زينب حفني
رواية (مجنون الحُكْم) كتبها المفكّر والأديب المغربي (بنسالم حمِّيش) وزير الثقافة سابقاً، وهي رواية جميلة خرجت في حلّة جديدة العام الماضي، وتمّ تصنيفها ضمن أفضل الروايات المائة بالقرن العشرين.
هذه الرواية تتحدّث عن مصر إبّان حكم (الحاكم بأمر الله الفاطمي)، ومن يقرأ فصولها يشعر كأنّ التاريخ يُعيد نفسه على يد مخرج مبدع بإخراج مختلف وأبطال مغايرين وزمن آخر!
الفصل الأول يبدأ بعبارة للمقريزي «..كانت سيرة أبو علي منصور الملقّب الحاكم بأمر الله من أعجب السير. كان يشتغل بعلوم الأوائل وينظر في النجوم وعمل رصداً وأتخذ بيتاً في المقطم ينقطع فيه عن الناس. ويُقال إنه كان يعتريه جفاف في دماغه لذلك كثر تناقضه...».
يتحدّث الراوي عن شطحات الحاكم بأمر الله، وكيف أمر بقتل الكلاب الضالة ما عدا المستخدمة في الصيد، لأنّ صوت نباحها يُزعجه. كما قام في السنة الثالثة من حكمه بتشريع العمل ليلاً والنوم نهاراً، ومنع التجوال في المدينة بعد طلوع الشمس أو التجمّع خارج البيوتات وتلويث خلاء الطرقات.
في السنة الثامنة، أصدر الأمر لدعاته بسب السلف وكتابة السب على الأبواب والحيطان وعلى المقابر. كما أمر بهدم مسجد عمرو بن العاص بالإسكندرية. وفي السنة التاسعة، نهى المصريين عن أكل الملوخيّة والجرجير بحجة أنّها تهمّد الأبدان! وفي السنة الثالثة عشرة من حكمه، أمر بهدم كنيسة القيامة ببيت المقدس وكنائس أخرى بمصر والشام، بحجة أن الصلبان تكاثرت وتعدد حاملوها، وأمر بوضع علامة على جسد كل نصراني ويهودي، معلناً بأنّ لا تعايش مع الأديان الأخرى.
الفصل الثاني، يتحدّث الراوي عن مرض (المانخوليا) الذي كان يُعاني منه الحاكم بأمر الله، وما كان يُصاحب مرضه من تشنّج وسوء مزاج وغرائب في تصرفاته، واضطراره إلى الجلوس في دهن البنفسج ليُخفف من جفاف دماغه!
الفصل الثالث، يتحدّث عن الإمام أبي ركوة الذي تعود أصوله لعرب قرطبة الأندلسية، وكان قد خرج مع جيشه للقضاء على الحاكم بأمر الله إلا أنه قُتل بنهاية الأمر. وقد ترك أبو ركوة وصية مكتوبة لقومه يقول لهم فيها"... إن شاهدتم عنف الطغاة في حاضركم تهيم في تجاويف الظلام، ورأيتم الناس في الأصقاع مغلوبة على أمرها، يخرجون من سجن ويدخلون آخر، ورأيتم مصرع الفقير والثائر، فلا تنهاروا. لا تُقيّدوا أنفسكم في طرق الحيرة ولا في فيالق الفتك والطغيان...».
بالفصل الرابع، يحكي الراوي كيف أمر الحاكم بأمر الله قادة بضرب مصر ونهبها وقتل من ظفروا به من أهلها نكاية بهم، حيث كان المصريون بالسنة الأخيرة من حياة هذا الحاكم قد بلغوا شوطاً قياسيّاً في التهكّم والاستهزاء به، وصاروا يتبادلون في الدور ومن فوق الأسطح البطاقات بالآلاف، ويملأون الجدران والبوابات بالملصقات، وكلها تتنافس أساليب بلاغتها وبيانها في الدعاء على الحاكم والقدح فيه.
أهل مصر، سمّوا مقاومتهم للحاكم بالمقاومة الساخرة، القائمة على التصدّي والانعتاق. وكان الحاكم بأمر الله يستشيط غضباً من تصرفاتهم، فيصرخ قائلاً «يا شعب الدف و«المدمّس». بحق من ولاّني الملك، لن أعجز عنك.. . إن كنتَ تطعن في مهابتي، فسترى على حد سيفي نسبي، وفي كنوزي حسبي...».
الحاكم بأمر الله قُتل بتدبير من أخته (ست الملك) التي كانت تقف على النقيض من أفعاله الجنونية. لقد بيّنت قصّة هذا الحاكم الجائر بالدليل القاطع، أن مصر مرّ عليها الكثير من الطغاة، وحاولوا أن يحكموها بالحديد والنار فجاءت نهاياتهم مأساوية. إنّ التاريخ كان عادلاً، وكتب بحروف سوداء نهاية حاكم استهان بقدرة شعب فهبَّ واقفاً بعد أن طال تجرعه لكؤوس الاستبداد.
1453 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع