقدم في العلم والرقي في المكانة الإجتماعية.
وهاك واحدة من رحلاتي مع الدكتوراة أحدثك عنها علَّك تستفيد!
في يوم من الأيام دق الناقوس في رأسي للعودة لقضية الدكتوراة فزرت الصديق العزيز (المهندس براك المنديل رحمه الله) ودخلت عليه في مكتبه في شركة الفيافي في الكويت وبعد تبادلنا التحايا والترحيب العراقي البصراوي المعهود, شربت القهوة وأخبرته بأنني جئت لأستشيره في موضوع مهم وسألته:
براك أنت عندك ماجستير من بريطانيا وناجح في عملك ولديك شركة مقاولات وتدرِّس في المدارس التكنولوجية في الكويت أتوجه لك بسؤال: هل تنصحني بتحصيل شهادة الدكتوراة في سوانزي؟؟؟ وقد كنت مزمعا الذهاب إلى هناك وأدخل في بحث دكتوراة وأحصل على الشهادة, خاصة وقد فاتتني عدة فرص أتيحت لي ولم أستغلها في التوجه نحو البحث العلمي وتحصيل شهادة أعلى من الماجستير.
إستعدل براك في جلسته وبعد صفنة قصيرة قال لي سؤالك قيِّم ويحتاج إلى تفكير حتى أرد عليك!!! وسكت مرة ثانية لثوان أحسست بأنها ساعات وتنهد وصاح بصوت عالٍ: أنجيلا (سكرتيرته) التي فتحت الباب بسرعة كأنها تنتظر اللحظة التي سيناديها وأطلت برأسها الهندي الدقيق الملامح وقالت له نعم سيد براك؟؟
قال لها بجديته المصطنعة والمعهودة (وهو يرتل بالراء) بأن تنادي الدكتور عبد المعطي مَرَقَة وكان يعمل لديه كمدير في أحد المشاريع المهمة بتمديد كوابل الكهرباء.
حاضر سيدي أجابته بسرعة أنجيلا وسدت باب الغرفة علينا.
ظل براك مطرقا ولم يتفوه بكلمة وكأنه يستجمع أفكاره كعادته ولم أكن لأريد أن أقطع عليه تفكيره.
طُرق الباب فأجاب براك , أدخل, وأطل من فتحة الباب الدكتور عبد المعطي وسأل, نعم سيد براك؟
رفع رأسه وسأله عن المشاريع وتنفيذها والمشاكل وعديد من الأسئلة التي تتعلق بالمشروع وكان الدكتور عبد المعطي يجيبه وبسرعة وبكل دقة في التفاصيل التي سأل عنها وفجأة قال له براك, شكرا دكتور يمكنك الذهاب ولطفا أغلق الباب خلفك. ذهب الدكتورعبد المعطي وقهقهت بصوت عال وقلت له براك, وصلت الرسالة!!!
فتعجب من سرعة البديهة لدي ووسألني ماذا إفتهمت؟؟
قلت له بإمكان رجل الأعمال الناجح أن يبرز ويُشَغِّل عدة أشخاص من حملة الدكتوراة إذا كان بالفعل ناجحاً بإدارة عمله وليس بسبب شهادته.
أشكرك يا عزيزي براك, وخرجت من مكتبه وأنا أكرر في نفسي طز بالدكتوراة لخامس مرة !!!
ولكن !!!! هل كنت محقا بجوابي ؟؟؟ أعتقد الآن كلا ثم كلا. لأنني تندمت وتندمت مرات كثيرة بعدها, ولهذا تكملة في مقال آخر.
رجل الأعمال الناجح لإستطاعته وتمكنه من إدارة العمل بصورة خلَّاقة و يكون مختصاُ بإدارة الأعمال بالإضافة لشهادته الهندسية. بينما الدكتور المهندس الناجح موظف يعمل لدى رجال الأعمال الناجحين لتطوير العمل والرقي بمواصفاته وحسن تنفيذه وفائدته للمجتمع, والأفضل أن تتعلم كيف تكون دكتور في إدارة الأعمال وتصبح رجلا ودكتورا ناجحا وقادرا على إدارة مجموعة من الدكاترة المهندسين, وإذا لم تستطع ذلك فأمامك الطريق لأن تكون دكتور مهندس تعمل في ألأبحاث وتخدم العلم ورجال الأعمال الناجحين الآخرين.
أما عن نفسي فقد بقيت مهندسا ناجحا في عملي لدى رجال الأعمال الآخرين ولم تعطني هذه (الخبرة والعلم والأمان والإخلاص) من المال أكثر مما أعطاني
هؤلاء الرجال أصحاب العمل, بل أقول بكل ثقة لقد أخذ مني أصحاب رؤوس الأموال كل الأرباح التي حققتها بنجاحاتي!!!
ياولدي لك أن تختار ما تستطيع أن تعمل لصالح المجتمع وتؤدي رسالة للوطن وليس كما يريد لك الآخرون مهما كانوا من المحبين.
لا تنسى مصاريف الدراسة في الوقت الحاضر ومن أين تأتي وكيف؟؟؟ ولك أن تقرر بنفسك وبدون ضغوط من آخرين.
الطز السادسة والأخيرة بالدكتوراة.
كنا في الكويت حينها و قبل أحداث إحتلال نظام هدام إحتلال الكويت, إقترح علي العزيز ثامر أبو حيدر العبيدي المشاركة معهم في العمل على بناء الديوان الأميري وبدأت عملي الجديد ضمن طاقم الإشراف على المباني المصنعة (البريكاست) وكنت أؤدي الواجب بطريقة حسنة وأخطط للقادم من الحياة بعد أن أخذت الهجرة إلى كندا منذ عامين ليأسي من عراق البعثفاشية.
أيقظتني فاطمتي مذعورة وهزتني تريد إفاقتي من النوم فجر ذات يوم أسود وقالت لي لقد هجم نظام هدام العراق علينا. هجم الحثالة فجر اليوم وأطاحوا بكل ما كان للعراق من آمال لبناء مستقبل بعد حرب الثماني سنوات ضد جيراننا الإيرانيين. ما العمل وكيف وأين المفر الآن؟ أسئلة كثيرة جالت ببالي في الدقائق اللاحقة وكنت أبحث عن إجابات في عقلي لوحدي وهدير القنابل والقذائف تدوي من قصر الأمير القريب من بيتنا, وبدون إستشارة أحد خاصة فاطمتي قررت الرحيل بكلمة واحدة وحازمة. أخذت كافة الوثائق والجوازات وما خف حمله وغلا ثمنه وحملت خالتي أم فاطمة المقعدة الله يرحمها على ظهري ونزلت لسيارتي وهربت إلى بيت أقاربي في السالمية إبتعادا عن مسكني الذي يعرفه رجال السلطة العراقية. ثم تنقلت من بيت لآخر وأخيرا وصلت بغداد وغادرتها في 9-10- 1990 بالطائرة إلى كندا عبر عمان.عانينا في الفترة القصيرة الأولى من شظف العيش على الإعانات قررت بعدها محاولة صبغ شهادتي الجامعية مرة أخرى بصبغة كندية لأستطيع العوم في بحر من الإنكليز وفي بلادهم.
إتصل بي صديقي وزميلي الدكتور سعد عبد السلام وهو يبحث عني ونصحني بمراجعة زميل له كان في الجامعة في إنكلترة حيث درسوا معا للدكتوراة في لفبرة. وهكذا بناء على نصيحتهم دخلت جامعة كونكورديا لدراسة الدكتوراة عام 1992 ولي من العمر ثمانية وأربعون عام.
بدأت الدراسة في الكورسات الأولية ثم إنتقلت إلى البحث في قوانين العمل في شمال أمريكا وكان يلقي علينا المحاضرات مهندس ظليع بإدارة المشاريع من أصل إيطالي, إسمه بريمياني ويعمل بإدارة أحد أكبر المشاريع في حينها في مونتريال (1000 شارع لوغاشيتير).
أحدى أساسيات الدراسة في الجامعة هو البحث العلمي وهكذا طلب بريمياني من الدارسين أن يعملوا بحثا عن خسران ساعات العمل من جراء الإضرابات في العالم الأمريكي. فشمرت عن ساعدي وتحركت بكل نشاط وحيوية للعمل على هذا البحث الهام بالنسبة لموضوع إدارة الأعمال الهندسية والبناء. طرقت أبواب المؤسسات والهيئات الحكومية والأهلية وآرشيف الحكومة والجرائد المحلية والعالمية وكتبت البحث في أكثر من سبعين صفحة من القطع الكبير وقدمته للأستاذ مع باقي الطلبة وبعد كم يوم جاء بريمياني للصف وأعلن نتائج الدرجات وأعطى كل طالب بحثه لمعرفة نقاط القوة والضعف وأخذ الملاحظات ما عدا بحثي الذي لم يسلمه لي ولم أسأل عنه لإعتقادي بخلوه من الأخطاء خاصة وإن النتيجة كانت النجاح.
بعد إنتهاء الدرس طلب مني بريمياني البقاء وسألني بعد خروج الطلبة, لماذا لم تسألني عن بحثك؟؟ فقلت له مادار بخلدي لأنني أديت واجبي بكل دقة وبحثي كان شبه كامل, ولكنه طلب مني زيارته في موقع العمل في اليوم التالي للإطلاع على البحث وملاحظاته. بدا طلبه لي هذا غريبا جدا!!! في اليوم التالي ذهبت إليه في مقر عمله وكان موقعا ضخما بكل معنى الكلمة ودار بي في المشروع وأطلعني على الكثير من تفاصيله وأخيرا في أحد الأدوار وصلنا إلى مكتبه الفخم حيث جلسنا وناولني البحث وعليه علامة النجاح بملاحظات لغوية بسيطة وقال لي. إذا أردت أن تنهي دراستك وتحصل على الشهادة فيجب عليك الإبتعاد عن مثل هذه البحوث لأنها تجيب الأجل. ولم يشأ أن يرجع البحث إلى الجامعة كيلا يسبب لي الأذى من إخواني في الوطن الجديد (الأنكلوسكسون) حيث طعنت بهم وبقوانينهم وسياساتهم وكل خصائصهم غير العلمية من واقع أرقامهم وجرائدهم وأرشيفاتهم التي كانوا وما زالوا يحكمون العالم كله بقوتهم وهم يطالبون بالمزيد من حكوماتهم على حساب الشعوب الأخرى. وخرجت بنتائج تقول إن معدل الساعات المفقودة للعامل الإنكليزي هي الأعلى في العالم ويليه الإيطالي ثم ثم ثم وأخيرا الألماني والياباني (صفر بالمائة). بسبب النزعة الكولونيالية الإستعمارية بكافة أشكالها والغرور الأنكلوسكسوني التي إستمر للقرنين الماضيين جعلت من العمال الأنكلوسكسون (بريطانيا وأمريكا وكندا وأستراليا وجنوب أفريقيا وآخرهم أقلهم نيوزيلندا) أكسل عمال في العالم وأكثرهم مطالبة وإضراب بين عمال العالم الآخرين.
بناء على هذه النتائج أعلنت الطز الأخيرة في الدكتوراة وقررت محاربة الإستعمار والهيمنة الأنكلوسكسونية في العالم إلى آخر العمر.
كنت أسترق السمع مرة بينما كان أبي يتجادل بصوت عنيف مخنوق مع أمي رحمهما الله, كلما كان في الأمر شيئا لايجب أن يعرفه الأولاد وعندما يحتد الأمر و كانت أمي تتخذ قراراتها عاطفيا بينما أبي عقلانيا, وأخيرا سمعتة يقول لها بصوت فيه عزيمة وإصرار وبقوَّة وصلابة : لن أبقيه في العراق لأنه سيموت بسبب طول لسانه وآرائه اليسارية بل سأرسله إلى روسيا مع من يحب أن يكون ليعيش ويتعلم ويعقل بدلا من أن يموت في الشارع برصاص البعثيين. وهكذا أرسلني الوالد الحبيب إلى موسكو و تحققت نبوءته بالبعثفاشية وإستيلائهم على مقدرات العراق وبأنني سأصبح مهندس لأعيش وأترزق ولكنه لم يكن ليحزر بأنني سأظل أحارب الظلم السياسي إلى نهاية عمري بدون خوف من العواقب الوخيمة وقلة الراحة وفقدان شهادة الدكتوراة ستة مرات.
(( اللهم اجعل أمـَي وأبي ممن تقول لهما النار: {أعبرا فإن نوركما أطفا نــاري }
وتقول لهما الجنه : { أقبلا فقد اشتقت إليكما قبل ان أراكما }
اللهم رب إعفُ عني وعافني وأرزقني وإجبرني وأسترني إنك خير الرازقين.
872 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع