أ.د. سيّار الجميل
حكومة مؤّقتة في العراق .. أيّ مهمّات وممكنات
من أغرب المشاهد التلفزيونية المثيرة أنّ المسؤولين العراقيين قاطبة يخافون جدّاً على أنفسهم من عدوى كورونا، فتجدهم دوماً وهم بأقنعتهم وقفازاتهم البلاستيكية، نسوةً ورجالاً، وكأنّ الموت سيتخطّفهم بتأثير الفيروس واحداً بعد الآخر. ولكن غباءهم مفرط، بحيث يجالسون بعضهم ويتصافحون ويتعانقون، وكأنّهم في مشهد عرسٍ هزلي مثير للسخرية. تماماً كما جرى في مسرحية ترشيح ثلاثة للوزارة رفضوا على التوالي، ثم خضعوا لإرادة خارجية بتنصيب رئيس وزراء مؤقت، ليكمل مع حكومته الشوط المتبقي من الدورة الحكومية حتى الانتخابات المقبلة.
بعد خمسة أشهر تقريباً من استقالة عادل عبد المهدي من رئاسة الوزارة، وشغور في السلطة وتقلّب الأدوار، شكّل العراقيون حكومة مؤقتة في يومي 6 و7 مايو/أيار الجاري. وأمام النواب المضحك منظرُهم بظهورهم ملثّمين جميعهم مع قفّازاتهم الملوّنة، ورعبهم من الفيروس التاجي، أدّى رئيس المخابرات العراقية السابق، مصطفى الكاظمي (53 سنة)، اليمين الدستورية، مع 15 وزيراً، ومنح البرلمان الثقة لحكومةٍ غير مكتملة كالعادة، حيث تواجه البلاد واحدة من أخطر الأزمات في تاريخها. وهي تأتي مع انهيار أسعار النفط، وبالتالي انخفاض إيرادات الدولة،إلى إعادة الهجمات اليومية من خلايا تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الخفية تحت الأرض، ولا يجد التوتر نفسه غائبا عن النظام سوى غطاء مقصود على الانتفاضة الشعبية التي بدأت في 1 أكتوبر/تشرين الأول 2019، وما زالت جمراً تحت الرماد، ولكنها فقدت بريقها، مع نسيان مئات الشهداء وآلاف الجرحى والمعوّقين.
ولكن مع خفوت أصواتٍ عارضت تنصيبه بحجّة موالاته الأميركان تحدّياً من الفصائل المدعومة من إيران، وهدّدت باستخدام النار ضدّه، كونه (شريك) الأميركان في تدبير مقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، وصاحبه قائد "الحشد الشعبي"، أبو مهدي المهندس، في 3 يناير/كانون الثاني الماضي، كما تبجّح آخرون قائلين إنه يتقدّم إلى دور محكوم عليه بالفشل، ولكنهم، في النهاية، رضخوا جميعاً بعد زيارة خاطفة قام بها القائد الجديد لفيلق القدس، إسماعيل قاآني، إلى بغداد، ليحسم الموقف على رقعة الشطرنج.
وعليه، لا أحد حتى الآن يفهم النقطة الأكثر صعوبة، والقائلة كيف اكتسب الكاظمي ثقة طهران وحلفائها في بغداد فجأة، خصوصاً الذين اتهموه بأنه "عميل لوكالة المخابرات المركزية الأميركية"، وأنه كان (شريكًا) في الاغتيال الأميركي للجنرال سليماني. وعليه، من المحتمل أنه أعطى ضماناتٍ لإيران التي تعرف أنها لا تستطيع إدارة العراق بمفردها، لكنها ترفض تسليم البلاد إلى الولايات المتحدة. وعليه ، فالكاظمي ليس رجل امريكا في العراق ، بل هو حلقة في سلسلة رؤساء حكومات اتت بهم ايران لخدمة مصالحها . ان الأمل مفتقد في إن شراكة إيرانية أميركية في إدارة الشؤون العراقية ستفتح أمام إيران مستقبل تجسير لعلاقات مستقبلية!
أما سوق المناصب وشراؤها في العراق، فلم ينته مادياً أو وصولياً أو محاصصياً لكلّ من الثلاثة، محمد علاوي أو عدنان الزرفي ثم مصطفى الكاظمي الذي لاقى – كما أشيع - مباركةً من وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو !! وقد اشيع انه لأول مرة لقي ترحيبا من مجلس الأمن (!)، علما بأن الاميركان لا دخل لهم في ما حصل . فهل سيتمكّن الرجل من إنجاز توحيد فسيفساء السياسة العراقية باسمه، أو تخرج من ظل عباءته؟ انني اشّك في ذلك ، فالعراق غدا رقعة شطرنج تلعب عليها إيران وأميركا، ويبقى هذا البلد المسكين يعيش المأزق الكامل مع نفسه، كي يبقى الشريكان يلعبان على أرضه لصالحهما او لتصفية حساباتهما . ولا أحد منهما لديه مصلحة في تغيير المسار لصالح العراق، خصوصاً وأن ترك الوضع العراقي يتعفّن هو أفضل من المخاطرة بانفجارٍ لا يمكن السيطرة عليه، وهما يدركان حدّة الانقسام الاجتماعي في العراق بين التي أسموها المكوّنات الثلاثة أولاً، وتفاهة الطبقة السياسية العراقية التي تقبض على أنفاس العراق ثانياً!
ليس هؤلاء الثلاثة وحدهم الذين سعوا من أجل الفوز بالمنصب، فهناك عراقيون كثيرون طموحون متغوّلون وحالمون بتسلّم السلطة، وهي سلطة مهترئة تتحكّم فيها قوى متوحّشة. أغلب العراقيين يعوّلون، في كلّ مرّة، للأسف، على رئيس وزراء جديد، كي ينقذهم ويوصل العراق إلى برّ الأمان باجراء تغيير حقيقي ، ولكن الشعب متوهّم أشدّ التوهّم، فالحكومة الجديدة مؤقتة، وحتى إن كانت دائمة تبقى محتكَرة الإرادة، لأنها أضعف من القوى العميقة المسيطرة على مقدّرات العراق ، ولا مناص من تمّسح رئيس الوزراء بها . ولا يمكن للحكومة أن تفعل شيئاً أو تقرّر شيئاً إلّا من خلال موافقة البرلمان الذي تسيطر عليه تلك القوى، فأيّ تغيير يمكن حدوثه وأيّ إصلاح يمكن إجراؤه؟ كلّ ما نسمعه من تصريحات وقرارات لا يمكنها إلغاء ما صدر من قوانين تشريعية، فالقانون لا يلغى إلّا بقانون، فكلّ ما سمعناه هراء ما لم يلغه البرلمان، فأما الحكومة لا تعرف القانون، أو أنها تضحك على شعبها.
المهمّة الأساسية التي على الحكومة التخطيط لها إعداد انتخابات "نزيهة وشفافة" في الأشهر المقبلة، وتلك مهمّة عويصة لمرحلة أربع سنوات. يواجه رئيس الوزراء الجديد مهمّات خطيرة، فهو يواجه دفع رواتب ستة ملايين موظف في الدولة، مع انخفاض في الميزانية بمقدار الثلثين، ومن المرجح استئناف إجراءات التقشف، واللجوء إلى القروض، وتحميل العراق أثقالاً أخرى.. علماً أن حكومته نشرت وثيقة من ست صفحات تشرح فيها بالتفصيل "برنامجها"، حيث يتصدر تنظيم الانتخابات "الصادقة والشفافية" قائمة الأولويات، فما الذي يمكن أن تفعله حكومته مع مفوضية انتخابات مخترقة من القوى الشريرة وغير نزيهة على الإطلاق؟
ويبدو أن "البرنامج" المقدم مجرد كليشيه أصبحت مبتذلة، لكي يطمئن الشعب إلى مصداقية واهية، فكيف يمكن للحكومة المؤقتة أن تلتزم بـ"تقوية سلطة الدولة"، والحدّ من امتلاك الأسلحة "للمؤسسات الحكومية والعسكرية" فقط، وهي تدرك أنّ المليشيات المتوحشة منفلتة عن سيطرتها. وما فائدة وعد منها بتوظيف "حوار وطني صريح ومسؤول مع جميع مكونات المجتمع للاستجابة لمطالب حركة الاحتجاج السلمي". ذلك تخدير كاف ما دامت الحكومة مقيّدة في إجراءاتها، وليس باستطاعتها أن تقبض على الدولة العميقة، وتحيل حيتان الفساد إلى القضاء!
لا تطلب هذه المقالة من مصطفى الكاظمي المستحيل بوصفه رئيس وزراء مؤقتاً، ولكن لابدّ أن تكون حساباته دقيقة، وأن يمتلك مصداقية لكشف البضاعة على الناس، وأن يكون أكثر حذاقة في فهم الحدث وصنعه، ولا يشبعنا مجرد كلام مليئ بالاخطاء إن أراد التغيير الحقيقي. وعليه أن يكون في مسار من نوع آخر، أي ندّاً للبرلمان والمفوضية العليا والقوى الشريرة . الخطوات التي يعتقد أنها جيدة لا يمكن إصدارها إلّا بقانون، ولا يتم إلغاؤها إلا بقانون، وهو ليس قادراً على إصدار قوانين، فتلك مهمّة البرلمان، فكيف سيشتغل إذن؟ المعادلة أكبر منه، فقوى شريرة في الداخل بدأ يداهنها ، وهي مرتبطة مع بعضها لن تسمح للكاظمي بالتحرّك، إلّا إن ضربها ليغدو "صنديداً". السؤال: هل باستطاعته القيام بذلك من دون شيطنة أميركية؟
1031 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع